Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!


رسالة بلا ملامح


           من عادتي أنه كلمـا زحف على عالمي، المسيج بالآهات، ليل من ليالي الشتاء الباردة الطويلة و أنـا ملتحف في همـومي و وحدتي الصاخبة الفظيعة، تراني أهـرع كالمجنـون إلى قبس الكتابة عله ينعشني بدفء حرارة التعابير الهادئة الوديعة، إلا أنه كثيرا ما كان يخيب أملي؛ فقد كنت أجد ذلك القبس خـامدا يكـاد يمج الصقيع.. و سياط الزمهرير تلهب الأجساد و الأفكار. و كلما كنت أمعن الحفر في ذاكرتي عن الحنان يعتريني العياء السريع.. و كلما أصررت في النبش عن أساليب البيان و كل محسنات البديع، اصطدمت بجفاف مرعب يقض مضاجع المحبين في الأوكار. ورغم كل ذلك كنت أجهد نفسي في حلب الأقلام من مدادها كي أشق صدور الأوراق البيضاء و أطـرافها. و أكتب عن كل شيء و لا شيء و أفعل ما أستطيع ! لم أتراجع قط أمام زحف الفشل الذريع ولا في حضرة الملل المستبد ولا هذا الجفاف المريع. و أنا أنقـب بين أكوام ماضي الزمـان لم أعثـر من بين كل كنوز الذكريات و لو على جرذ ل صغيـر من حنـان، فالماضي كان كما هو حاله دائما قاسيا يرمي الحاضر بالأحزان و يجلده بسياط من أشجـان. أمـا ملجأ النوم فلم يكن بدوره يوفر لي الأمـان فكثيرا ما كنت أهرع إليه إلا أنه كان يلقي علي الأحزان بالأطنـان. ذكرت الأحـزان لأن رحى ذاكرتي حينما تدور تطحن شتى أنـواع المسائل و الأمـور وتسحب نحو محورها الهموم والمآسي من كل العصـور، فيتنـاثـر تفكيري و يتلاشى تركيزي و الأفكـار، ويتمرد قلمي عن تدوين رموز النثر و الأشعـار.

           لا أحد يدرك أن عالمي رغم سيطرة الأحزان فيه فريد. و العيش ضمنه متعة التائه الباحث عمـا يفيد. فمن غابر العصر و الأوان وهذا العالم ملجئا لكل من يوصف بالإنسان. لكنه عالم مطلسم مليء بالأوهام و الأشبـاح و الأطيـاف، إلا أنه يضيق أيضا بالحب و العشق و الغـرام من كل الأصنـاف و كائنات من الجمـال بحيث تعجز كل الأوصـاف. فيا حبيبتي التي كنت في زمن مضى تكاتبيني من بعيد، ها أنا قد قررت أن أبعث لك الرد و أنا بذلك سعيد. لو جمعت حنيني إليك في طرد لتروع له أهل البريد، ولو فكرت في تدوينه على الأوراق ربمـا قد تنقرض الأشجـار من كل هذا الصعيد. فدعيني أختزل لك الكلام لعلني أستطيع أن أبث لك بعض ما أريد.

           شوقي أبعثه إليك كالسهم يخترق الأكـوان فيطوي أميالا في الزمان و في المكان حتى يصل إليك ملفوفا في غلاف من أنين. تماما كما النجم البعيد يصل ضوئه إلينا في سنين. فيموت النجم و ينقضي و لكن يبقى لوهجه طنين يسافر عبر المسافات الكونية فننتظر أزمانا طويلة قبل أن ندرك أنه كان قد انطفىء منذ آلاف السنين. حبيبتي كذلك هو حبنا قد هزه اختفاؤك فجأة ألا أن بريقه لم يتأثر و استمر يبعث إشعاعه الغامر عبر الحنين. فلا تقلقي عل الزمان يعود القهقرى فنتقي في مجرة من العشق ليس فيها وجه للفراق أجعد. إذ ذاك نعوض ما فاتنا و نذكـر دائما أن جذوة الحب لا تفني و لو أبتلعها ثقب أسود. فالحب مثل الكون شاسع تملأ سماءه النجوم و الكواكب و الأقمـار. وفضاؤه ربعا كبيرا يجيـر في العشق من لا يجـار.

           حبيبتي! بعدمـا انفطرت مرارتي بحبك و الطحـال، لم يعد هنـاك في عـالمي شيء من أجله يندلع القتال. فقد أصدر قلبي أمرا و أمر القلب لا بد أن يطـاع. سأبحث عنك بين الأجرام عندمـا ينتهي ما بين مشاعري من صراع. فأنت تعلمين أنك لا توجدي إلا في خيـال شاعر مخبول. ليس له في الذاكرة سواك يبكيه الطلـول و هذا في الأصل ما كان علي منذ البداية أن أقول. و لكنني لا أعتقد صـادقـا أن لذلك الآن أي مفعـول. فأنت مهمـا كنت طيفـا أو شبحـا أو كـائنـا ليست له ملامح فحبي إليك -و العهدة علي- جـامح. قد أعثـر عليك بعدمـا أفطن إلى أنك جزئ من خيال خلاق، و أعلم أنك وقعت سهـوا على الأوراق، فأعتذر حينهـا لكل أنثى جمعت كل مواصفاتك و أعلن اعتذاري هذا في الحواري و الأسواق رغم أنه في الحقيقة أمر لا يطـاق.

           حبيبتي! يا من تسكنين الخيال و تملكين علي الشعور.. يا من قافيتها في كل البحور، حسنك القاتل كالفراشة على رسالتي إليك يدور. يلمسها بالسجع تارة و بالأوزان تارة أخرى.. والمقـامـات بأسرار هذا الأسلوب أدرى.. فكل الكلام الموجه إليك صعب المنال حين يقـارن بما تملكينه من جمال... و ليس هنـاك في اعتقادي صورة أجمـل من تلك التي يرسمهـا الخيال. فيا حبيبة حام حولها بهائها الفراش، و بنور جمـالها أصاب بعض الانتعاش، فسامحيني إذا انقطع مني الكلام، فالنوم يدعـوني هذه المرة مجبرا إلى الفراش، رغم أن رسالتي ليست طويلة إلا أنها وضحت لكل منا سبيله. فإلى اللقاء أيتهـا المعشوقة الهيفـاء في ليلة أخرى من ليالي الشتاء لما ينقطع عن عالمي الكهرباء.

                                            الإمضاء :عالم ذرة تنقصه ذرة .. عقل.
                                                                  تنجداد - 29 نونبـر 1999

مهمـا
انقر الزر