Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

      بسم الله الرحمن الرحيم

 

سيرتي الذاتية

 

من خلف تلال البادية ومن بين مروج الفرات تحييكم روحي العربية جميعا... وتأمل أن تنشئ علاقات صداقة طيبة مع أبناء العروبة والإسلام..تحمل معها عبق الصحراء ونسمات الفرات وشدو البلابل وحفيف الشجر .. تلك الروح عاشت الماضي وعاصرت الحاضر.. كان ماضيها جميلا أصيلا يحمل من إرث العرب تراثا رائعا... في تلك المنطقة "وادي الفرات" التي تقبع بين بادية الشام وأرض الجزيرة.. يحدها العراق شرقا وتقرب منها حدود تركية وتمزج أرضها بين السهول والأودية والصحراء.. في تلك المنطقة نشأت وترعرعت .. وتفاعلت مع الحياة بكل أصنافها وأشكالها ، انفعلت بها كثيرا وتأثرت بما هو محيط بي ... ولدت في دار صغيرة تتوسط حقول القمح والقطن والخضار والفواكه... في صبيحة السادس عشر من حزيران "يونيو" عام 1968م شاء الله العلي القدير أن تكبت لي الحياة في هذه الأرض إلى حين. كانت أمي تروي لي أني عذبتها حتى في فترة الحمل إذ كنت جنينا شقيا كثير الحركة وأعان الله الحامل حينما يمارس جنينها هواياته الرياضية في بطنها. قررت أمي تسميتي على اسم أبيها "ظاهر" الذي توفاه الله بينما كان يؤدي مناسك الحج في مكة المكرمة فدفن فيها. كان  ذلك قبل ولادتي بسنوات قليلة. ولحسن حظي أن أبي أحمد لم يختلف مع أمي في تسميتي على اسم أبيه "عسكر" الذي كان على قيد الحياة آنذاك.. لأن اسمي الحالي أفضل بكثير مما لو سميت باسم جدي من أبي.

 

من النشأة حتى سن الدراسة

 

نشأت طفلا صغيرا وهبه الله العلي القدير رب الجمال من الجمال الكثير حتى صرت محط أنظار نساء الحي.. وتروي أمي رحمها الله وأدخلها فسيح جناته بأن "العين كادت أن تسبق القدر" حيث مرضت بعد فترة شعرت هي بأن أصبت بعين ، ومرضت مرضا شديدا... أعياني وغير لوني وبنيتي واصفر إثره لون وجهي وشحب.. وأصبت بهزال وفقر في الدم وضعف في البنية. حارت بي كما حار الأطباء. وذهبت تستجدي الشفاء استجداء من كل حدب وصوب وفي قلبها رجاء.. بعد أن يأست من علم الأطباء وذهبت إلى كل من يدعي الشفاء، وحاولت ولكن ضاع عناؤها هباء.. ولم تجد من بد إلا أن تسلم أمرها لله رب السماء... وفي صباح يوم ما .. قال لها أحدهم كلمات جربي معه الكي فإن الكي أخر الدواء... وتم ذلك وأملت أن يتحقق الشفاء ولكنها أخفقت أيما إخفاق كادت أن تفقد الصبر وأن يضيع منها الإيمان بقضاء الله وقدره.. ومن باب الأخذ بالأسباب ذهبت إلى الطبيب لعل الأمل يفتح لها بابا ومن يرجو الله سبحانه فلن يخيب له رجاء. وجاءت الحكمة عند شخص جاء يبحث عن دواء .. حين سأل أمي قائلا: "يا أختي هل أنت مهمومة .. أو مريضة؟" فقالت له "أي والله يا أخي...مهمومة هموما تعجز عن حملها الجبال.. فقال لها يا أختاه أنك ترضعين ابنك هما يمرض نفسه ويؤثر على جسده، فتوقفي عن رضاعته...

 

وكما يقال الغريق يتعلق بقشة .. استجابت أمي لتلك النصيحة وتوقفت عن رضاعتي حين قارب عمري عشرين شهرا.. وفي ليلة ظلماء .. أخذت أمي غفوة عميقة سريعة .. وكانت تعتاد دائما على صراخي المستمر، لكن في تلك اللحظات كنت مستغرقا بنوم عميق طالما حرمت منه كثيرا... واستيقظت أثناءها أمي ورأتني جثة هامدة فخشيت علي كثيرا وظنت أني قد فارقت هذه الدنيا.. وأمسكت بي بلهفة الأم التي فقدت طفلها وهي تصرخ "ابني.. ولدي".. واستجبت لها فورا بالبكاء الذي أفرحها وأراح قلبها.. فاطمأنت وهدأت نفسها وارتاحت.. فعادت تضمني إليها مربتة على كتفي لعلي أعود إلى غفوتي فتحس هي بلذة النوم..

ومرت الأيام في بداية السبعينيات من القرن العشرين في ربوع الفرات قاطنا مع أبي وأمي وزوجة أبي في بيت ريفي مبني من الطين والحجارة.. ويغطى بأعمدة خشب الحور.. ومدهون بدهان أبيض بسيط.. يتوسط حقول القمح والشعير والقطن والبطيخ التي تتخللها مياه النهر عبر السواقي. كنت أنا آخر العنقود من أمي حيث كان لي أخ شقيق يكبرني بست سنوات وأخت شقيقة تكبرني بعشر سنوات. وكان لي أخ من زوجة أبي يكبرني بشهرين أسمه حسين.. كنا نلعب في الحقول فنسبب لأهلنا الخوف من أن تأكلنا بنات آوى أو الثعالب أو تسبب هوام الأرض لنا الأذى إذ كانت الأفاعي تنتشر بكثرة في تلك الأيام. كنا أشقياء منذ طفولتنا، حيث كنا نعود لأهلنا بالبطيخ الذي لم يحن موعد قطافه بعد أن نكون قد كسرنا منه الكثير،..نعود وقد ابتلت أثوابنا بالماء والطين . كنا في تلك الفترة لم نتجاوز السنين الثلاث من عمرنا. ومرض أخي حسين مرضا شديدا مات بسببه وبقيت أعاني من الاغتراب... الاغتراب عن أليف يفهمني وأفهمه.. حيث لم أنسجم مع أخي الأكبر "بشير" الذي كان يضربني دائما .. وكان فرق السن لا يساعد على كثير من التفاهم. شعرت وقتها بأنني وحيد رغم أني كنت مقربا من الجميع بسبب فضولي بطرح الأسئلة والاستفسارات وبسبب ثرثرتي وحبي للمعرفة.

 

كان بيتنا الريفي يضاء بفانوس ليلا حيث يتسلل إليه نور القمر ويملأه ضياء الشمس نهارا.. كانت لي صداقات حميمة مع الكواكب والنجوم التي طالما كنت أتفكر بها . ولم أعرف إلا أنها نجوما لم أتخيل حجمها ، وحين كنت أرى الشهب تتساقط كنت أقول لأمي سقطت نجمة.. فتقول لي يا بني هذه نجمة أحد الناس الذين ماتوا فسقطت بموته.. أما النجمة الكبيرة فكانت تقول لي "تلك نجمتك يا بني". أما القمر فكنت دائما أنظر إليه راغبا في أن أطير إليه... كنت أظن القمر فيه شجرة حيث يتبين للناظر ذلك.. وكنت أشعر باطمئنان وأنا أنظر إليه.. كنت أتمنى أن يأتي أو يأخذني.. وكنت أشعر بسعادة بالغة حين تتسلل إلى صدري نسمات الصيف العليلة ويغطي بنوره وجهي فأشعر برجفة جميلة تزيدني حبا باستمرار النظر إليه. والله أن لتلك الأيام ببساطتها لتزرع في قلبي الشعور بالحياة السعيدة خير لي من كل ما في هذه الدنيا من مغريات ونعم. كنت أشعر بالحياة ، بالسعادة ، بالبساطة ، بالفطرة ، بكل

المشاعر الجميلة الرائعة.

 

كنت أسمع عن المدرسة يتردد ذكرها حين يذهب أخي إليها ويجيء ، وكنت أبكي طالبا من أمي أن تشتري لي دفترا وقلما.. وكان أخي يعلمني الأرقام باللغتين العربية والإنجليزية وكنت أنشدها للكبار فيضحكون كثيرا لأني صغير في السن وأستطيع أن أفعل ذلك.. وكان شيئا يلفت الأنظار حين أقرأ سورة الفاتحة فيقربني الكبار منهم فأجدها فرصة لا أتوقف فيها عن الكلام.. حتى ينهروني أو يصرفونني بطريقة لائقة.

المرحلة الابتدائية

 

وفي عام 1973 التحقت بمدرسة ابتدائية قريبة من بيتنا .. حيث كانت الدولة تهتم بالمدارس الابتدائية وتوفرها في معظم القرى رغم نشأتها الحديثة حيث انتشر التعليم في كل أنحاء البلاد وتم توفيره مجانا بالإضافة إلى توفير كل الخدمات الممكنة شبه المجانية لأبناء سوريا. وحقا تم له ذلك حين ارتفع عدد المدارس في قريتي الصغيرة من مدرسة صغيرة مبنية من الطين إلى 6 مدارس كبيرة حاليا وإلى مدرستين اعداديتين وثانوية .. هذا ناهيك عن خدمات الهاتف والماء والكهرباء والطرق ... ولم أذكر أني دفعت ليرة واحدة مقابل التعليم في مراحل حياتي الدراسية كلها.. حيث كان القسط السنوي لجامعات كثيرة منها عربية يزيد عن 5000 دولار سنويا، بينما كان قسط الجامعة التي درست فيها هو دولارين رغم توفر أساتذة كبار تخرجوا من جامعات شهيرة..

 

في تلك الفترة سمعت أطراف حديث عن حرب تدور بيننا وبين كيان زرعه الإنجليز في أرض فلسطين.. كيان يسمى "الصهيونية". وأنهم يحتلون القدس الشريف ويدنسون حرماته ويهتكون بأعراض المسلمات.. ويسجنون الأبرياء من مسلمين ومسيحيين لأنهم قاوموا ذلك الجسم الغريب الذي دمر حياتهم فكان أشد فتكا من مجموعة معقدة من الفيروسات.. لقد زرعت في الثقافة السورية حب الوطن والتضحية من أجله بالروح والدم وعلمتنا أن الأرض كالعرض وأن من لا أرض له كمن أضاع عرضه، لأنه لم يوفر لعرضه الأمان والطمأنينة.. لم أكن لأسمع وقتها بشيء اسمه الجولان بقدر ما سمعت عن فلسطين قضية العرب والمسلمين الأولى..  وحين دخلت المدرسة كانت أولى القصائد التي تعلمتها:

فلسطين داري               ودرب انتصاري

كانت فلسطين هي قضيتنا الأولى ، فقد تعلمت آنذاك بأنه باسترداد فلسطين نسترد الأراضي العربية وأن فلسطين هي قضيتنا المركزية الأولى.. كنا ننشد فلسطين ولا ننشد الجولان لأن فلسطين هي الأصل . في تلك الأثناء سمعت أن لنا أخوة عرب مصريين حرروا سيناء موبأن السوريين حرروا القنيطرة. دخلت تلك المفردات قاموس  حياتي.. فبدأت أدرك أن هناك وحوشا تلبس جلودا آدمية وفي أعماقها قلوب ضارية أشد قسوة من قلوب الذئاب وأكثر مكرا ودهاء لؤما من الثعالب.

وأنا ابن السادسة جلست بجانب أبي وهو يدير مفتاح مذياعه الذي بدله من مذياع يعمل على صمامات مفرغة "كنت أراها مجرد مصابيح لم أعلم ما هي" إلى جهاز يعمل من خلال ترانزستورات ومكثفات ومقاومات ودارات متكاملة "كنت أظنها الناس الذين يتحدثون في المذياع، فأحاول أن أحاول أن أخمن أين الناس الذين يغنون أو يتكلمون حين أرى اهتزاز مكبر الصوت. وفي فترة كنت أسابق فيها المذيع بثرثرتي أسكتني أحد جيراننا لننصت جميعا إلى بيان  علق منه في ذهني كلمات "إننا دعاة سلام.." أدركت بعدها ماذا تعني كلمة "سلام" ..إن من أسماء الله سبحانه وتعالى "السلام" وإن السلام إذا غمر القلوب فإن الحروب تقل وتنعدم ولا يكن هناك مشاكل ولا قتل ولا دماء.. بدأت أخاف من بعض المصطلحات.. وأصطدم بالواقع المرير لكن مستوى إدراكي كان يجعلني أنسى ذلك كله حين أنشغل بأشغالي الطفولية.

 

وكان من أجمل اللحظات هي التي أكون فيها "طرزان" فألعب بين السواقي أخربها فتتدفق الماء عن مجراها.. وأقطع الخضار فأكل ما طاب لي وأخرب ما لم يطب... كنت أتبع شقيقي حيث يذهب رغم أنه لطالما كان يضربني ضربا شديدا ، لكن إحساسي بالوحدة وحبي لمشاركة الأطفال دفعاني إلى تحمل الكثير.. كان النهر يمر بالقرب منا وكان أخي وبعض أصدقاؤه يذهبون لاصطياد الأسماك فأتبعهم وأراقبهم .. كنت فضوليا إلى حد كبير حتى أني كنت أحب أن أتعلم كل شيء. فحياة الريف مليئة بالأحداث أكثر من حياة المدينة بالنسبة لطفل يتعلم من الطبيعة الأشياء الكثيرة.

 

وقد علمتني أمي كثيرا من الأغاني التي كنت أتغنى بها للمعلمين ولأهلي.. وكانت أمي متعلقة بالأغاني الشعبية وأغاني سميرة توفيق .. وأتذكر مما تعلمت وحفظت "يا يمة أعطيني الدربيل ، انظر حبي وأشوفه، لابس عبا شغل الدير، تبرق ما بين كتوفه". "بين الرقة ودير الزور، مرت سيارة حمرا، وهي سيارتك ياشوقي، وانا عرفتا عا النمرة". "أسمر وأبيض تلاقوا، واثنينهم عشاقة، يايمة حبة الاسمر، سكر حليب الناقة". "العين موليتين ، العين يامولاية، جسر الحديد انقطع ، من دوس رجلية".  وكثيرها من الأغاني الشعبية الأخرى..

 

أما في المدرسة فكنت ضعيفا في مادة الحساب.. وذلك لأن معلمي وأخي لم يتبعوا الطريقة المثلى لتعليمي ذلك.. ولكنني كنت ممتازا في مادتي اللغة العربية والتربية والإسلامية. وكنت أحب مادة العلوم لأنها مليئة بصور الطبيعة والحيوانات. وفي نفس الوقت كنت شقيا جدا .. حيث أنني أشكو لأمي الأطفال وعندما تأتي إلى المدير كان يخبرها بأنه لو سلم الأطفال مني لكان خيرا.. ولكن الأطفال كان يجتمعون علي ويضربونني فلا أستطيع مقاومتهم.. وكان المدير رغم ذلك يحبني كثيرا ويقربني منه ، كان متزوجا من امرأة عراقية لم تختلف لهجتها عن لهجتنا كثيرا فأحببتها وأحسست أنها بمقام أمي. كنت أشعر بالقرب منها.. وعندما أسمع أمي تقول "العراقية" يحن قلبي كثيرا فأحس بتآلف كبير مع العراقيين وأتمنى أن أرى الكثير منهم.. ولعل السبب في فشلي بفهم بعض المواد يعود إلى الطريقة غير التربوية التي كان يتبعها المعلمون من أساليب للضرب والتخويف والترهيب.. وقد تعلمت الجمع والطرح والضرب بشكل ذاتي حين بدا ذهني يحلل ويستنبط وأصابعي تعمل بعد أن عرفت ما معنى كل مصطلح..

 

وقد كنت أشعر بالوحدة كثيرا حين يغيب أخي في رحلة أو نزهة .. وكنت أنشد معزيا ومسليا نفسي وأردد خلف أمي وهي تحثني :

"حيّا الأولاد حياهم.. حيّ بشّير وياهم"

كنت أنظر إلى القمر هو ينشر هالة من نور، وأسأل أمي متى يأتي أخي من الرحلة... ورغم قسوته إلا أنه كان الوحيد من الأطفال الذين يؤنسونني بعد انتهاء الدوام ، حيث كان بيتنا يتوسط الحقول وكان الجيران قد رحلوا عنا بعيدا إلى أرض سموها "الظهرا" وذلك ليوفروا مكان بيوتهم قطعة زراعية وليقتربوا أكثر من الشارع الرئيسي.. والظهرا هي أرض شبه صحراوية غير مزروعة وكانت تعتبر أملاك دولة حيث لا يمنع أن يبني عليها أحد.

 

كان لقاءي بالأطفال بعد المدرسة من خلال قناة أخي فقط ، الذي يذهب ليلعب معهم فيجبرني على الجلوس عند أغراضه حارسا لها.. وإن لم أفعل فالويل لي والثبور. يمسك العصا ويبرحني ضربا.. وقد بدأت أتعلم التمرد حينذاك.

 

وكانت هناك خلافات مستمرة بين أمي  وأبي بسبب ضرة أمي التي كان أبي يتقرب إليها أكثر لصغر سنها ... فكنت أتألم وأتمنى أن أعيش بينهم بسلام ووئام. ويصل بي الحال أحيانا أن أتمنى أن أعيش بين عائلة مثالية.. أما أمي فقد كانت شجاعة جدا وكانت تعمل أعمالا يعجز عنها بعض الرجال.. حيث تميزت بالصبر والشجاعة. كانت تستيقظ قبيل الفجر فتصلي قيام الليل ثم بعد ذلك يحين موعد صلاة الصبح فتصليها وتبقى مستيقظة .. تؤدي وردها اليومي من التسبيح والتهليل والتكبير ثم تذهب إلى الحقل فتقطف الأعشاب وتحضرها للغنم أو البقرة الحلوب... كان تحمل كما كبيرا من العشب الأخضر على ظهرها حيث يعجز عن ذلك كثير من الرجال. وتكون الشمس حينها قد أشرقت بنور ربها فتيقظنا من النوم وكنت أحب النوم فأتكاسل لكنها كانت تجرني إلى الصحن لتغسل وجهي وأنا أقاوم .. وإن قاومت أكثر كان ضربها كفيل أن يوقظني ولكنه لا يسكتني. أجلس على مائدة الطعام بجانب أخي وأختي وأمي .. وكانت مائدة الطعام الصباحية بسيطة جدا حيث لا تتجاوز صحنا من اللبن الرائب والخبز الأسمر وكأسا من الشاي. وكنت أنا وأمي وأخي وأختي نعيش في غرفة واحدة صلحت لجميع الأغراض.. للأكل والنوم والملابس والغسيل والدراسة. في تلك الأثناء تقدم لأختي رجل متزوج من اثنين فرفضته أمي كثيرا، لكن أختي تعلقت به ورأت أنها رجلا مناسبا قادرا ناضجا، ورغم أن أولاد عمها الشباب تقدموا لها لكنها رفضت وأبت إلا أن تتزوج ذلك الرجل الذي كرهته أمي لفترة طويلة حتى بعد الزواج حيث لم تطق رؤيته .. وطلب أبي من أختي أن تتريث وأن لا تتسرع لأنه متزوج.. وتقدم رجل أخر في تلك الأثناء فقبل أبي منه وأخذ منه المهر لكن أختي رفضته، فما كان من أبي إلا أن أعاد المهر لذلك الشاب وكان لها ما أرادت حيث تزوجت من أحبت.. ولا تزال تعيش معه إلى اليوم ولها منه أولاد وبنات.

 

وحين كنت في الصف الرابع الابتدائي سمعت أبي يقول بأنه سوف يشتري سيارة... ففرحت لذلك كثيرا. وقال لي بأنه سوف يأخذني معه إلى المدينة ويشتري لي بعض الحلوى..آه! كم كنت أحب الحلوى التي لم يمنعني عنها أحد ففتكت بأسناني فتكا شديدا. وكانت السيارات قليلة في قريتنا حينذاك، فكان أبي يعتبر من طائفة ميسوري الحال.

 

كنت أخشى ما أخشاه في تلك الأيام "أخي" الذي كان يضربني كثيرا فجعلني أتقوى على أخي وأختي من أبي الذي رزق بهما من زوجته الثانية. وسعدت حين سمعت بأن أولاد خالتي سوف يأخذونه إلى الكويت.. فأخذوه وهو لا يزال صغيرا، حيث ترك الدراسة وغادر معهم. بعد ذلك تفجرت طاقات الكبت الذي كنت  أعاني منه.. فتمردت على قوانين أسرية واجتماعية كثيرة.. وأصبحت من أشد المشاغبين في القرية، ولكن مشاغبتي كانت طفولية بريئة.

 

تقاعست بدراستي كثيرا وكان الأساتذة يوبخونني لكن إصرار أمي على متابعة الدراسة كان يشجعني على الاستمرار. حيث كانت تحملني في الشتاء على رأسها إلى الطريق الرئيسي حتى لا تتلوث ألبستي بالطين. وكنت ألبس "صدرية" أقضي بها السنة الدراسية كلها.. فتتلوث بالحبر والرصاص والطين..

وكنت أفرح حين يأخذني أبي معه إلى الجزيرة حيث ترعى الأغنام فأرى من النباتات البرية عشرات الأنواع فأسحر بجمالها.. وكانت الأغنام تدر بالحليب مدرارا. كنت أعرف نباتات وثمارا برية كثيرة مثل "شقائق النعمان، والكعّوب، والكمأة والفطر والشيح والقيصوم ومختلف الأعشاب". كانت الجزيرة بساطا أخضر في الربيع أشعر بتجدد الحياة حين ألعب مع الأطفال وأركض خلف "البهم" (البهم هي الخراف الصغيرة). أتذكر بأني كنت أمسك ضرع الشاة وأحلبها على الأرض لأن الضرع كان مليئا بالحليب فأخشى أن يضايقها، وعندما أحلب الشاة كان الحليب يتدفق على مسافة مترين فتأتي جراء الكلاب الصغيرة تفتح أفواهها لتشرب الحليب. حقا كانت أيام مباركة يندر أن نرى مثلها.

 

وعندما يرسلني أبي إلى البيت حيث تقيم أمي في "الزور" والزَور هي الأرض الزراعية المحاذية للنهر، لذلك سميت المدينة بدير الزور. وكلمة "دير" قديمة كانت تعني تطلق على دير للرهبان.. وما أن استوطن المسلمون أقروا اسمها الجديد.. كنت أشعر بالحزن الشديد حين يرسلني أبي إلى الزور رغم أن أمي موجودة به، لكنني كنت أشعر بفراغ وملل لعدم وجود أطفال معي.. فأتمرد على أمي وأتركها وأذهب حيث أشاء من دون أن أخبرها فتقلق علي قلقا شديدا.. فمثلا ، كان أخوالي يسكنون في قرية أخرى اسمها "مراط" تفصل بينها وبين قريتي "خشام" قرية تدعى "مظلوم". أتذكر يوما أنني حملت "قللي" والقلل هي كرات زجاجية صغيرة نلعب بها.. وكان الوقت حينها عصرا .. وكان الطريق مليء بالأفاعي وبنات آوى والثعالب.. لكنني لم آبه لذلك.. حيث كنت أقرأ سورة الفاتحة وآية الكرسي والمعوذات. وفي الطريق "بقرية مظلوم" رأيت أولادا فأعطيتهم بعض القلل فطلبوا مني أن نلعب.. فرضخت لأمرهم فلعبت ونسيت نفسي وكلما طلبت منهم أن أذهب طلبوا مني البقاء أو يضربونني ، فقلت لهم بأن الشمس أوشكت أن تغيب ويجب أن أصل أخوالي. وقبيل غروب الشمس عتقوني ولكن لم ألبث أن أتجاوز قريتهم حتى داهمني الظلام.. فصرت أبكي وطلبت من بعض الرجال أن يوصلونني لأخوالي.. لأن هناك كلابا على الطريق ستقطعني تقطيعا.. ورأف قلب أحدهم فقال سنذهب ونتجاوز الكلاب ثم تكمل.. ولحسن الحظ رأيت سيارة فأوصلوني إلى الطريق المؤدي إلى أخوالي.. وقبيل منتصف الليل فاجأت أخوالي بحضوري فاندهشوا وقالوا لي هل أنت من الجن أو تمارس السحر.. فقلت لهم قول الواثق "أني أرصد الجن ولا أخاف لأني أقرأ آية الكرسي" فكانوا يندهشون ويذهلون لجوابي رغم أني طفل صغير. ولعل أكثر ما كان يجعلهم يكرهون مجيئي هو مشاغبتي المستمرة حي كنت أصعد إلى السطوح فيخشون علي من أن تنزلق رجلي فأسقط.. وكنت أضرب بنات جيرانهم وأولادهم ، حيث كانت البنات يركبن الحمير وهن يحملن "القواديس: وعاءين لجلب الماء" فأنقض على الحمير فتجفل وتسقط القواديس وتقع البنات على الأرض .. فلا يكن من بد لي سوى أضع طرف ثوبي بسني وأهرب إلى أي  مكان أجد فيه الآمان. وبعد حين يصل إلى أمي التي يكون قلبها قد احترق علي الخبر بأني عند أخوالي.. وما أن أرجع إلى البيت طوعا أو كرها حتى تنهال أمي علي بالضرب الشديد.. وأتذكر يوما بأنني أردت أن أذهب إلى أخوالي فاكتشفت خطتي..  هربت منها وقلت لها احلفي بكل الأيمان  أن لا تؤذيني .. لكنها أرسلت أحد الأطفال يطاردني ليمسك بي.. وطاردني الطفل عبر الحقول والسواقي حتى أمسك بي.. وما أن أمسك بي جاءتني فأمسكت بي وأخذتني إلى البيت فربطتني وشدت الوثاق وأحضرت عصا رفيعة وبدأت تضربني حتى بكيت.. وما أن رأيتها هدأت بدأت أحتال عليها بكلمات معسولة يرق لها القلب.. أماه..أيهون عليك أن تربطيني كما تربطين الشاة.. أني ابنك يا أماه.. أني إنسان يا أماه.. لن أذهب مرة أخرى من دون إذنك.. فانهارت أمي أمامي وقالت لي "يا بني أن خوفي عليك يقتلني .. أخوك سافر، وأختك متزوجة , وأبوك وزوجته الأخرى مع الأغنام في الظهرا.. أبق معي دائما تؤنسني وأنا لا أقصر معك.. وجمعتننا لحظة عاطفية شديدة تلك الأحيان ..  فحلت الوثاق وركضت بعدها أجوب الأفاق.. لكني رجعت إليها لأجد الحنان والدفء والسكينة.

 

في نهاية المرحل الابتدائية "في الصف السادس" حصرا.. كنت مهملا لواجباتي وغير ملتزم بدروسي.. فكان مقررا أن يرسب من الصف "أربعة" لو تقرر رسوب "خمسة" لكنت أنا معهم، حيث كنت في آخر  قائمة الذين نجحوا.

 

قبل أن أنتقل إلى المرحلة الإعدادية أحب أن أروي حلما رأيته رغم مرور السنين العديدة عليه لكنه لا يزال منطبعا في ذاكرتي.. فقد رأيت وأنا نائم شمسا في  كبد السماء لها نور غير  مؤذ أشبه بالقمر ليلة البدر ولكن الحجم كبير تتوسط  السماء وتطل على بيتنا بشكل عمودي وقد كتب عليها في وسطها "القطب" بلون أخضر ولكن لوجود اللون الأصفر كان اللون يميل أن يكون أسودا ثم  أخضر.. وعلى مقربة من نافذة الدار رأيت ضوء مشعا أشبه بما كنا نسميه "اللوكس" وهو جهاز يعمل على الكاز شديد الإضاءة.. وجاءني في تلك الأثناء ملكا على هيئة رجل فحضنني إليه ثم أراد أن يصعد بي من خلال الدار إلى السماء.. لكنه قال ..أرى أن ترجع وأعود إليك عند المساء.. لأني أحسست وقتها بأنني إن ذهبت يصعب علي الرجوع إلى أمي وأهلي.. وهذا الحلم من الأحلام الفريدة النادرة التي لا يمكن أن أنساها.. ولكني تمنيت أن أجد لها تفسيرا.

 

المرحلة الإعدادية وما بعدها

 

نجحت في المرحلة الابتدائية، وانتقلت إلى قرية أخرى تسمى "حطلة"  تبعد عن بيتنا 10 كم ..لدراسة المرحلة الإعدادية وتعثرت في صفوفها حين غاب الرقيب "أخي المسافر" .. وكنت في فترة مراهقة جعلتني أحب الإطلاع على كل شيء.. ولكن الله سبحانه وتعالى نجاني من الكبائر، فلم أدانيها رغم توفرها.. ورغم حديث النفس التي لم تضبطها إلا ضوابط الفطرة ورحمة الله سبحانه. ولكنني كنت أشتري مختلف أصناف المجلات وخصوصا المجلات التي تحمل صورا مغرية للنساء.. ولعل المجلة الوحيدة الجادة التي كنت أشتريها هي مجلة العربي الكويتية بسبب رخص ثمنها.. وكان أبي يعطيني ما أطلب من النقود فأوفر مصروفي لأشتري مجلات وصورا لفنانات عالميات حفظت وقتها معظم أسمائهن وعرفت تاريخهن. كانت هناك مجلات لبنانية تذكر قصصا غرامية كنت أقرأها بشغف.. وكما يقال "رب ضارة نافعة" فقد كانت تلك المجلات قنوات مفتوحة إلى عوالم أخرى، حيث أصبحت أميز بين الخطأ والصواب، وأتزود ثقافة ومفردات في علوم الحياة.. وبسبب اصطدام خلفيتي القبلية مع أخلاق بعض تلك المجلات فقد كنت أقر بأن تلك أخطاء..  كنت في تلك الفترة قد دخلت سن المراهقة حيث بدأت أحس بما يحس به المراهقون من حب للإناث وإحساس بالشهوة.. وكنت أحيانا أؤلف لنفسي قصصا من الحب أنفعل بها حين أتخيل فتاة أحاورها بكلمات غزلية أو  عاطفية.. ولكني لم أكن  لأحس بحب لفتاة بعينها إذ أن المراهق قد يحب كل النساء ، فلا يميز بين الكبيرة في السن أو الصغيرة..  وكنت أضع صورا للفنانات وهن شبه عاريات على الجدار وعرفت من أسمائهن حينذاك ما كان يجهله كثير من كان منشغلا في تخصص الفن..   وقد تأثرت كثيرا بفنانات مثل بريجيت باردو وفرح فاوست وسهير رمزي التي  كانت تستثير عاطفتي  كثيرا خصوصا عندما أرى صورها الجميلة تتصدر صفحات المجلات الفنية.. وكنت أحب قراءة المجلات التي تنشر مسلسلات أو قصصا عاطفية مثل مجلة سمر وسحر . وكنت من أشد المعجبين بمجلة الشبكة اللبنانية التي  كانت تضع صورا شبه عارية وقصصا جنسية أحيانا.. وكذلك مجلات أخرى مثل الموعد وألوان ونادين.. وكنت أراسل الفنانة المصرية شيريهان وحين أرسلت لي صورتها لم يصدق زملائي أنها هي التي أرسلتها .. وكنت أتباهى بذلك وكأنني قد حققت فتحا مبينا.. آه من تلك الأيام الخوالي.. ولأنني كنت أعيش في الريف فقد كنت أعرف بأن بعض الشباب يمارسون الجنس مع الحمير وصغارهن ، ولكن نفسي كانت تشمئز من ذلك أيما اشمئزاز.. وكانت نفسي تترفع عن كثير من الأمور التي كان يمارسها أقراني.. حيث كنت  أتأثر بالجمال كثيرا إلى حد كان فيه من الخير ماد لني على الخير  فيما بعد.. 

 

ولم تخف  شقاوتي في تلك الأيام.. إذ أنني أتذكر أني تعلمت قيادة السيارة وكان أبي يحبني فأعطاني المفاتيح يوما لأذهب إلى أمي التي تسكن في أرض الزور لأحضر ألبسة وأنام في بيته الجديد الذي أسكن فيه زوجته الأخرى، وأتذكر أنه طلب من أمي أن تسكن معه فلم تقبل لأنها كانت متمسكة بالزراعة إلى حد كبير، وقبلت أن تسكن لوحدها.. وهان علي أن أتركها وألحق أبي الذي كان يغريني بالنقود التي كان يعطيني إياها في كل يوم لأشتري المجلات والصور.. المهم أني أخذت المفتاح وركبت السيارة وشغلت المسجل وبدأت أسمع أغنية عراقية لسعدون جابر كما أذكر، إذ أنني  كنت من أشد المعجبين بأغانيه لأني كنت أفهم  معانيها  وطار سعدون جابر بأغنيته "يا طيور الطايرة غني لهَلي".. وأسرعت بالسيارة طروبا محلقا طائرا.. ورأيت جمعا من الأطفال يلعبون فأكملت سيري لكن فجأة ركضت طفلة لم تتجاوز السنتين من عمرها إلى الشارع فلم ألحق أن أوقف السيارة فصدمتها ووقعت أرضا مضرجة بالدماء .. حينذاك اعتقدت بأنها ماتت إذ أنها أصبحت حمراء من الدم.. وحينذاك جاءني شاب ولطمني على رقبتي وقال لي أهرب حتى لا يذبحونك .. وفعلا ركبت السيارة ولم أشعر إلا بالحصى يتطاير وسلمني الله منه.. أسرعت حتى وصلت المدرسة فرأيت كثيرا من أبناء عمومتي وعشيرتي يلعبون كرة الطائرة.. فناديت أحدهم "جمال.. دعست ابنة محمد العسل" ومحمد العسل هو رجل من عشيرة تدعى العزاوي لها أقارب في المدينة والعراق. فسمعني عمي الذي كان معهم فقال لجمال "أمسكوه . أمسكوه" وخشيت أن يضربني فتركت جمال وأسرعت بالسيارة حتى وصلت على شرفة النهر.. وقد بدا يتراءى لي موت الطفلة وأنا ابن الثالثة عشر..   ففكرت أن أقفز بسيارتي إلى النهر، فرأيت أنها فكرة جنونية.. لكني توكلت على الله وأكملت طريق العودة الطويلة إلى البيت..   وفي الطريق رأيت مجنونا فانزعجت جدا وقلت له "أهذا وقتك أنت أيضا؟" هدأت من سرعة السيارة حتى تجاوزته بأمان..  وعند مفترق طرق رأيت شقيق الطفلة يحمل سلاحا ويركب دراجة فخشيت أن يضربني فما كان مني إلى أن أسرعت وانعطفت بالسيارة فلم أتحكم بقيادتها فخرجت عن الطريق ولحقت به.. ولكن ما يجعلني أقف مذهولا مؤمنا بأن "لا إله إلا الله" هو أنه كيف نجحت السيارة في المرور بين أعمدة الخشب , الحجر، والبناء من خلال ممر يصعب لسائق متمرس  بالقيادة أن يمر من خلاله..  كيف لها نجحت بالمرور من دون أن تصطدم بأي شيء.. وفوق ذلك كله..  لم أشعر إلا والسيارة تقف على الشارع العام الرئيسي الذي يرشدني إلى أبي.. تشجعت وأطلقت للسيارة عنان السرعة وتوجهت مسرعا سرعة جنونية إلى بيت أبي.. وقبيل الوصول  إليه تركت المقود ووضعت رأسي على الباب ذليلا وأن ألمحه خلسة أقود بهدوء شديد حتى وصلت أمامه  فأوقفت السيارة ونزلت وبدأت استجدي مشاعره أن تفيض رحمة ورأفة "يا أبي اقتلني، لقد قتلت طفلة، لقد دهست ابنة محمد العسل، يا أبي أنا لا أستحق البقاء، لقد سببت لك التعب والشقاء". كاد أبي أن ينهار حين ذهل بسماع الخبر وتجمعت علي نساء الحي يسألنني عن الحادثة وكانت تلك اللحظات عصيبة.. ورأيت سيارة صفراء كبيرة قد أوقفت أبي على الطريق فعرفت أنهم أسعفوها إلى المستشفى.. ووصل أبي هناك وكادوا أن يضربونه لولا وجود قريب لي وهو سيد فخذ من أفخاذ القبيلة.. حيث أنني أنتمي إلى عشيرة تدعى العقيدات ، بلفظ القاف كالجيم المصرية. وهي عشيرة عربية قحطانية تعود جذورها إلى الشاعر العربي الكبير والصحابي الجليل والفارس النبيل "عمرو بن معد يكرب الزبيدي". ومر يوم فجاءت الشرطة تحقق بالحادث، وكنت أخاف من الشرطة أكثر شيء في الدنيا..  لأن الشرطة في تلك الأوقات كان يخاف الناس منهم جميعا.. أما الآن فقد تطورت الحضارة وصار الشرطي أخا مساندا في السلم ورجل مهمته الالتزام في تطبيق القوانين وعدم تجاوزها حين يتطلب الأمر ذلك... المهم أنني فررت من الشرطة وأصبحت أشعر بأن الأرض قد أصبحت كثقب إبرة. ولكن الأمر قد سوي وتحول إلى القضاء.. وبعد سنة طلب  مني القاضي الحضور إلى المحكمة فذهبت وقدروا عمري بأنني "حدث"  فوقفت وقفة شجاعة أمامه غير آبه ولا خائف فقال لي كلمة لا تزال تتردد بمسامعي رغم أنها لم تكن في موضعها آنذاك "لقد نبغت" . وصدر حكما بغرامة مالية.

 

 وتمضي بضعة أشهر وشاء الله عز وجل أن تقوت علاقاتي  مع صديق صدوق مر بنفس تجربتي ، فرأيته يمزق كل مجلاته، وأقنعني بأن ذلك حرام... فدخلت معه إلى حقيبة كبيرة تملأها مجلات عديدة.. فأخذنا نفرز الغث من السمين، ومن ثم تكدست لدينا أوراق ومجلات وصور خلاعية جمعناها في كيس وأحرقناها في التنور.. تبت إلى ربي وصليت ركعتين وبدأت أؤدي صلواتي كلها.. وبقيت مجلة العربي صديقا مخلصا لي، رغم عجزي عن فهم أكثر محتوياتها لأنها كانت تكتب بأيدي أساتذة مطلعين.. ولكنني كنت أفهم البعض القليل.. وكانت أجمل لحظات حياتي حين أخلو بنفسي وأفتح عيني إلى السماء فأراها كتابا إلهيا مفتوحا مليء بالكثير من الأسرار والكائنات التي تدل على عظمة الله وبديع صنعه.. وكانت عيناي تجودان بدمع غزير.. ونفسي تذوب حبا وشوقا لمعرفة أكثر وخشوعا يطمئن إليه قلبي.. ووصلت بي بعض الأحوال أن أستوعب كل شيء بسرعة وأدرك كل ما يدور حولي.. فانفكت عقدة التعثر في المرحلة الإعدادية لأتجاوزها إلى المرحلة الثانوية بتفوق ومنها إلى المرحلة ا لجامعية حيث نلت إجازة في اللغة الإنجليزية وآدابها بتقدير جيد... ومن ثم التحقت بشركات النفط ومراكز تعليم اللغات. وبعد ذلك التحقت بوزارة التربية بدولة خليجية أدرس فيها مادة اللغة الإنجليزية. وقد ساعدني العمل في النفط وكذلك مهارتي باللغة الإنجليزية إلى تعلم الكمبيوتر حتى أصبحت قادرا على تدريسه باللغتين العربية والإنجليزية ، وقد درسته لخبراء أجانب في بلدي .. وكما يقال "لكل حصان كبوة" فقد مرت بي كبوات في معترك هذه الحياة التي أصبحت أشبه بأرض جبلية تملأها الوديان وتختزن في باطنها الأسرار.

 

 

خاتمة

 عشت طفولتي على طبيعتها.. حياة بدائية بسيطة.. لا تختلف عن حياة أجدادنا إلا ببعض من مستجدات الحياة.. وقد مرت بي ظروف كثيرة أخشاها الآن وأنا كبير فكيف مررت بها سليما معافى في طفولتي.. إنه أمر يثير الإعجاب ويجعلني أقف عاجزا أمام الإعجاز.. وأي إعجاز..إنه إعجاز من لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.. ولا ورقة خضراء أو يابسة إلا ويعلمها.. إعجاز خالق هذا الكون ومبدعه .. الله رب العالمين.. السلام .. بديع السموات والأرض.. الرحمن ..الرحيم.. العلي ... العظيم..

 

ولعل المخاطر التي مررتها بسلام كثيرة لا أستطيع أن أحصيها.. ومنها على سبيل الذكر لا الحصر.. أنني كنت أعيش بين الأفاعي.. نعم بين الأفاعي ولا مبالغة في ذلك.. فدارنا الطينية كانت تدخل بعض ثقوبها الأفاعي.. وقد رأيت ذلك بأم عيني.. ونجوت من بنات آوى التي كانت تختبئ بين الحقول متحينة الفرص لأن تأكل الدجاج.. فحمدا لله أنها لم تأكلني حين كنت طفلا.. ونجوت من الحوادث التي لا تحصى نتيجة وقوعي عن ظهر أنثى الحمار وهي مسرعة حيث كنت أجد نفسي ملقى فوق شجيرات القطن أو على حجيرات الأرض المحروثة..  نجوت من نهر الفرات الذي جذبني إلى أعماقه مرة قبل أن أجيد السباحة فما وجدت نفسي إلا مندفعا إلى الشاطئ.. فأيقنت حينها أن لي رزق لم ينقضي بعد في هذه الدنيا.. وأن لي أجل لا يتقدم ولا يتأخر.. نجوت من الأشجار والأنهار ودواب الأرض والهوام والعقارب والأفاعي.. لأتذكر بأن من أسماء الله سبحانه وتعالى "الحافظ" ومن أسماء "الحفيظ".. وحقا و"إن كل نفس لما عليها حافظ".

 

وهي حياتنا وحيواتنا تمر بدقائقها وثوانيها وساعاتها وأيامها وشهورها وسنواتها وعقودها وقرونها ودهورها وأحقابها، حيث إلى مستقر ومستودع.. وحيث أن لكل أجل كتاب..