Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!


© Mussa Yousef 2001 all rights reserved جميع حقوق المؤلف محفوظة


وبعد أن تم دمغ جوازت السفر ركبنا سيارتنا وأخذنا نعبر شارع بلدة بني إنصار.وفجأة تولد لدي شعور غريب ولذيذ دغدغ حواسي واستبد بي حنين جارف إلى بلاد الشموس الدافئة. ذلك الإحساس وذلك الحنين لم يسبق لي أن عشت تجربة مماثلة له منذ سنوات طوال: فقد كان الجو حارا والسماء زرقاء صافية وكان الناس يسيرون في الشارع الرئيسي بين السيارات المتحركة بكل حرية ولا مبالاة وكان الطرقات مكتظة بهم صغارا وكبارا رجالا ونساء. وصدحت موسيقي شرقية من مذياع السيارة ثم صوت المذيعة لتقرأ نشرة الأخبار بالعربية . نعم اسمع نشرة الأخبار ولأول مرة منذ سنوات تقرأ بالعربية من الراديو. فأنا إذن في المغرب . وسحبت نفسا عميقا زفرته بتأن وقلت في نفسي : أخيرا ها أنا ذا بالمغرب . ونظرت حولي وقلت : أهذا هو المغرب؟ وكانت تلك هي بداية نشوة الفرح التي لم تغادر ني حتى مغادرتي لهذا البلد الأمين.

أخذت سيارتنا تنهب الطريق بنهم وتتوقف عند كل نقطة درك ملكي أو جمارك. وكان مرافقي شديد الحرص على التقيد بعلامات التوقف ويسوق السيارة بتمهل نحو نقاط المراقبة.

بركان ووجدة سيدة الشرق

وصلت سيارتنا عمالة بركان وهي بلدة صغيرة سبق وان شاهدتها على شاشة التلفزيون في برنامج عن المهاجرين لكن صورتها في التلفاز اجمل مما هي في الواقع . وتتمركز البلدة كغيرها من اغلب المدن المغربية على الطريق الرئيسي الذي يربطها مع سلسلة من مدن أخرى ويبدو أن نمط الحياة فيها لا يختلف عن بني أنصار التي غادرناها للتو. وفي رأيي أنهما متشابهاتان في كثير من الأوجه حيث البساطة ودماثة خلق أهل القرى وبراءة الناس وطهر نواياهم .

كان الجميع في مقاهي بركان وسوقها المتواضع ينظر بفضول ملحوظ نحو سيارتنا التي توحي بوضوح بأنها سيارة عمال مهاجرين بلوحة أرقامها الأجنبية وبالأمتعة المكدسة في أحشائها : وربما تساءل بعضهم من أين أتى هاذين المهاجرين وفي هذا الموسم غير السياحي؟ نزلنا من السيارة ودخلنا في مطعم صغير واستقبلتنا امرأة تعمل في المطعم . وهذه هي المرة الوحيدة التي رأيت فيها امرأة تعمل كندل في محل بالمغرب. وطلبت أنا لحم دجاج ممتنعا عن تناول السلطة عملا بنصيحة طبية قديمة وهي امتناع المسافر الوافد إلى بلد ما عن تناول الخضراوات الطازجة والطعام غير المطبوخ في الأيام الثلاثة الأولي تحاشيا لمشاكل في المعدة لكن حلاوة المغرب وطراوته لا تثقل أية معدة أو أمعاء.

غادرنا بركان بعد تناول وجبة دسمة نحو وجدة وهي مدينة كبيرة لها واليا و عاملا وبها جامعة. وعلى الفور لاحظت الفارق بينها وبين بركان أو بني أنصار. فهنا توجد مميزات المدن حيث الاهتمام الطفيف بالغريب الوافد وحيث الوجوه المثقلة بتكلف الحضر . ولكن الخدمات في وجدة ممتازة وأسواقها كبيرة وأحيائها راقية . ونزلنا ضيوفا على الحاج محمد في حي القدس ومن هو من أحياء الدرجة الأولى كما يبدو لي . وفي الفيلا الجميلة للغاية وجدت فرصة للاستجمام قليلا من عناء السفر. وكان صاحب المنزل غائبا ولكنه أوصى بالاهتمام بنا. وجلسنا في أحد الصالونات الثلاثة ذات الطراز المغربي

وعلمت أن صاحب الدار مهندسا. ويبدو ذلك واضحا من الديكور الداخلي الجميل الذي بدا المنزل ـ الفيلا . فما أن يدخله المرء حتى ويحس بالطمأنينة والدفء بالتقسيمات الرائعة للصالات الثلاث والدهاليز وبالحديقة الصغيرة المخضرة أمام المنزل . وبعد فترة من الاستجمام دعانا مضيفنا إلى السفرة وقدمت لنا ثلاث وجبات متتالية كانت الأولى من لحم الضأن المحمر ثم رفعت الأطباق وجيء لنا بمائدة أخرى من الدجاج المحمر وكانت هذه أطيبها وأكثرها شهية خصوصا الكمثري المطبوخ الذي كان يزين المائدة. وكان الطبق الأخير يتكون من السمك. ولم أدرك أن المطبخ المغربي متنوع وأن فيه ما لذ وطاب من الأصناف غير الطجين والكسكس وهما الطبقان التقليديان اللذان ارتبط اسمهما بالمطبخ المغربي وتوغلا الآن داخل المطابخ العالمية المختلفة. وبعد تناول الطعام قدم لنا الشاي بالنعناع .

ولا تختلف وجدة عن غيرها من المدن الحدودية في العالم التي يمر عبرها كل ما هو غريب إلى الداخل دون أن تحتفظ لنفسها منه إلا بالنذر القليل جدا . وهي سيدة الشرق المغربي بلا منازع . ويبدو أن كل شخص في وجدة مشغول أو يظهر انشغاله بشيء ما فلم أر الناس الذين يمكثون كثيرا في المقاهي كما أن المقاهي هنا اقل مما رأيته لاحقا والحركة هنا كبيرة لم أر مثلها إلا في الدار البيضاء كذلك شعرت بالفارق بين بركان ووجدة فيما يتعلق بالتزام المشاة بالسير على الرصيف . ويبدو أن وجدة مدينة مهاجرين قدامي عاد معظمهم للراحة بعد عناء الاغتراب فمن منهم من شيد قصرا ومنهم من اكتفي بإعادة ترميم البيت القديم ومنهم من اقتنع بما انتهي إليه وتقاعد .ولا يقبل الوجوديون بالعطايا دون مقابل كما أن التسول اقل مما شاهدته خارج أسواقهم فضلا عن أن اهتمامهم بالغريب ليس غادرت وجدة في طريقي إلى الناضور بواسطة تاكسي كبير. وللتاكسي في المغرب قصة طويلة. فهو متوفر في كل مكان ويدل ذلك إلى توافر وسائل المواصلات في المغرب وجودتها وتنوعها. ففي كل مكان تجد ما تريده من تلك الوسائط . والتاكسي في المغرب، ويسمونه طاكسي بقلب التاء طاء نوعان: طاكسي كبير وطاكسي صغير أو طاكسي صغيرة بإضافة تاء التأنيث كما في وجدة. ويقال أن مدرسا مصريا منتدبا لجامعة محمد الأول في طنجة ابدي استغرابه من قلب التاء طاء في التاكسي وازدادت دهشته عندما لاحظ إضافة تاء التأنيث إلى تسمية التاكسي فقال لهم : " اه دا انتم زودتوها أوي.. طاكسي وكمان صغيرة ." ـ بالتشديد على الياء على طريقة اللكنة المصرية. وسواء كانت سيارة الأجرة تاكسي بالتاء أو طاكسي بالطاء وسواء تم تأنيثها وتذكيرها فهي في المغرب افضل مما في غيره من سائر البلدان العربية حسب اعتقادي، لأن نظام التاكسيين يساعد كثيرا في تنظيم وتسهيل التنقل . فالتاكسي الصغير لا يعمل إلا في داخل المدن وأما التاكسي الكبير فهو خاص بالتنقل من مدينة لأخرى أي أنه يتنافس مع خط الحافلات وبإمكان المرء أن يستأجره منفردا أو أن يشارك غيره من المسافرين في ركوبه. وهذا يعنى إن أجرة التاكسي في المغرب اقل من غيرها كما أن الغش فيها طفيفا ففي حال التاكسي الصغير يمكن للشخص أن يدفع الأجرة وفق جهاز العداد في غالب الأحيان وفي التاكسي الكبيرة فأن الأجرة محددة لأنها مقسمة بين الركاب الخمسة في حالة المشاركة أو من مجموع ما يدفعونه في حالة الأجرة المنفردة.



وجدة…سيدة الشرق المغربي

تحرك التاكسي بنا من وجدة نحو الناضور وطلب أحد الركاب من السائق تشغيل شريط موسيقي خاص به دون أن يستأذن الآخرين والذين لم يعترضوا أيضا على ذلك بل لعلهم ، مثلي، استحسنوا سماع الموسيقي بدلا عن أزيز محرك السيارة. ووصلت إلى الناضور الساعة التاسعة مساء أي بعد أن بدأت الشوارع تخلو من المارة خصوصا في يوم ذي مطر.

الناضور منظار السلامة

التسمية الرسمية للناضور هي الناظور لأنها تأسست أول ما تأسست كقاعدة لمراقبة بوارج العدو وسفن القراصنة والتأهب لصدها ولكن بمرور الزمن قلبت الظاء ضادا كما يحدث في كثير من اللغات العامية العربية فأصبحت الناظور ناضورا كما المنظرة منضرة في السودان والظلام ضلاما أو العكس حيث يقلب الظاء ضادا كما في ليبيا حيث يصبح لفظ الوضع "الوظع". لكن الأوراق الرسمية ما زالت تحمل التسمية الصحيحة.

لقد أحببت الناضور التي مكثت فيها فترة طويلة وأحببت ناسها الطيبون الذين تشع سيماهم بالسرور . ولعل سكانها أكثر سكان المغرب تقربا بالضيف وأزيدهم ألفة وربما كانوا الأكرم . فما أن تجلس في مقهى حتى وتجد من يبادر التعرف عليك . ويصر على دفع ثمن المشروب .

جلست في المقهى الذي يقع قبالة الفندق وهذا أيضا ما تمتاز به مدن الشمال حيث يوجد مقهى أمام كل فندق أو بالقرب منه مما يسهل على الضيوف التعرف على السكان ويتيح لهم خيارا أوسع في تناول مشروباتهم. وكان المقهى ملئ بالرواد وجلس إلى جواري شاب عرفني بنفسه ثم دعا صديق آخر له وعرضا علي التنزه في المدينة وتعريفي بمعالمها . وسرت مع فريد ومحمد وهذا اسميهما ألي الكورنيش والى المقاهي الراقية في المدينة وتحدثنا كثيرا عن الناضور .




منظر من الحسيمة

وفي اليوم التالي اتصلت هاتفيا بصديق لأحد معارفي واسمه محمد أيضا. يلاحظ أن اسم محمد هو الاسم الشائع في المغرب .وطلب مني أن انتظره في الفندق في الساعة الثانية عشر وهو وقت انتهاء الدوام الأول للعمل في المغرب ودعاني إلى منزله لتناول الغداء ثم جاء في المساء أيضا ودعاني لتناول العشاء مع مجموعة من الأصدقاء. واندهشت لهذا الكرم الفياض الذي لم أر مثيلا له في أي مكان وطأته قدماي حتى الآن

الحسيمة : الجمال فطري


غادرت الناضور بالتاكسي إلى الحسيمة. كان الطريق إلى ميناء الحسيمة طريقا جبليا كثير الإلتواءات والتعاريج مما جعل الرحلة طويلة وشاقة . وتقع الحسيمة في السهل البحري مطلة على خليج نصف دائري يحمل اسمها وتحيط بها من الجهات الأخرى جبالا وتتميز المدينة بأبنيتها البيضاء ذات الأبواب الزرقاء وهي بذلك أشبه بمدن الساحل الشمالي و تقوم على تلال عدة مما جعل شوارعها أشبه بشوارع سان فرانسيسكو. وللحسيمة أيضا فنادق ممتازة من الدرجة الأولى وبها العديد من الأندية الفخمة.

ورغم أن المدينة تبدو صغيرة وشبه خالية من المارة في النهار إلا أن أمسياتها حافلة بجموع الناس والأسر التي تخرج لتتنزه في اكبر ساحاتها ساحة المسيرة الخضراء . تجولت في شاطئ الحسيمة برماله الذهبية .وتحمل المدينة بعض السمات الأسبانية التي تظهر في طراز المباني وفي القيلولة الهادئة . كما أن الحماس الذي يستقبل به سكان الناضور زائرهم طفيف هنا في الحسيمة إذا استثنينا محطات الحافلات والتاكسيات حيث يندفع الصبية نحو الركاب ليقودهم نحو المركبات

جلست في المقهى طويلا قبل التعرف على شخص بادرت أنا بتعريفي نفسي إليه ومضى وقت طويل قبل أن نبدأ جولة في المعالم السياحية القريبة حتى انتهى لقاءنا في شارع محمد الخامس أكبر واجمل شوارع الحسيمة وحيث المقاهي والمحلات التجارية. وعدت مرة أخرى إلى الساحة القريبة من الشاطئ والتقيت بشخص أخر لا لاحظت على الفور اختلاف سحنته وكسوته عما حوله من الناس وعلمت منه فيما بعد انه معلم بمدرسة ابتدائية تم نقله من فاس إلى مدارس الحسيمة وأبدى لي إعجابه بموقعه الجديد في الحسيمة وكان واضحا إنه معلم من الأسلوب الفصيح الذي كان يستخدمه في حديثه وأنه من خارج الحسيمة. .

ومن المعالم الملفتة للنظر والمثيرة للفضول في الحسيمة هو الجزيرة الصغيرة الواقعة قبالة شاطئها . وما أن يصل المرء هناك حتى ويشير إليه الناس بأن تلك الجزيرة مازالت خاضعة للأسبان وبها سجنا قديما وحصنا . ومعروف أن تاريخ الحسيمة مرتبط بالاستعمار الأسباني. أما الآن فهي تشكل مركز صيد وبها ميناء صيد ومازالت تحافظ على أهميتها الاستراتيجية كمركز إداري للمنطقة فهي ولاية.

ومن الحسيمة استقليت سيارة أجرة إلى بلدة بني بوعياش عبر طريق جميل تصطف على جانبيه أشجار الصفصاف الطويلة الخضراء . . وشاهدت على البعد سد عبد الكريم الخطابي وهو من رواد الحركة التحررية في المغرب ضد الاستعمار الأسباني . وكان قد نجح من طرد الأسبان من تلك البقاع .



- محطة الترود بالوقود- بني بوعياش

وتمتاز بني بوعياش بأصالة الأرياف وبساطة أهل البوادي . وكان الناس ينظرون إلى بالابتسام ويلقون علي بالتحية في كل خطوة وكل وقفة في الشارع الكبير الذي تقوم على جانبيه المحلات التجارية بأبوابها المقوسة وأعجبني الجو العام هناك. ويكثر هنا الشيوخ والصبية الصغار مما يدل أن معظم شبابها قد هاجر إما إلى المدن القريبة أو عبر البحار. ومن بنى بوعياش ذهبت إلى قرية امنود . وهي عبارة عن بني بوعياش مصغرة أو ناشئة .ولكن مما لفت انتباهي هو أسوار المنازل التي تتكون من شجر الصبار ومجارى محفورة حول السور.



تحركت الحافلة الشعبية من محطة الحسيمة بعد الظهيرة ويعنى هذا أن الرحلة ستكون ليلية ولهذا فأنني لم استطع مشاهدة الكثير في الطريق نحو طنجة. وكل ما اعرفه هو أن الطريق كانت صعبة وان السيارة كانت تقطع جبال وأغوار منطقة الريف الجميلة وتمكنت من مشاهدة القرى البربرية الصغيرة المنتشرة على سفوح الجبال قبل أن يسدل الليل أستاره وكان الرجال بجلابيبهم الصوفية المخططة والنساء يضعن قبعات من جريد النخيل كالتي يستعملها المكسيكيون وتميزهن أزيائهن التقليدية البيضاء والحمراء. إنه منظر خلاب أن ترى هؤلاء الفلاحين في قراهم ا لتي يقطنوها منذ أجيال وأجيال . ويبدو أن كل شئ هنا تقليديا ومحافظا لكن الحقيقة أن الجديد أخذ يطغى على هذه البقاع فقد رأيت راعيا يرتدي بنطال الجينز ودراجته البخارية بجواره وفي يده عصا يهش بها على أغنامه في المرتع. هذه هي جبال الريف واسميها أنا أطلس الريف لأنها لا تختلف كثيرة عن سلاسل الأطلس الثلاث الأخرى وهي يمكن أن تكون منطقة سياحية لعشاق تسلق الجبال فهنالك قمم عالية مثل جبل تدغين وارتفاعه 2448 مترا وتنتشر فيها أيضا غابات الأرز والفلين والصفصاف.

وبعد أن غادرت الحافلة كتامة أخذتني نومة عميقة لم أصح منها إلا عند توقف محرك الحافلة في مدينة شفشاون عند الفجر . وعرفت أن المدينة تعني "القمم " باللغة الأمازيغية وهي تقع على قمة جبل على خلاف المدن والقرى البربرية التي تقع على سفوح الجبال أو ضفاف الوديان . وعلى اضواء الأنوار الناعسة لاحظت جدران المدينة المطلية باللون الأبيض وابوابها ذات الطلاء الأزرق الخفيف . وقرأت فيما بعد أن مؤسس المدينة هو السلطان مولاي على بن رشيد في سنة 1471 تم خضعت لدولة السعديين . وفي سنة 1672 بنى فيها مولاي إسماعيل دارا للمخزن ـ والمخزن هو مصطلح مغربي تاريخي يعني الحكومة . وفي مصدر آخر قرأت أن من أسس شفشاون هم الأندلسيون الذين عادوا من أسبانيا بعد اندحارهم أمام الأسبان وقد فتنهم جمال المنطقة الطبيعي وتوافر المياه فيها فأقاموا بها غرناطة جديدة

وتقطن جبال الريف القبائل الريفية وهي إحدى المجوعات البربرية الثلاث: الشلوح القاطنين في غرب الأطلسين الكبير والصغير، والبربر القاطنين في الأطلس المتوسط وشرق الأطلس الكبير إلى جانب المجموعة الريفية في جبال الريف والتي تضم قبائل بني يزناسن في مثلث وجدة ـ بركان ـ تاوريرت. ثم قبيلة بوياحييي فوق اعالي جرسيف فقبائل بني توزيت وغزناية وبني ورياغل وبني يقويا حول منطقة اجدير وقبائل بني بوفراح وبني زروال وبني سنار قرب وزان والبرانس في شمال تازة والكلعيين في الناظور.

أرسلت بصري على ضوء الفجر إلى تلك الجبال الشماء واسترجعت شريط التاريخ وكيف كان الأسلاف المغاربة يزودون عن تلك البقاع ويبنون المدن ويقدمون للبشرية حضارة راقية وقيم إنسانية . وعندما انقشع الشفق كانت الحافلة قد دخلت محطة تطوان وظننتها في البدء طنجة لأنني سرعان ما لاحظت الفارق بينها وبين المدن الصغيرة التي مررنا بها فقلت لا بد أن تكون هذه طنجة خصوصا وأن الشوارع هنا عديدة وممتدة على امتداد البصر والبنايات شاهقة تشرأب نحوها الأعناق وحركة المرور مزدحمة. واستغرقت الحافلة وقتا طويلا قبل أن تدخل أسوار المحطة القديمة لكن مساعد الحافلة قال لي : لا. . هذه تطوان .


تطوان الحمامة البيضاء وطنجة عروس المتوسط


غادرت تطوان مع الحافلة لكي أعود إليها مرة . أخرى. والمسافة بين طنجة وتطوان قريبة جدا. وهذه إحدى مزايا المغرب العديدة حيث لا تبتعد المدن عن بعضها البعض كثيرا. فهي تتكامل مع بعضها وتتبادل التجارة في أسواقها الكبيرة وفيما بينها تقع القرى والبوادي . هنالك توازنا بين الحضر والقرى فليس البلاد مدنا مكدسة بالناس والأسمنت المسلح ومركبات الوقود ولا هي تتكون من بوادي شحيحة السكان قليلة العمران. بل أن بعد كل قرية مدينة وبعد كل مدينة قرية . ويربط بين هاتيك وهذي شبكة من طرق دائرية .

طنجة عروس البحر المتوسط لها تاريخا حافلا حينما اصطدمت مصالح الدول الكبرى في تلالها ومياهها وطالب بها الكل ؟ وتكالب علي إدارتها البرتغاليون والأسبان ثم الفرنسيون . واحتدم الصراع حول طنجة فيماعرف بالمسألةالمغربية انذاك .

طنجة الآن غدت مدينة سياحية ومركزا كبيرا للتجارة والمواصلات فهي إحدى الجسور الرئيسة لأفريقيا مع أوربا . ولهاكورنيش طويل تطل عليه الفنادق على اختلاف مستوياتها والأندية الليلية والمطاعم والمقاهي السياحية .قال لي أحد سكانها : إذا أردت أن تعرف سحر طنجة فتعال عشاء إلى هذا الشارع الذي لا ينام..

نزلت من الحافلة وقد أعياني السفر واتجهت بخطى متثاقلة إلى داخل بهو المحطة وألقيت بنفسي في أول مقعد وطلبت من الندل أن يأتيني بفنجان قهوة وقطعة كعك . وبعد ذلك جمعت بقايا قواي واتجهت نحو صفوف التاكسيات لأستقل إحداها إلى قلب المدينة وفي الطريق سألت السائق عن شارع تكثر فيه الفنادق فأخذني إلى الكورنيش ونزلت من التاكسي حاملا حقائبي الثقيلة ودلفت إلى أول فندق لمحته عيناي لكن موظف الاستقبال طلب منى أن أجيء بعد الثانية عشر . أي بعد أربع ساعات بالتمام . وغادرته إلى فندق أخر وثالث لأسمع الطلب ذاته. فسلمت أمري لله وجلست في أحد مقاعد المقاهي ريثما تحل الظهيرة ويغادر المغادرون فتستقبل الفنادق ضيوفها القادمون الجدد.

أثناء تجوالي في الكورنيش المطل على خليج طنجة شاهدت تجمعا كبيرا من الشبان بالقرب من أحد الفنادق الكبيرة بالمدينة وعلمت بأن هنالك مخرجا سينمائيا فرنسيا يريد تعيين كومبارس لفيلم له يقوم بتصويره في المغرب فكل صباح يفد إليه عشرات الشبان ليختار منهم . وسألت اثنان من هذا الكومبارس فأخبرني أحدهم بأنه جاء من أصيلة والآخر من الرباط. بالعاصمة وتماما كما في المدن المغربية الأخرى تعتبر ليالي طنجة أروع من أوقات النهار خصوصا على الكورنيش والشوارع المتفرعة عنه . وترى الناس يغدون ويروحون فيه زرافات ووحدانا . ولكل ساعة من ساعات الليل جمهورها الخاص بها . ففي الساعات الأولى من الأمسيات يعج الشارع بالعائلات وأطفالهم ثم يزداد أعداد الشبان والشابات الفرادى تدريجيا حتى إذا ما تجاوز الليل منتصفه يبدأ رواد الحانات والمراقص سهراتهم ويظهر أفراد الشرطة حتى لا ينفرط عقد النظام في هذا الشارع العجيب. وتسير السيارات بسرعة جنونية ثم يبدأ عدد المارة والمتجولين في التضاؤل وسرعان ما يظهر نفر أخر من نوعية أخرى يشق الشارع وهم عمال الميناء والصيادون .

ويتحدث الطنجيون بلكنة خاصة بهم تستسيغها الإذن لرقة مخارجها وتتابع نغماتها ولم أسمع في المغرب كله لكنة رائعة ومحسنة مثلها إلا في الدار البيضاء. وهي تختلف عن لكنة الناضور والحسيمة في الشمال الذين يستخدمون مفردات أخرى تخرج قوية مخشوشنة أحيانا




طنجة...عروس المتوسط

وتبدو العامية المغربية في بادئ الأمر صعبة المتابعة ولكن مع مرور الزمن يمكن للمتحدث العربي أيا كانت لهجته أن يتابع قسطا كبيرا منها. ويستخدم المثقفون شأنهم في ذلك شأن زملائهم في بقية أرجاء الوطن العربي المفردات العربية الفصحى لتزيين الأسلوب في لغتهم العامية وتبسيطها مما يسهل الحديث معهم في الموضوعات التي تهمهم.. وتماما كما في بقية الدول العربية يوجد الكثير من المغاربة الذين يفهمون العامية المصرية لغة السينما العربية والمسلسل العربي في كافة التلفزيونات العربية .

يهتم سكان طنجة بالرياضة خصوصا التمارين البدنية فترى الأفراد في الصباح يمارسون رياضة العدو والمشي وفي الأمسيات تشاهد الشبان حاملين حقائبهم إلى الأندية الرياضية وصالات التمارين. وكثيرا ما كان حديثهم معي يدور حول الرياضة وكثير منهم حدثني أنه يمارس نوعا أو أنواعا من الرياضة مثل كرة القدم والتنس بل الكاراتيه والجودو .هذا الاهتمام المكثف بترويض النفس يدل على أسلوب معاصر في نمط الحياة

في اليوم الثالث من تواجدي في طنجة استقليت الحافلة إلى تطوان ومررت بسهل ساحلي تنتأ على سطحه كثبان غرينية سوداء. وبعد مرور نصف ساعة تقريبا برزت تطوان كفتاة بيضاء مجدولة الشعر تقف باستحياء على سفوح الجبال . وما أن يدخلها المرء حتى تتأكد له حقيقتين : الجمال والثراء. فالمدينة سوقا تجارية حافلة بكافة السلع الاستهلاكية المستوردة ولعل السر في ذلك قربها من مدينة سبتة حلقة الوصل المباشرة مع أوربا. كذلك لا تخطأ العين الفاحصة نسبة الجمال في المدينة فهي ملتقى سياحي كبير .وتجولت في شوارعها الضيقة القديمة والحديثة المتأثرة بالطابع الأسباني . ولأول مرة منذ قدومي إلى المغرب لاحظت وجود كنيسة في وسط تطوان . وفي الساحة الكبيرة يقع القصر الملكي بجوار عدة فنادق شعبية صغيرة ومقاهي رائعة بينما يحتشد على الأطراف باعة متجولين . والتقيت هناك بمن هرع لمساعدتي في التعرف على معالم المدينة وأسواقها بما ذلك سوق الخضر.

وفي مقهى صغير بالقرب من القصر جلست لأشرب شاي النعناع وكانت بالمنضدة الصغيرة ثقوب بحجم أكواب الشاي . وظل دليلي زهاء الساعة يقودني عبر الشوارع والأزقة والساحات ومن سوق الخضراوات والتوابل إلى سوق الحدادين وسط خلية من النشاط والناس

Home

Back