تبني الرياضيات المعاصرة
بقلم
الدكتور: عبد الفتاح الشرقاوي
شهد عصرنا الحاضر تطورا علمياً
وتكنولوجيا بصورة لم تعرفها البشرية في
تاريخها من قبل وقد ساهمت الرياضيات مادة و
طريقة مساهمة فعالة في هذا التطور العلمي
والتكنولوجي فالطاقة النووية و الحاسبات
الإلكترونية و الأقمار الصناعية والسفن
الفضائية والصواريخ وأجهزة التسيير الذاتي
وغيرها من مظاهر التقدم العلمي والتكنولوجي
تعتمد اعتمادً كبيراً على الرياضيات وبصفة
عامة نستطيع أن نقول إن ثورة التكنولوجيا
التي شهدها القرن العشرون والتي كان ارتياد
الإنسان للقمر من قمم إنجازاتها إنما يعود
الفضل في تقدمها إلى التطور في الرياضيات
الذي ازدهر في بداية القرن الماضي وبلغ اوجه
في القرن الحالي.
لقد غزت الرياضيات
الآن وبشكل ظاهر حياة الإنسان اليومية حيث
كثر استخدامها في مجال الصناعة وخاصة في مجال
تصميم وتحليل تجارب البحث الصناعي وفي مشكلات
التحكم النوعي الإحصائي(ما يعرف بمراقبة جودة
الإنتاج) فضلاً عن انتشار الحاسبات و العقول
الإلكترونية في عالم الصناعة والتجارة
والعمل ولم تعد الرياضيات وقفاً على علوم
المهندسين و الفيزيائيين بل أصبحت تحقق قيادة
حقيقية في مجالات العلوم الطبيعية
والاجتماعية وإدارة الأعمال والصناعة
والاقتصاد فضلاً عن غزو الرياضيات لجميع فروع
المعرفة الأخرى مثل علوم الحياة، والكيمياء
والجيولوجيا، والعلوم الاجتماعية
والإنسانية وعلم الاقتصاد وعلوم الطب
والصيدلية ، والعلوم السياسية وغيرها فنظرية
الألعاب التي تعتبر من أحدث الموضوعات
الرياضية والتي بدأت عام 1920 وازدهرت عام 1944 لم
تسهم فقط في تطور العديد من الموضوعات
الرياضية مثل الأنظمة الخطية
Linear Systems والمصفوفات
الاحتمالية والبرمجة الخطية وإنما استخدمت
في الاقتصاد
Economics ، وفي مشكلة وضع
القرار Making decision problem ،
والأعمال Business ،وعلم
النفس وعلم الاجتماع وغيرها.
لذلك فقد أصبح
لزاماً على إنسان هذا العصر أن يلم بقدر معقول
من الإنتاج الفكري المعاصر في الرياضيات
بمحتواها وتنظيمها الجديد، ويزود نفسه
بالمئونة اللازمة من الوعي الرياضي والثقافي
الذي يساعده على أن يعيش زمانه المعاصر ،
قادراً على مواكبة التطورات العلمية
والتكنولوجية الحديثة . وتتبع هذه التطورات
التي تؤثر على مناشط الحياة في المجتمع،
وعلى التفاعل الذكي مع مظاهر هذا التقدم حتى
يكون أهلاً للمواطنة الإيجابية.
على ضوء ما تقدم
ظهر الاتجاه نحو تبني الرياضيات المعاصرة في
مناهج التعليم العام باعتبار أن ذلك يحقق ما
يأتي :
-
مسايرة روح العصر وفهم تطوراته العلمية
والتكنولوجية ومعايشة الواقع العلمي المتطور
علمياً واقتصاديا و اجتماعياً،وذلك عن طريق
دراسة لغة العصر بما فيها من مصطلحات ورموز
ومفاهيم وممارستها كأداة اتصال علمية .
- استخدام الأفكار والمفاهيم والمبادئ العامة التي تعمل على توضيح ميدان الرياضيات وربط فروعه بعضها ببعض بفهم الرياضيات ذاتها وفهم العلوم الأخرى.
- الاقتصاد في الوقت والجهد اللازمين لنمو الأفكار والمفاهيم الرياضية عن طريق التركيز على المفاهيم والمبادئ وتحسين أساليب اكتساب التلاميذ لها ، والرياضيات المعاصرة التي ينادي هذا الاتجاه بتبنيها تتكون من:
1- رياضيات جديدة:ويقصد بها الرياضيات التي لم تكن موجودة قبل50 سنة أو أكثر حسبما نعني بمصطلح (( جديد)) ويمكن اعتبار نتاج العصر الحديث –القرنين التاسع عشر والعشرين- من رياضيات وهو ما يسمى بالرياضيات الجديدة 0
2 –
تنظيم جديد : وهو أسلوب يتفق مع وجهة النظر
البورباكية التي قضت بفشل العرض التقليدي
للرياضيات ، ونادت بإعادة بناء الرياضيات بما
يحقق :-
-
إعادة تنظيم الرياضيات قديمة وجديدة في
كيان وتنظيم موحد يقوم على عدد من المفاهيم
الأساسية مثل مفاهيم
: المجموعة ،العلاقة ، الدالة ، العملية
الإثنائية وعلى البني الرئيسية التي يمكن
بناؤها من هذه المفاهيم مثل:الزمرة والحلقة
والحقل والفراغات التوبولوجية Spaces Topological .
.
- الاتجاه نحو التجريد Abstraction والتحرر من قيود المحسوسات لإعطاء إمكانيات أكبر لانطلاق الفكر الرياضي كما حدث – على سبيل المثال – في الهندسات اللااقليدية.
- الاعتماد على استخدام المنطق الرمزي Symbolic Logic وقواعده لبناء أنظمة Systems وأنماط Patterns ، رياضية باتباع الأسلوب الاستدلالي Deductive Method في إرساء نظريات ونتائج تلك الأنظمة الافتراضية الاستدلالية
- تحول الرياضيات من مفهومها التقليدي على إنها دراسة للعدد والفضاء space إلى دراسة للبنى الرياضية Mathematical Structures ولأنماط رياضية Mathematical Patterns ودراسة العدد والفضاء من خلال بني وأنماط أكثر شمولا
- استخدام لغة ورموز جديدة أكثر دقة وأسهل طواعية في التعبير الرياضي السليم وهي لغة المجموعات Sets .
- التركيز على المفاهيم مع العناية بتنمية المهارات والابتعاد عن التدريب الآلي والاهتمام بدراسة الخواص والمبادئ الرئيسية للمفاهيم والعمليات مثل خواص الإبدال Commutativity والتجميع Associativity والتوزيع Distributivity .
3-
أسلوب تعليم وتعلم جديد : حيث تتجاوز
مناهج الرياضيات المعاصرة كونها مادة جديدة
وتنظيم جديد إلى كونها أيضاً أسلوب تعلم يؤكد
على جوانب إنسانية وعلمية لا ينبغي أن تنفصل
عن الأسلوب الذي يتم به تعليمها فلا تعدو
المادة العلمية كونها واحدة من مكونات عملية
التعلم يضم إليها الأهداف والأنشطة وخطة
التدريس وأسلوب التعلم،والرياضيات المعاصرة
إذا درست بنفس
الأسلوب التقليدي الذي صاحب مناهج الرياضات
التقليدية فإنها لا تقدم إلا القليل فهي
بحاجة إلى مدخل لأسلوب تعلم جديد تحكمه
المعايير التالية :
-يعطي
الفرصة لاستثارة التعليم وتنشيطه .
-
يهيئ الفرصة للتفكير وتجريب الأفكار التي
يقترحها المعلمون .
- يعتمد على فكرة الكشف حيث يقدم الخبرة التي تشجع الاكتشاف .
- ينمي قدرة المتعلمين على تطبيق الرياضيات في مواقف جديدة .
- يحقق جوانب اكتساب المهارات الرياضية ، الدقة والفهم والسرعة.
- يهتم بالفهم وينمي القدرة على الترجمة والتفسير والاستكمال – المظاهر الدالة على الاستيعاب .
- يضمن عدم حدوث تعلم مضاد فيما بعد أو تعلم معطل بتعلم سابق أو لاحق .
- يساعد المتعلم على أن يرى صورة أوسع لطبيعة الرياضيات واللغة الرياضية المستخدمة.
لقد كان لاتجاه تبني الرياضيات المعاصرة في مناهج التعليم العام صداه الواسع على المستوى الدولي شمل الدول المتقدمة ، وامتد ليشمل الدول العربية .
شهدت
مناهج الرياضيات في الدول العربية في العقود
الثلاثة الأخيرة سلسلة من محاولات التغيير
بقصد التحديث والتطوير في غالبية المدارس
العربية،ويمكن رصد المراحل التالية في تطوير
مناهج الرياضيات خاصة في مدارس المشرق العربي:
مشروع
اليونسكو لتطوير تدريس الرياضيات في البلاد
العربية :
في شباط فبراير 1966م
انعقد المؤتمر العام لليونسكو وتوصل إلى
تقارير مفادها أن تطوير تدريس العلوم
والرياضيات أمر لازم حتى تلاحق هاتين
المادتين ثورة البحث العلمي والتكنولوجي ،
وقد اختيرت الدول العربية لتكون من بين الدول
التي تتعاون معها اليونسكو في تطوير تدريس
الرياضيات بمدارسها . وكان ذلك نتيجة لتوصيات
مؤتمر وزراء التخطيط العرب الذي انعقد في
طرابلس بليبيا في الفترة من (9-14)نيسان (إبريل)
عام 1966م. وقد وضعت اليونسكو بالاشتراك مع
خبراء الدول العربية مشروعاً لتطوير تدريس
الرياضيات بالمرحلة الثانوية وتكونت في
البلد العربية التي اشتركت في المشروع لجان
وطنية تعمل على الإعداد لتنفيذ المشروع.
مشروع المنظمة
العربية للتربية والثقافة والعلوم (الأليكسو)
لتطوير الرياضيات في البلاد العربية :
كان لمشروع منظمة
اليونسكو في تطوير الرياضيات بالمرحلة
الثانوية عام 1969م أثره في تهيئة الجو العلمي
والنفسي لتطوير مناهج الرياضيات في الوطن
العربي ، وفي خلال خمس سنوات من بداية هذا
المشروع تبنت خلالها بعض الدول العربية تدريس
عدة موضوعات مما تضمنه المشروع ، وقامت بعض
الدول بتأليف كتب جديدة للرياضيات تضم مفاهيم
الرياضيات المعاصرة مسترشدة في ذلك بالكتب
التي قدمها مشروع اليونسكو ، وقد ظهرت الحاجة
إلى نوع من التقريب بين وجهات النظر المختلفة
مما حدا بالمنظمة العربية للتربية والثقافة
والعلوم القيام بمشروع ريادي لتطوير
الرياضيات في المرحلتين المتوسطة ( الإعدادية
)والثانوية يتناول المقررات والكتب الدراسية.
مشروع توحيد
وتطوير مناهج الرياضيات في دول الخليج
العربية:
بعد مشروع
الأليكسو بدأت المدارس العربية تستجيب فعلا
لاعطاء مزيد من الاهتمام بالمهارات الأساسية
وأجريت تعديلات على الكتب المدرسية التي وضعت
في إطار كتب اليونسكو وفي إطار كتب المنظمة
العربية للتربية والثقافة والعلوم ، وتمت
التعديلات في كثير من الأحيان في إطار محلي ،
وفي ذات الوقت بدأت تظهر مشروعات إقليمية وفي
إطار " التطوير والتوحيد " تهتم أيضا
بالمهارات الأساسية ومهارات التطبيق ،لعل
أبرزها هو مشروع " توحيد وتطوير مناهج
الرياضيات في دول الخليج العربية " الذي
بدأ عام 1984م وغطى جميع مراحل التعليم بدءا من
الصف الأول وحتى الصف الثالث عشر .
هذا ،وقد اشتركت
هذه المشاريع في الآتي :
_ هدفت جميعها إلى
تطوير مناهج الرياضيات إلى الأفضل ، ليس فقط
في المحتوى وإنما في أسلوب التدريس أيضا .
_أتبعت أسلوب
التجريب لتحسين الأدوات التعليمية في ضوء ما
يسفر عنه
التجريب.
_
تم تدريب المعلمين من خلال عقد لقاءات يتم من
خلالها مناقشة الخلفية العلمية والأساليب
المستخدمة في عرض المادة الجديدة.