Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!
11

المقتضب

قال الخليل : سمى بذلك لأنه اقتضب من الشعر ، أى اقتطع منه . وقيل لأنه اقتضب من المنسرح.

وأصل بنائه على الدائرة على ستة أجزاء :

مفعولاتُ-مستفعلن-مستفعلن ... فى كل شطر .

ولم يذكر له العروضيون سوى عروض واحدة مطوية مجزوءة وضرب واحد مطوى مجزوء مثلها . ومثاله:

أقبلت فلاح لها عارضان كالبرد

وتقطيعه :

أقبلت فـ-لاح لها-عارضان-كلبردى

/ه//ه/-/ه///ه-/ه//ه/-/ه///ه

فاعلاتُ-مفتعلن-فاعلاتُ-مفتعلن

هذا ما عليه العروضيون ، لكن حازماً قد غيَّر فى تجزئة هذا البحر تغييراً تاماً ، حيث جعله على : فاعلن-مفاعلتن-فاعلن-مفاعلتن ... فى كل شطر ، لكنه يرى أن هذا ثقيل ، "لكثرة الأوتاد والأسباب الثقيلة وتكرر الفاصلة ووقوعها فى النهايات ... فلهذا لم يستعملوه إلا منصوفاً ، أى محذوف النصف فى كل شطر.

وحازم -كعادته- يريد أن يفرض هذه التجزئة الجديدة للمقتضب عن طريق الأدلة النابعة من التذوق البلاغي : "فهذا -الاشتقاق- هو الصحيح الذى يشهد به السماع والقياس والقوانين البلاغية"، ويدلل حازم على ذلك بالأدلة الآتية :

1. الدليل الأول : يقوم على "أنهم لم يوقعوا الوتد المفروق ولا السبب الثقيل فى نهاية جزء ... لأن قانونهم ألا يضعوا الثقيل فى النهايات ولا سيما فى أواخر الأجزاء التى هى مظان اعتمادات وتوقرات وتقاطع أنفاس بوقفات خفية أو بينة".

ولعل أغلب التغييرات التى أحدثها حازم فى اشتقاق بعض البحور تقوم على رفضه وقوع الوتد المفروق أو السبب الثقيل فى نهايات الأجزاء ، فضلاً عن نهايات الأشطر ، وهذا رأى سديد من حازم فنهايات الأجزاء هى موضع وقفات وأماكن اعتماد لا يمكن أن تكون متحركة ، لأن فى ذلك صعوبة فى النطق والانشاء ، وحازم بهذه التجزئة الجديدة للمقتضب تخلص من هذه النقطة .

2. أن اشتقاق العروضيين لهذا البحر يجعل الزحاف لازما فى حشوه ، والواقع والعقل هنا يساندان حازما ، فالواقع هو ما عليه حازم فى اشتقاقه الجديد ، فليس من العقل العدول عنه إلى اشتقاق العروضيين الذى يقوم على التزام بعض الزحافات والتى يقول عنها العروضيون أنها لا تلزم إلا فى الأعاريض أو الضروب بغرض تنويعها .

3. أن هذا الاشتقاق الذى عليه العروضيون لا يراعى قوانين التناسب والتضارع الذى وضعها حازم طبقاً للقوانين البلاغية والتى خصصنا لها فصلاً خاصاً -بعدُ إن شاء الله- يقول :"إن قانون المراقبة الذى وضعوه فى المقتضب بين فاء "مفعولات" وواوها يلزمهم أن يقابلوا بـ"فعولات""فاعلات" على أنها من وضع التماثل وقد وضح فى صناعة الموسيقى أن "فعولات" مضاد لـ "فاعلات" كما أن "فعولن" مضاد لـ"فاعلن" , ويتساءل حازم مستنكراً "فكيف يوضع المتضادان وضع المتماثلين فى ترتيب يقصد به تناسب المسموع".

وحاول الأستاذ محمد العلمي الرد على حازم فى هذه النقطة ، فقال : ”فهو -أى حازم- إذن يرفض الجمع فى بيت واحد من المقتضب بين "فعولات" المخبونة فى شطر و"فاعلات" المطوية فى آخر . وقد كان بإمكانه أن يرفض الجمع بين ذلك دون أن يغير التجزئة ، فيمنع مثلاً مجامعة "فعولات" لـ"فاعلات" فى بيت واحد ، أو فى القصيدة كلها، لكنه فضل تغيير التجزئة ليصل إلى هذا الهدف.

وهنا يريد الأستاذ محمد العلمي من حازم أن يضع قيوداً على الشاعر لتسلم له تجزئة العروضيين للمقتضب ، هو إذن لم يفهم مقصد حازم هنا ، إن حازماً لا يضيره الجمع بين "فاعلات" و"فعولات" بقدر ما يهمه تغيير التجزئة إلى هذا الوضع الجديد الذى يتماشى وقواعد الموسيقى وقوانين التناسب التى وضعها . ثم إنه ليس بإمكان الشاعر أن يتجنب وقوع "فاعلات" و"فعولات" فى كل بيت فضلاً عن القصيدة كلها .

وفى النهاية فإننا نرى أن هذا الاشتقاق الجديد لهذا البحر يعتبر -بحق- خلق جديد له ودعوة للشعراء إلى النظم عليه وإعطائه الحق الذى سلبه منه القدماء إلى درجة إنكارهم له ، فالأخفش أنكر أن يكون المضارع والمقتضب من شعر العرب وزعم أنه لم يسمع منهم شيئا من ذلك.

أما العروضيون المحدثون فإنهم لا ينظرون إلى المقتضب هذه النظرة ، بل أعجبوا بنغمته وحاولوا البحث له عن صور جديدة وصلت إلى أربع صور:

الأولى :              فاعلن مفاعلتن     فاعلن مفاعلتن

الثانية :              فاعلن مفاعلتن    فاعلن مفاعلْتن

الثالثة :                فاعلن فعو         فاعلن فعو

الرابعة :                فاعلن فعو       فاعلن فعولْ

ومثلوا لكل صورة بأمثلة من الشعر القديم والحديث وصلت إلى حد كبير من الجمال والروعة ، منها قول أبى نواس:

حامل الهوى تعب     يستـخـفه الطرب

إن بـكـى يحق له    لـيس ما به لعب

   تضـحكين لاهـية    والمحـب ينـتحب

تعجبين من سـقمى    صحتى هى العجب

كلما انقضى سبب      منك عـاد لى سبب

وتقطيع البيت الأخير :

كللمن-قضى سببن     منك عا-دلىسببو

/ه//ه-//ه///ه        /ه//ه-//ه///ه

فاعلن-مفاعلتن            فاعلن-مفاعلتن

ومن الأمثلة قول خليل مطران :

ألـسـنا تَبَسُّمُه      وهو ضاحك جزل

السرور فى فـمه      والـعذاب والأجل

عينك التى نظرت    منه جـاءهـا الميل

فالمسيئ غــيرهما    مـا إلـيه متصـل

عـله لمـا فعلا     لو تعـاقب الـعلل

وكذلك قول شوقى:

يا نديمُ خف بها     لا كبابك الطرب

لا تقل عواقبها     فالعواقب الأدب

تنجلى ولى خلق     ينجلى وينسكب

يرقب الرفاق له     كلما سرى شربوا

شاعر العزيز،وما     بالقـليل ذا اللقب

وبالنظر إلى هذه النماذج وغيرها- فإنها "كفيلة بإقناعنا بصحة نغمته ، وإحساسنا بمدى الخسارة التى يمكن أن يخسرها الشعر لو ألغى هذا البحر كما ينادى بعض الباحثين" مثل الدكتور إبراهيم أنيس الذى يقول : "فليس يكفى ورود بيت أو بيتين حتى يعد الوزن مما تستسيغه الآذان وترتاح إليه كنسج  للشعر . ولا بد من شيوع الوزن وكثرة تداوله وتردده على الأسماع حتى يمكن أن يعد وزناً شعرياً معترفاً به.

ولعل هذه النماذج التى أوردناها وغيرها خير دليل للرد على الدكتور أنيس وغيره من المنكرين لهذا البحر والداعين إلى طرحه . وأخيراً فإنه إذا كانت أذن العربي القديم لم تستسغ هذا البحر فإن أذن العربي الحديث تستسيغه ، بل تستعذبه ، والدليل على ذلك الأمثلة السابقة التى صاغها المحدثون.