Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

 

موقـع المبدع و النــاقد خليفــة بباهـــــواري

موقــع متنــوع و شـــــــامل


 

 
 

الرئيسية

 صاحب الموقع

الإسلامي

FRANCAIS

واحة الأصدقاء

 


شعر

قصة

رواية
نــقد
دراسات
فلسفة
حوارات
مقالة
مسرح
دين

فنون

تراث









 



 

جمالية التلقي : منهج جزئي1

فصل من كتاب جمالية التلقي لهانز روبرت ياوس

ترجمة : خليفة بباهواري

 

 

     إن جمالية التلقي, التي كانت مجهولة قبل سنوات قليلة, لدرجة أصبح معها من الواجب إبراز الإمكانيات التي توفرها لتجديد تاريخ الأدب المتهالك, تثير الآن اهتماما متزايدا لدى الباحثين,كما تؤكد  ذلك موجة أولى من "تاريخ تلقي..." الذي حل محل الشكل المقدس ل"النجاحات الأدبية".

     ولأنها منهج ما زال لم يؤمن بعد قواعده, فهي معرضة للهجمات المتكررة من طرف النظرية المسماة ب"البورجوازية" أو من طرف النظرية الماركسية للفن. فهي من جهة مرفوضة ك"دمقرطة منافسة للتقاليد أو متهمة باندراجها تحت المادية التاريخية؛ و من جهة أخرى يكشف عن عداوتها الحاذقة للشيوعية.

          وبالتالي فهناك من يحتقر "هذه الأريكة المريحة الموضوعة بين كرسي البحث الأدبي المتورط سياسيا أو الذي لم يعد مستعملا وكرسي العلم الأدبي للمادية التاريخية".2

                    لن أتموقف هنا سياسيا حول هذه المظاهر السياسية للتطور الذي لا يمكن أن نعرف بعد في تاريخ العلم هل يمثل ولادة نموذج جديد لمعرفة التاريخ أو مجرد احتضار للثقافة التاريخية.سأكتفي فقط بالرد على الانتقادات محاولا توضيح ما يمكن لجمالية التلقي أن تحمله و ما يمكن أن لا تحمله لوحدها للتجديد الحالي الذي يطال التفكير حول الفن وحول تاريخانيته وحول علاقته بالتاريخ بصفة عامة.لقد سبق لماندلكو أن أجاب بإفاضة عن السؤال الذي طرح لمعرفة لماذا لم تطور النظرية الجمالية "تاريخ الآثار" و جمالية التلقي منذ فريدريك شليجل إلى النقد الجديد, ولماذا تراجع الاهتمام بهما. إن فكرة استقلالية المنتوج الأدبي تستبعد طرح الآثار التي ينتجها ووظيفتها في المجتمع.لقد كان للمرور من الوعي الجمالي إلى الاستقلالية والذي يميز المثالية الألمانية عن العقلانية نتيجة تجلت في تثبيت القطيعة بين التجربة الجمالية والتطبيق العملي    (praxis). بيد أنه لا يمكننا اليوم أن نتجاهل أن زمننا يستلزم من الفن ومن نظريته و تطبيقه أن يجعلوا من " ضرورة الحاضر إحدى فضائل التاريخ.ّ" 3

    لنوضح أكثر:إن هذا الفن الذي اختمرت استقلاليته إلى أن وصلت حد العقيدة المؤسساتية يجب أن يخضع من جديد لقوانين الفهم التاريخي في نفس الوقت الذي يجب فيه أن يخضع دوره الاجتماعي ووظيفته التواصلية اللذان افتقدهما للتجربة الجمالية.

  إذا اعتبرنا في هذا الإطار المهمات التي يجب أن يتحملها كل من نظرية الفن وتاريخه والذان هما في طور إعادة التكوين , فسندرك أن جمالية التلقي يمكنها أن تساهم في اكتمالهما.وسيتم هذا بالطبع بإيجاد قطيعة مبدئية مع الأعراف العلمية المثبتة دون أن تطالب بصفة المجال المنهجي المتكامل . فجمالية التلقي ليست مادة مستقلة مبنية على قواعد تمنحها القدرة على حل المشاكل التي تواجهها, لكنها تفكير منهجي جزئي من شأنه أن ينضم إلى مناهج أخرى وأن يحقق تكاملا معها للوصول إلى نتائجه.

  وسأترك مجالا لآخرين لن يكونوا خصما وحكما كي يقرروا, في مجال العلوم الهرمنطيقية و الاجتماعية , ما إذا كان يجب اعتبار هذا الاعتراف بالنقص من طرف هذا المنهج علامة على ضعفه أو على قوته. و مهما يكن الأمر, وعكس النظريات المثالية والمادية التي تؤكد طموحها انطلاقا من مقدمات متعارضة (استقلالية أو تبعية الفن في ولادته أو تبليغه) لتكون مناهج تامة وشاملة, فإن جمالية التلقي تستنبط خاصيتها الجزئية من وعيها بلا إمكانية فهم العمل في بنيته والفن في تاريخه ,حاليا,  كجواهر( أو ككمال أول).           

   إذن, إذا كنا لا نريد أن نحدد الطبيعة التاريخية لعمل ما مستقلة عن النتائج التي أفرزها , وإذا لم نستطع أن نعتبر أن تاريخ فن ما يرتبط كله بتتابع الأعمال مستقلة عن الاستقبال الذي حظيت به, فسيكون من الواجب علينا أن نؤسس الجمالية التقليدية المرتبطة ب"الإنتاج" والتمثل على جمالية التلقي.هذا العمل لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يعطي للفن وللأدب تاريخا مستقلا. فالخاصية الجزئية للتلقي بالنسبة للإنتاج و التمثل توافق جزئية تاريخ الفن مقارنة مع التاريخ العام (باعتبار الأول جزء من الثاني). وتاريخ للأدب وللفن مبني على جمالية التلقي يفترض الاعتراف بهذه الجزئية , بهذه "الاستقلالية النسبية" للفن. ولهذا بالضبط يمكن لتاريخ الأدب والفن أن يساهم في فهم العلاقة الجدلية بين الفن والمجتمع, وبتعبير آخر, العلاقة بين الإنتاج والاستهلاك والتواصل داخل التطبيق العملي التاريخي الشامل ؛علما بأن الإنتاج والاستهلاك والتواصل يشكلون بعض عناصر التطبيق العملي.

 لقد تمخض عن النقاش الدائر إلى حد الآن ثلاث إشكاليات رئيسية، يجب حسب رأيي تمحيصها:

1-     التلقي والفعل (أو الأثر الذي يخلفه العمل) وهو ما يحيلنا على المشكل الهرمنطيقي المرتبط بمعرفة أي دور تلعبه المزدوجة سؤال – جواب في المرور من تركيب أحادي إلى تركيب جدلي للمعنى.

2-     التقليد والانتقاء: كيف يتمفصل الترتيب الثقافي اللاواعي والاكتساب الناتج عن اختيار واعي حسب أفق الانتظار الذي يمكننا من تحليل تجربة جمالية معينة.

3-     أفق الانتظار والوظيفة التواصلية: حسب كلاوس طراجر ( Claus Trager) الذي يعتبر، وعلى حق، السؤال التالي سؤالا قاطعا: "كيف يمكن للأدب أن يفهم في واقعه الحالي، وكيف يمكن أن يتصور كقوة من بين القوات التي تصنع التاريخ؟" إن المثال الذي أعطيناه سابقا حول إيفيجيني (Iphigénie) 4 عند غوته وعند راسين، لا يقارب في ذاته إلا معطيات جزئية من هذا الثالوث الإشكالي، هذا المثال الذي يدرس من زاوية تاريخ التلقي موضوعا ميثولوجيا كما عالجته الكلاسيكية، لا يمكن أن يعوض تحليلا منهجيا لأفق الانتظار الذي تدخل ضمنه إيفيجيني لغوته عند ظهورها. تحليل يجب أن يتحول بدوره إلى تقديم للوضعية الاجتماعية. لكن بإمكان هذا المثال أن يوضح في بعض النقاط الطريقة التي يجب بواسطتها على جمالية التلقي أن تنتقل من تلقي العمل الفردي إلى ميلاد قوانين فنية، وإلى التحيين والتجميع ثم أخيرا إلى جعل التجربة الجمالية تنفتح على مجموع التطبيقات العملية الإنسانية التي هي جزء منها.

                    - التلقي والأثر الناتج عن العمل:

  ربما سيظهر مثال إيفيجيني أن تأويلا من هذا النوع لا يحجم بنية العمل الفني في نتاج مبسط لتلقيه. إذا عرفنا العمل كناتج عن التقاء العمل بتلقيه، وإذن كبنية دينامية لا تفهم إلا من خلال "تحققاتها" التاريخية المتتالية، فلن يكون صعبا أن نميز بين فعل العمل والأثر الذي ينتجه من جهة وبين تلقيه من جهة ثانية. هذان العنصران هما مكونا التحقق أو العنصر المكون للتقليد. فالأول ,أي الأثر,محدد بواسطة النص, بينما الثاني,أي التلقي,محدد بواسطة المرسل إليه(المتلقي). ويفترض الأثر نداء أو إشعاعا نابعا من النص وكذلك قابلية للتلقي من قبل المرسل إليه الذي يتملك النص.

        إن مفهوم "تاريخ النتائج" يؤدي إلى فهم معكوس عندما يظهر أن أثر عمل فني ما يتكون من طرف واحد, في/من طرف العمل ذاته. ففي خطاب تاريخي من نوع "مجد..(+مضاف إليه)" أو بتعبير أقل تفخيما "تأثير..(+مضاف إليه)" لا تتضح جليا الخاصية الوهمية لظاهرة الإرسال التي تتكون من تلقاء ذاتها.

            لا يمكن إدعاء دراسة تاريخ تلقي الأعمال إلا إذا اعترفنا وقبلنا بأن المعنى يتكون عن طريق لعبة حوار وجدلية متداخلة الذوات. فلكي يستمر عمل من الماضي في فعاليته يجب عليه أن يثير الانتباه المستمر أو المتعمد لدى الأجيال القادمة التي تتابع تلقيه أو تعاود ربط خيط الوصال معه. سأعود لاحقا إلى هذا التمييز الذي يفرض نفسه في هذا الإطار بين هذين السياقين: السياق المستتر الذي يؤسس التقليد والسياق الواعي الذي يهيئ القوانين الفقهية. أما السؤال الذي يطرح نفسه هنا فهو معرفة كيف يتمفصل الأثر والتلقي، العمل الفني كشاهد على الماضي والفهم الذي يعيد له قيمة الحاضر.

        إن التكوين الجدلي للمعنى يتطلب ضمن التجربة الجمالية مراعاة تواصل بين واجهتي الشكل والمعنى، وبتعبير آخر فهو يفترض أن الموضوع الجمالي يتوفر في نفس الوقت على خاصية الشكل الفني (وهو ما تمثله الوظيفة الشعرية في ميدان الكتابة) وعلى خاصية الجواب. فإذا انبعث العمل الفني من بقايا الماضي الصامتة و استطاع أن يقول شيئا للأجيال القادمة فليس ذلك راجع فقط ل "شكله اللازمني": إن الكلاسيكية الجديدة الكلفة للقديم لا يمكنها لوحدها أن تحفظ إيفيجيني لغوته من النسيان لأن شكل العمل، وجودته الفنية على الخصوص واللتان تتعاليان عن الوظيفة اليومية للكلام هما ما يجعل من العمل شهادة على فترة معينة، ويحافظ على معنى العمل، باعتباره جوابا ضمنيا يحدثنا من داخل العمل، ويجعله مفتوحا وحاضرا.

        يجب علي هنا, مذكرا بالنقد الذي وجهته لجادمير (Gadamer) وبارت، أن أؤكد بالخصوص على أنه في إطار تاريخ تأويل عمل ما يبقى الجواب والسؤال في أغلب الحالات ضمنيين. إن أثر العمل وتلقيه يتمفصلان في حوار بين إنسان/ موضوع معاصر وخطاب من الماضي. ولا يمكن لهذا الخطاب أن "يقول شيئا" لهذا الشخص (حسب جادمير: أن يقول له شيئا كما لو أنه يتحدث إليه بصفة شخصية) إلا إذا اكتشف الشخص المعاصر الجواب الضمني الموجود في خطاب الماضي، ويدركه كجواب على سؤال يطرحه هو في حاضره. يمكن أن نطبق على تجربة الفن في الماضي قولة يورغ دروس) (Jorg Drews المقتضبة:  " التاريخ لا يقول شيئا، بل يجيب."

    ولا يمكننا أن نسمح لأنفسنا، بدون عواقب، بتجاهل المشاكل المرتبطة بالمسافة التاريخية و "بانصهار الآفاق" مؤكدين ببساطة مع كايزر (Kaiser) أن "مادة الأدب الكلاسيكي" هي بهذا الغنى لأنها "من قرن لآخر تضع على القارئ دائما نفس الأسئلة، ولكن أيضا أسئلة دائمة التجدد يكفيه أن ينصت قليلا وأن يقوم بمجهود لإدراكها. بينما أعمال أخرى تشيخ عندما تصبح مألوفة لأن طاقتها الاستفهامية ليست من النوع الذي لا ينضب وأن الأسئلة التي تتضمن إجابات عنها ليس لها إلا اهتمام تاريخي."

    بالطبع فالتلقي يستلزم التساؤل لكنه يتجه من القارئ نحو النص. أما قلب الاتجاه فيؤدي إلى السقوط في الجوهرية: فالأسئلة الأزلية توجد نفسها باستمرار, و الأجوبة هي أيضا صالحة إلى ما لا نهاية. بالإضافة إلى أنها تبرز أن هناك نسيانا لدور الفن الذي يلغي في أصله طرح السؤال و استيعابه مباشرة , لأنه يطرح افتراضية المعنى.

    النص الأدبي ليس درسا دينيا يطرح علينا أسئلة تعرف أجوبتها مسبقا. فعكس النص الديني الشرعي الذي يعتبر سلطة و الذي يحمل معنى يجب أن يستوعبه كل من له "أذنين تسمعان", فالنص الأدبي يتأسس  كبنية مفتوحة حيث يتشكل المعنى داخل حقل حر من الفهم الحواري، هذا المعنى ليس " موحى به" منذ البداية، بل " يتحقق" عبر مجموعة تلقياته المتتابعة والتي يشكل تسلسلها إجابة على تسلسل الأسئلة والأجوبة. فمثال إيفيجيني يحاول أن يجيب على السؤال الذي يطرح حول الطريقة التي يتشكل بها المعنى عندما يتحقق هذا التسلسل الذي يكون في الغالب خفيا بوعي عند أي شاعر. هذا هو اتجاه طريقتنا الهرمنطيقية المنطلقة من السؤال الذي يطرحه علينا اليوم جواب التأويل التقليدي كي نعبر إلى السؤال الأصلي كما يمكن أن نعيد تركيبه افتراضيا ثم نصل عبر تحولات الأفق المرتبط ب" التحققات " المتتالية إلى السؤال المتجدد الذي يحيلنا عليه النص, السؤال الذي يجب أن نطرحه اليوم والذي سيجيبنا عليه النص ضمنيا أو لن يجيبنا عليه.                  

    إن جمالية التلقي تحاول إضاءة تطور العلاقة بين العمل و الجمهور, بين أثر العمل و تلقيه,مستعملة في ذلك المنطق الهرمنطيقي المتكون من السؤال والجواب. و لذلك فلا يمكن حتى لجمالية ماركسية أن تستغني عنها, و لو أكدت مع وارنيكن "أن الإنتاج و الاستهلاك هما لحظتان من سياق يعتبر الإنتاج نقطة انطلاقه الحقيقية وإذن العامل المهيمن فيه."

    يمكن للقوى الإنتاجية و لصيغ الإنتاج أن تحلل من طرف الاقتصاديين أو تغنى من طرف الشعراء  و لعلاقات الإنتاج أن تنتقد أو تحسن, لكن من المستحيل أن نكتشف ببساطة, عن طريق الأعمال الفنية الماضية المعطيات الاقتصادية التي عاصرتها أو أن ندعي تكوين إحداها انطلاقا من الأخرى منادين ب"تشابهات" أو " بتطابقات" غريبة مع وثائق التاريخ الاقتصادي و الاجتماعي التي "أصبحت خرساء". هنا ترتبك النظرية الماركسية للمعرفة,لأنه لا يكفي بصراحة أن نعتقد في أسبقية البنية التحتية الاقتصادية كي نرى من الخارج, وبشكل مغاير, كيف أمكن ل"شكل إنتاج الغنى المادي " في الماضي "أن يحدد قبليا خاصيات الإنتاج الأدبي". هل يريد وارنيكن أن يجيب عن السؤال الذي لا أطرح, من دون أن أنفيه بالطبع و هو: "إلى أي حد يقتصر الوعي المتلقي على تأكيد مضمون التحولات التي تطرأ على معنى الأعمال (الأدبية) نتيجة تغير السياق الاجتماعي الذي يفلت في المجمل من(قبضة) الوعي؟ " لن يستطيع وارنيكن, أو غيره, استنتاج أي إرشادات من المجلى المنتج لهذا السياق الصامت إذا لم يقم أولا, أثناء دراسته للمجلى المتلقي للتجربة الجمالية في الماضي, بإعادة تركيب المنظور الكلي الذي تطرح فيه الأسئلة الأيديولوجية والمشاكل الاجتماعية التي أجاب العمل عليها في السابق؛ ولا يهم هل أكد النظام القائم جوابه أو أنكره.

    وكجواب متضمن في العمل, وإذن كعامل ضمن السياق الاجتماعي, لا يمكن الوصول إلى معنى ايفيجيني لغوته أو لراسين إلا عن طريق بحث مراقب بموضوعية حول الوعي المتلقي المرتبط بزمنيهما. وحده بحث من هذا القبيل ,مبرزا زوال نفوذ سلطة الأب عند راسين, وتحول الوضع المحرر إلى أسطورة جديدة عند غوته, يمكن من تحديد "وضعية الطبقة" الخاصة بكلا الكاتبين: وهو ما يتجلى في انتفاض راسين ضد الجنسينية وعلاقة غوته بالاستبدادية المتنورة.

و باختصار, لو وضعنا الإنتاج كعامل مسيطر ضمن السياق الاجتماعي, فلا يمكن معرفة الدور المرتبط بالعمل داخل هذا السياق إلا إذا درسنا تلقيه. هذه المعرفة إذن ستصل إلى صلب المواضيع وليس فقط عبر غفلية الاتجاهات الاجتماعية التي ما زالت جامدة.

                    -التقاليد والانتقاء

يظهر مثال ايفيجيني كذلك أنه بعيدا عن الحماس لنسبية كل وجهات النظر التاريخية, وبعيدا عن الإعلان بأن كل النصوص تمنح إمكانيات غير محدودة للتأويل وبعيدا عن القفز عن"الموضوعية التاريخية لمسار التاريخ الأدبي" يظهر هذا المثال أن جمالية التلقي تذهب إلى أن فهمنا الحالي للفن يتطور داخل بعض الحدود التي يمكن إدراكها شريطة إضاءة تكوين الفهم القبلي الذي تكون لدينا حول الفن. لكن هذا التكوين لتجربتنا الحالية حول الفن,الذي نود دراسته,ليس هنا أمامنا مباشرة, ولا يمكننا القبض عليه كليا لأنه ينكمش داخل المجموعة الموضوعية للمعطيات التاريخية.إن فهمنا القبلي للفن مشروط بالقوانين الجمالية التي سجل التاريخ تكونها وبالقوانين الجمالية التي ظلت مستترة على حد سواء. وبعبارة أخرى فهو مشروط بالتقليد الواعي للاختيار وبتقاليد الحدث المجهولة واللاواعية مثلما هو الشأن بالنسبة لكل الأشياء التي "مأسسها" المجتمع بصفة مضمرة.إن غياب مثل هذا التمييز يشكل إلى اليوم نقصا في تصوراتي النظرية. ويجب بذلك أن أراجع ما صغته سابقا حين قلت:" ورغم كل شيء فالتقليد لا يمكن أن يمرر من تلقاء نفسه. إنه يفترض التلقي أينما أمكن ملاحظة فعل من الماضي داخل الحاضر." 

       ليست كل إعادة إنتاج ماض تتضمن بالضرورة احتيازها الواعي و تكيفها مع أفق تجربة جمالية جديدة. إن الأعمال التي جعل منها اجماع الجمهور الأدبي نماذج أو آثار نموذجية مدرسية تستطيع أن تصبح شيئا فشيئا معايير جمالية لتقليد يحدد سلفا انتظار وتوجيه الأجيال اللاحقة في ميدان الفن. لكن عندما تمتد فعالية المعايير الجمالبة هكذا في الزمن, فذلك لا يكون فقط بواسطة لعبة احتمالات عادية كما هو الحال بالنسبة لميدان الوقائع السياسية أو بصفة أشمل الوقائع التاريخية.

       طبعا, فالعمل الفني مطالب بتخليه عن وضعه كحادث متفرد كي يتمكن من التحول إلى نموذج يقتدى به. يجب أن يختصر التاريخ الطويل للأعمال المشكلة لتقليد أدبي في شعرية جنس أدبي, وتعددية أعمال فترة ما في وحدة أسلوب مهيمن كي يتسنى تكوين أي قانون, أي أن يتحقق المرور من تعاقبية الأحداث المنتظمة إلى تزامنية المعايير التي تحدد انتظار الأعمال التي ستنتج في ما بعد.

        يجب إذن أن أعوض صياغتي السابقة بما يلي: في ميدان الفن, لا يكون التقليد سياقا مستقلا ولا يكون صيرورة عضوية ولا يكون ببساطة المحافظة على تراث و "لا تبليغه". كل تقليد يفترض انتقاء و احتياز فن الماضي مقابل النسيان, أينما أمكن ملاحظة تجدد فتوة التجربة الجمالية الكاملة من خلال التلقي الحاضر الذي يجعل بقاء فن الماضي ممكنا. إن جزئية جمالية التلقي لا تفسر, إذن, فقط باهتمامها الانتقائي للعلاقات بين الإنتاج والعرض والتلقي, ولكنها تفسر أيضا بأن كل إعادة إنتاج للماضي الفني محكومة بأن تبقى جزئية. هناك إذن تعارض جدري بين جمالية التلقي وبين الموضوعاتية المعلنة للمنهجيات التي تدعي إرجاع الفهم إما إلى المعنى اللازمني وإما إلى السياق التاريخي الذي يمتد من ولادة العمل الفني إلى تلقيه5. وكل فهم علمي مضبوط يتضمن بالضرورة اعترافا بحدوده الخاصة: هذه الحقيقة العامة المرتبطة بجمالية التلقي تطبق على تلقي أعمال الحاضر كما تطبق أيضا على أعمال الماضي. وهي صالحة أيضا للعمل المنفرد الذي لا يسمح إلا باختيار محدود لإمكانية التأويل المعينة، ويفرض التخلي عن كل الاختيارات الأخرى ولو أمكن تحليل تعدد معانيه في إطار تعدد تيماته. إن الفيلولوجي الذي لا يعي بأن كل تكون فعلي للمعنى يحد من تعقد المعنى المحتمل، والذي يسعى إلى "ضبط كل ما يمكن ضبطه" يترك المجال لانفلات الفائدة الجمالية المرتبطة ببعض توجهات الانتظار.

          هذه المقولة صالحة أيضا بالنسبة للتكوين "الطبيعي" للتقليد، هذا التكوين الذي يوجد دون أي تدخل فعال وواع للذوات، المحركات الأساسية لهذه الصيرورة: عندما تنقل المعايير الجمالية من الماضي إلى الحاضر بواسطة أوتوماتيزمات طبيعية. فلا يتم ذلك كما هو الشأن بالنسبة لكرة الثلج التي تمتلئ بكل ما تصادفه أمامها، ولكن يتم ذلك باحترام مبدأ الاقتصاد الذي يميز دائما تكوين أي قانون؛ لأن الانتقال يختصر العناصر المتنافرة أو يبسطها أو يقصيها.

         تطبق نفس المقولة، أخيرا، على التغيير الذي يحدثه الوعي في أفق التجربة الجمالية (الحالة الوحيدة التي اعتبرتها لحد الآن مهمة): فالطابع الجزئي لكل تلقي يبرز بوضوح عندما يتعهد الفعل المقصود للمتلقي حركية التاريخ وعندما تتحدد إعادة إنتاج القديم بإنتاج الجديد, و عندما تشوش استباقات تجربة جمالية أخرى ممكنة وغير محققة بعد على الأفق الجامد لتقليد ما.

        تحول الأفق هذا والذي يراجع القيم المخصصة للماضي, والذي يغير هرمية "السلطات" ويؤدي إلى "خلاص" و "إرث منسي"، يبدأ عادة بالتنكر للتقليد القائم. يشكل تلقي الفن القديم وحصوله على المصداقية من طرف أنسيي عصر النهضة بداية عصر جديد فهم كنفي للعصر الذي سبقه. وبذلك سيضيع فن العصر الوسيط بدوره في متاهات النسيان لقرون عديدة.

         لهذا فجمالية التلقي تتبنى التحذير الذي وجهه هابرماس للهرمنيطيقا الفلسفية: من المستحيل الاعتماد على الإجماع الحر الذي يحكم حركية التقليد، بل على العكس، يجب اعتبار أن الإجماع الاستباقي لتقليد ما يمكن أن "يثبت بواسطة شبه تواصل. وتستعمل جمالية التلقي مناهج أخرى – مناهج نظامية ك "النقد الإيديولوجي" وهرمنيطيقا الأعماق- كلما تعذرت إضاءة أفق انتظار لإظهار التحقيقات المتخفية أو الممحوة لتقليد مهيمن. في المقابل يجب أن نميز بين تحليل نقدي من هذا القبيل لتاريخ تلقي عمل قديم وبين العملية السهلة والمجزية – والتي تروج في هذه الآونة- والتي تقتضي "كشف الوعي المغلوط". وكتفكير واع بجزئيته, تستبعد دراسة تلقي العمل "الوعي الحقيقي" الذي يقتصره النقد الإيديولوجي على نفسه.

      هذه الدغمائية المادية العجيبة تتعسف على واقع التاريخ طالما لم تعترف من جهة بأن أفقها الخاص محدود، ومن جهة ثانية بأن كل تحقق يشكل اهتماما تاريخيا، وخصوصا تلك التحققات التي لا تجيب عن الأسئلة التي نطرحها في الحاضر. ربما سنكون قد أخذنا الانطباع في إيفيجيني لغوتة بأن التحققات الأربعة "المبرزة"، وخصوصا الحل "شبه التواصلي" الذي يعوض أسطورة بأخرى – كينونة الأنوثة المخلصة- قد طرحت على "الوعي المغلوط" وألصقت بالحمولة الخاصة لثقافة القرن التاسع عشر البورجوازية، أمام تأويل هيجل الذي لم يأخذ به تاريخ التلقي. لا يمكن شرح تلقي إيفيجيني فقط باعتباطية الذوق أو بالتعسف على مبدأ السلطة. ثم ألا يمكن في النهاية أن يعلل تاريخيا في نظر نقد التلقي؟ يمكن بالفعل أن نعتبر بأن المرور من "الفاجعة الإنسانية" إلى "الفاجعة في الروح" "والمبدأ المثبت للمصالحة باللاعنف" يتجه عكس التطور الذي أدى في القرن التاسع عشر إلى انتصار النزعة القومية وسياسة القوة على الأنسية العالمية. وفوق ذلك، فعندما انتقدت الرجوع الخفي للأسطورة كحل، فقد تركت جانبا التطور نحو عصر الأنوار الذي شكل رهانه تغيير الحق في اتجاه حرية أكبر. ورغم أن هذه الثورة الأخلاقية لم تجر بسهولة، وهي التي تبرز عند الملك السيتي النبيل، ويمكن مقارنتها ب " فعل إيفيجيني الغريب"، فإنها أفرغت عبر مسار تلقيها من عنصرها الإشكالي والمتوتر، وتم اعتبارها كانتصار طبيعي جدي للمثال الأنسي. وبما أن الأداة الخفية لهذا التوافق كانت هي الأسطورة الجديدة للأنوثة المخلصة فقد وجب على تأويلنا النقدي أن يكشف في بحثه بمعية السؤال الذي يعيد تحيين العمل عن الأسباب الكفيلة بشرح عدم اقتناعنا بالحل المقترح من طرف غوتة.

        يجب الآن توضيح مفهوم التحيين أو إعادة التحيين. لا أقصد التحديث البسيط الذي يجعل موضوعا قديما يساير العصر بتقديمه في أسلوب معاصر، ولا أقصد " قفزة النمر المشهورة داخل الماضي" التي يعرف بها "بنيامين" العلاقة بين الثورة واستمرارية التاريخ, وفيها الاختيار المقصود و الصريح لبعض صور الماضي والمرفق برفض كل ما من شأنه أن يقف بين هذه الصورة والحاضر عندما نضطر لتأسيسه وإعادة استئنافه. في ميدان الفن يجب أن تؤسس إعادة التحيين على الإيجاد الواعي لعلاقة بين المعنى الماضي والمعنى الحاضر للعمل.وتقتضي إعادة تحيين عمل ما عن طريق تجديد تلقيه دراسة العلاقة الجدلية بين العمل المتلقى والوعي المتلقي,دراسة ستكون بالضرورة انتقائية ومختصرة, ولكنها ستأخذ من هذه الضرورة ذاتها فضيلة إعادة الحياة والفتوة للماضي. لذلك يمكن اعتبار إعادة تحيين الفن القديم كمظهر لتجميع الماضي, إذا فهم من التجميع, كما عرفه كارل كوزيل," الإنتاج وإعادة الإنتاج ثم الإعادة إلى الحياة وإعادة الفتوة."6إن النظريات الماركسية التي عملت جاهدة منذ زمن على التوفيق من جديد بين" اكتساب الميراث" و هو شرط ضروري لتطور كل ثقافة اشتراكية, وبين تطويرها الموضوعاتي لقوانين التاريخ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ هذه النظريات جعلتها جمالية التلقي "البورجوازية" أمام صعوبات يشهد عليها الكتاب الذي اصدره فيمان.7

        يقتسم فيمان معي مجموعة من المقدمات المنطقية8 حول العلاقة بين الأدب و التاريخ غير انه يؤاخذ على نظريتي أساس كونها لا تفهم تاريخانية الأدب انطلاقا من" الصلة التاريخية والجمالية بين تكوين الأعمال وبين الأثر الذي تخلفه".ويِِؤاخذ عليها أيضا كونها تحدث قطيعة بين التقليد كحركة مستقلة و متأثرة بواقع جوهري و بين التاريخ كتغيير لأفق التجربة الجمالية. وقد سمح التصور المادي الجدلي للتقليد بتجاوز هذه القطيعة منذ زمن بعيد.  ويعتبر فيمان هذا "الضيق المنهجي" مميزا لعلم أدب بورجوازي "يفقد معنى التقليد عندما يفكر تاريخيا, و معنى التقليد عندما يتشبث بالتقليد". أعتقد أنني أفقدت هذه المؤاخذة الثانية سبب وجودها عندما جمعت, كما رأينا سابقا, بين التقليد و الإنتقاء على مستوى التكوين الخفي لتقليد شبه مؤسساتي وعلى مستوى الإعداد الواعي للقوانين الفنية.

      صحيح أيضا أنني لم أذهب على الأرجح في نفس اتجاه فيمان, لأنه عندما يؤكد عبر"لعبة فهم تاريخي تام" (وهي ميزة يحسد عليها الماركسيون) فإنه يمكن فهم التقليد كتاريخ و يفهم هذا التاريخ بدوره "انطلاقا من وحدة الحاضر و الماضي".نأسف لكوننا لا نجد لديه, عندما يصل إلى هذه النقطة الحاسمة9, وصفا لصيغة عمل هذه الوحدة. هل يتعلق الأمر بشيء آخر غير هذا العمل بالضبط و الذي حللته كانتقاء  وكتجميع و كتجديد للفتوة, هذا العمل الذي يجب عليه أيضا, حسب اعتقادي, أن يتكلف بضمان الوساطة المعيدة للإنتاج بين الماضي و الحاضر؟ بيد أنه يمكن رد المؤاخذة الأولى على صاحبها الذي لا يميز بين الأثر و التلقي10 , و الذي يرغب في جعل تاريخ التكوين وتاريخ آثار العمل مرتبطين منهجيا كما لو أن ما نعرفه عن بداية تكوين العمل يمكن من إضاءة معرفة الآثار, وأن سوابق العمل بإمكانها أن تشرح بدون تقطع تكملة تاريخه والذي، أخيرا، يضطر لإعادة بناء جوهرية التاريخ و التقليد لإعادة ربط الصلة بينهما بناء على مرجعية برنامج " الإرث التاريخي". هذا التقليد الذي يعيد فيمان دمجه مع التاريخ ليس سوى      " فكرة إرث تاريخي يستمر الماضي داخله كاستباق للمستقبل".

       لكن هذه الميتافيزيقا المادية التي تسمح في نفس الوقت باعتبار " حقيقة الأثر الناتج " ثابتة منذ عصر تكوينه وباعتبارها دائما جديدة وغير مشكوك فيها تقريبا لا يمكنها أن تعلمنا كيف نستوعب الميراث الذي طالب به إنجلز ولينين : لأن هذه الحقيقة تطلب انتقاء " أحسن ما أنتجه الفكر والثقافة الإنسانية خلال أزيد من ألفي سنة من التطور " ( لينين). لا مكان في فلسفة ماركسية في تاريخ الفن إلا لمعرفة تعتبر اعترافا بالسياقات الموضوعية وبقوانين التاريخ وحدها. وليس في هذه الفلسفة مكان لانتقاء يسمح بتدخل حرية الوعي الإنساني، وبالتالي فالدور المهيمن في تجربة إعادة إنتاج الفن القديم لا يعطى للوعي الحاضر. من هذا استنتج والتر بنيامين ( أطروحات حول تاريخ الفلسفة ) خلاصة بطبيعة أخروية خاصة بالمادية التاريخية مفادها : " حقيقة، وحدها إنسانية متحررة تستطيع امتلاك ماضيها بصفة تامة. وبعبارة أخرى، لن تتوفر الإنسانية على ماضيها في كل لحظاتها إلا إذا أصبحت حرة".

     إن الذي يتبنى هذه الصيغة المشهورة، ولكن يضطر، دون أن يصل إلى الأرض الموعودة لهذه الكلية منذ الآن، إلى احتياز هذا الإرث وأن يقرر، بذلك، بماذا سيحتفظ, إن هذا الشخص لن ينتهي كماركسي دون هذه النسبية وهذه الاعتباطية في القرار الذي يلصقه ب " جمالية التلقي البرجوازية ". لن يسنطيع هذا الإنسان أن يفلت من المؤاخذة بالاعتباطية إلا إذا كان مستعدا لإعادة النظر في شبه موضوعية هذه الكلية التي يطالب بها، وهي بتعبير آخر قانون التطور الذي يلتمسه ليتملك الإرث لوحده، وإلا إذا وافق على تبرير عمله في التجميع الجزئي للتاريخ معتمدا على إجراء هرمنيطيقي. وفيما يخص الاتصال بين تكوين الأعمال الكبرى والآثار التي تخلفها, فيجب أن تكون هذه الصعوبة فرصة للاعتماد على استعمال آخر، غير بلاغي للعبارة الدياليكتيكية المتعلقة " بالوحدة داخل الاختلاف ". ثم إن فيمان يلجأ لحل هذا المشكل إلى مبدأ يتعارض شكلا مع أطروحته حول الحقيقة المكونة سلفا ويكسر الوحدة الموضوعية بين الماضي والحاضر والتي تنتج عنهما. ويتعلق الأمر هنا بالوصية التي وجهها شيلر للمؤرخ بأن يترك سؤال التاريخ ككلية معلقا, وبأن يبرز ويعيد تحيين بعض الأحداث التي تبدو كسوابق لتجربتنا التاريخية الحالية "منطلقا من الحالة الأقرب عهدا لعالمنا". هذه الأحداث هي التي تبرر الخطاب الجزئي حول التاريخ العام. كنت أعتقد لحد الآن أن هذه الوصية التي تتبوأ مكانة خاصة في نظريتي أيضا كانت مثالية ؛وإذا ظهر بأنها جدلية ومادية, فسيكون جزء من الخلاف بلا مضمون, ويجب بذلك على فيمان أن يعدل إجراءه في المستقبل كما فعلت في الماضي.

                          أفق الانتظار و وظيفة التواصل.                           

     يجب أن ننظر من زاوية ثالثة إلى الخاصية الجزئية لجمالية التلقي. فهي منذ البدء لا تريد ولا تستطيع إلا أن تطالب بأسبقية هرمنيطيقية في ما يخص الوظيفة الإنتاجية و الوظيفة التمثيلية للتطبيق العملي الجمالي. ثم إن دراستها النقدية لسياق التلقي تظل خاضعة للمعرفة التاريخية وللشرح التحليلي عندما يتعلق الأمر بشرح تحققات السياق التاريخي و الاجتماعي للتلقي.و أخيرا يجب عليها أن تنفتح على نظريات التواصل و العمل وسوسيولوجيا المعرفة لكي تفهم كيف يساهم الفن, كعامل للتطبيق العملي الاجتماعي, في صنع التاريخ. فتاريخانية الفن و الأدب لا تختصر في الحوار بين القارئ أو المتفرج و العمل وبين الحاضر والماضي.فالقارئ, بالطبع, ليس معزولا داخل فضاءه الاجتماعي و ليس "مختصرا في خاصية واحدة ككائن قارئ".فهو يشارك عن طريق التجربة التي يأخذها من القراءة في سياق التواصل حيث تتدخل التخييلات فعليا في تكوين السلوك الاجتماعي و في نقله و في تحفيزاته. و سيكون من الواجب على جمالية التلقي أن تستطيع دراسة وظيفة الإبداع الإجتماعي للفن وأن تصوغها بطريقة موضوعية في منظومة معايير أو في أفق انتظار, إذا استطاعت أن تقبض على الوظيفة الوسيطية التي تقوم بها التجربة الجمالية بين هذه المنظومة و هذا الأفق في الميادين التي تتحقق فيها المعرفة الإجرائية و نماذج السلوك التواصلي.

       لقد صيغت مجموعة من الاعتراضات ضد هذه النظرية التي هي فعلا صحيحة و لكنها لا تقود إلى أية نتيجة.و لا يمكن دحض هذه الاعتراضات, في آخر الأمر إلا باللجوء إلى التطبيق. يلاحظ طراجر(Trager),بدءا, على تعريفي ل "أفق الانتظار" كونه يحتاج إلى تهذيب سوسيولوجي ,وأنه لن يكون إلا تخييلا كشفيا حتى داخل حقل الأدب, طالما لم يأخذ بعين الاعتبار التعدد الحقيقي و اختلاف خلفيات الانتظار اللذان يستطيعان تحديد سياق التلقي11 .ثم يؤاخذ علي بقاء أمثلتي في غالب الأحيان داخل الحقل الأدبي وحده لتعريف التجربة التي تشكل الانتظار, و لحصر التجربة الاجتماعية في المجال الأخلاقي. لن يكون مفهوم التلقي عندي - و الذي يستحسن تعويضه بالاهتمام أو بالحاجة- " فرضية مجانية حول ما سيأتي". و يلاحظ علي أخيرا, جهلي بأن الرأسمالية الحالية صحبة صناعتها للثقافة " لا تسمح بتاتا بأن يغير الأدب سلوك الفرد (القارئ) في اتجاه تطوير إنسانيته".  

      لن أعترض على كون مفهوم "أفق الانتظار" كما قدمته يتحرج من تطوره داخل حقل الأدب فقط, ولا على كون نظام المعايير الجمالية لجمهور معين, كما يمكن تكوينه, يستطيع و يجب عليه أن يكون معدلا حسب الانتظارات الخاصة بالمجموعات و بالطبقات؛ وأن يكون أيضا راجعا إلى اهتمامات  و حاجيات الوضعية التاريخية والاقتصادية اللواتي يحددن هذه الانتظارات. (لنلاحظ في هذا السياق,وكما يرشدنا إلى ذلك النقد الأيديولوجي, أن هذه الإهتمامات والحاجيات لا تستطيع في غالب الأحيان أن تتحقق بطريقة مباشرة, ولا بالأحرى أن تتحول إلى كلام. و أن أي هرمنيطيقا مادية تظل بدورها عاجزة عن ضبطها بشكل يخالف كيفية ضبط السوسيولوجيا للمعايير اللاواعية للسلوك ,أي عبر انتظار الذوات الاجتماعية.) وكي أرد على الاعتراضات التي وجهت إلي, أريد اقتراح التمييز, من الآن فصاعدا, بين أفق الانتظار الأدبي المتضمن في العمل الجديد وبين أفق الانتظار الاجتماعي, أي الاستعداد الفكري أو النظام الجمالي للقراء الذي يكيف التلقي.

      يجب على أي تحليل للتجربة الجمالية لقارئ أو لمجموعة من القراء في الحاضر أو في الماضي أن تأخذ بعين الاعتبار العنصرين المكونين لتحقيق المعنى: الأثر الناتج عن العمل, و يأتي من العمل نفسه، و التلقي الذي يحدد من طرف متلقي العمل. ويجب عليه أيضا أن يفهم العلاقة بين النص و القارئ كقضية تحدث علاقة بين أفقين اثنين أو تعمل على دمجهما.فالقارئ يبدأ في فهم العمل الجديد أو الذي كان مجهولا لديه في السابق عندما يضبط المفترضات التي وجهت فهمه, ويعيد تشكيل آفاق هذه المفترضات و خاصة الأدبية منها. لكن العلاقة بالنص فعالة وقابلة للتأثر. ولا يمكن للقارئ أن "يجعل نصا ما يتكلم" بمعنى أنه لن يحقق المعنى المحتمل للعمل كمدلول إلا إذا أدرج فهمه للعالم و للحياة داخل إطار المرجعية الأدبية التي يتبناها النص. هذا الفهم القبلي للقارئ يتضمن الانتظارات الحقيقية المقابلة لأفق اهتماماته ورغباته و احتياجاته وتجاربه , كما يحددها مجتمعه والطبقة التي ينتمي إليها, وكما يحددها تاريخه الذاتي. و لا داعي للتأكيد على أن التجارب الأدبية السابقة تندمج هي الأخرى داخل أفق الانتظار المتعلق بالعالم والحياة. ويتحقق انصهار أفق الانتظار الذي يتضمنه النص و الأفق الذي يحمله القارئ ضمن قراءته بطريقة عفوية في جو من التلذذ الانتظارات المشبعة أو من تحرير الإكراهات والرتابة اليومية أو من المماثلة المقبولة كما هي معروفة, أو بصفة عامة في جو من الانخراط في اكتمال التجربة التي يأتي بها العمل. لكن انصهار الآفاق يمكن أن يأخذ تأمليا في ما يخص المسافة النقدية في الاستقصاء و معاينة التغريب و اكتشاف النهج الفني بالإضافة إلى الإجابة على التحريض الثقافي. في حين يقبل القارئ أو يرفض الانخراط في التجربة الأدبية الجديدة من خلال أفق تجربته الخاصة.

         نضيف إلى الانصهار التعاقبي للآفاق الذي أدخله كادمير في مجال الهرمنيطيقا التاريخية انصهارا متزامنا. و في كلتا الحالتين نلاحظ تمظهر الخاصية الجزئية لأفق كل تجربة وصلت إلى مستوى الصيغة التالية: كما هو الشأن لحدود المنظور الحالي الذي لا يحتمل إلا معنى مهيمنا وتحقيقا واحدا من بين التحقيقات الكائنة والممكنة في إعادة إنتاج الماضي , فكذلك الحال بالنسبة للتجربة الجمالية التي تظل حصرا للمعنى و مطوقة بأفق انتظار الواقع اليومي. ومع ذلك, لا يمنع بل بالعكس يسمح للتجربة الجمالية بأن ترضي أو تتعدى الانتظارات التي جمدتها العادة أو المعيار, و يمكنها من تحويل هذه الانتظارات إلى صياغة و من تأكيدها أو دحضها.فالعلاقة بين التجربة الجمالية و التجربة العملية لا يطرح بدء على مستوى نقل مضمون التجربة من أفق خيالي إلى أفق موضوعي والذي هو أفق الواقع أي الإطار الذي تتحقق فيه الأفعال. سنقول, بالأحرى, أن السلوك الخاص بالموقف الجمالي يرفع الأفق الاحتمالي للانتظارات المكونة بواسطة التجربة الجمالية و التجربة العملية في الحياة و اللتان لم تعودا أو لم تصيرا بعد واعيتين إلى درجة الصياغة, و يعطى بذلك للقارئ إمكانية امتلاك عالم " يعيش فيه آخرون قبله ".12

      هكذا، إذن، فالوظيفة التواصلية أو الاتصالية للفن، أي وظيفة الإبداع الاجتماعي لا تبدأ فقط في اللحظة التي يصبح فيها القارئ المنفرد "فاعلا في التاريخ باشتراكه مع مجموعة من الأفراد الآخرين في المجهود الذي يأخذ نفس المنحى". تظهر هذه الوظيفة قبلا عندما يتبنى القارئ بعض المعايير وبعض الانتظارات وعندما يعرف، عن طريق المطابقة الجمالية، ما يمكن أن تكونه تجربة الآخرين ودورهم. كل هذا يمكنه من تحديد سلوكه في اتجاه تقليد النماذج وفي اتجاه الحوافز الواعية وكذا تغيير تجربته المستقبلية.

        يستطيع الدور الخاص للتجربة الجمالية أن يتمفصل ضمن الحركة الاتصالية للمجتمع إلى ثلاث وظائف متباينة: التكوين القبلي للسلوك أو نقل المعيار، والحافز أو خلق المعيار، والتحويل أو القطيعة مع المعيار. إن النظرية الجمالية لعصرنا، سواء كانت بإيعاز بورجوازي أو ماركسي (جديد)، وأعمالي من بينها, قد ركزت خصوصا على وظيفة القطيعة بسبب اهتمامها الأساسي بالدور التحرري للفن. وقد اعتبرت أن الوظيفة الاجتماعية الأكثر بروزا للتجربة الجمالية كانت تتجلى في تفضيل الحدث المبدع للجدة مقارنة مع التكرار الروتيني للجاهز، وفي تفضيل النفي والانزياح مقارنة مع كل تأكيد على القيم الثابتة ومع كل مدلول أصبح تقليديا. وبين قطبي القطيعة وتحقيق المعايير، بين تجديد الآفاق في اتجاه التطور وتكييف الأيديولوجية المهيمنة يتدخل الفن في التطبيق العملي الاجتماعي عبر القرون التي سبقت تحقيقه للاستقلالية عن طريق مجموعة من الأعمال التي يمكن وصفها بالاتصالية بالمعنى الضيق للأفعال المنتجة للمعايير. ويدخل في هذا الإطار أيضا الفن البطولي (وضع معايير جديدة وتأسيسها وتحميسها وتبريرها) بالإضافة إلى الإسهام الكبير للفن التعليمي في نقل ونشر وتوضيح المعرفة الوجودية المكدسة في الممارسة اليومية والتي ينقلها الجيل السابق للجيل اللاحق. فهل يجب القبول برؤية الوظيفة الاتصالية للفن مختصرة في نداء "من أجل دفع تقرير المصير الشخصي إلى أقصى الحدود" أو تركها معلقة إلى أجل مسمى – إلى غاية اللحظة التي يضع فيها "وعي طبقي لن يكون مكونا فقط داخل التجربة الأدبية" شروط تواصل جديد بواسطة الفن، تواصل محرر من كل علاقة سلطوية؟ أمام هذا الاختيار – " نبي في اليمين، نبي في اليسار"13 – أفضل، رغم الإبعاد أريكة، ربما غير مريحة، لمنهج باعتباره جزئيا يستطيع أن يكون دعوة لمتابعة التفكير جماعة في معرفة ما إذا كنا نستطيع- وكيف سنستطيع- أن نعيد اليوم للفن وظيفته الاتصالية التي افتقدها تقريبا تماما.            

                        


 


    1 –  اعتمدنا ترجمة هذا الفصل الذي وضعه ياوس كتذييل لكتابه جمالية التلقي لكونه يعطي بشكل  مختصر فكرة شبه شاملة حول نظريته النقدية. وقد اعتمدنا على الترجمة الفرنسية التي أنجزها كلود  مايار (Hans Robert Jauss. Pour une esthétique de la réception  

 Traduit de l'allemand par Claude Maillard . Préface de Jean Starobinski. Gallimard, Paris, 1978.)                                                 

      وقد عملنا في ترجمتنا على احترام الأفكار التي قدمها ياوس بالإضافة إلى احترامنا لشكل الكتابة      رغم  أن هذا شكل لنا مجموعة من الصعوبات. وقد اضطررنا في بعض الحالات لتخفيف حمولة   الأفكار  إلى إعادة توزيع الفقرات( المترجم). 

    2 – وارنكن: في الدليل. ع 14 ، 1971، ص 366.  

    3 – ماندلكو: مشكلة تاريخ الآثار، 2-1970، ص 78.

    4 – إيفيجيني)  (Iphigénie: بطلة أسطورية، اقتبس شخصيتها كل من راسين وغوثة، عن المسرح اليوناني  وهي مثال  للتضحية ونبل الأخلاق (المترجم). 

    5 - فيمان، مثلا، يرجع إلى "السياق التاريخي في مجمله"، وإلى "حركة التاريخ العام في كليته" و إلى "سياق التكوين المؤخوذ في إطاره العام".

    6 – كاركوزيل: جدلية الواقع. فرانكفورت، 1967. ص 148.

    7 – سنة 1965 لاحظ (W.Hahnam) أن علم الأدب الماركسي تجاهل تماما الآثار التي يحدثها الأدب.  وقد  نشرت أبحاث فيمان حول هذا الموضوع ابتداء من سنة 1969 وكان الجزء الأول التنظيري في  موضوع "العلاقة بين التراث والثورة والأدب".

   8- العلاقة بين "إعادة التشكيل التاريخي والتلقي الحي" ، الوظيفة المبدعة للواقع " الممنوحة للأدب  بالإضافة إلى وظيفته "الواصفة" ، ضرورة التفكير في تبعية مؤرخ الأدب بوضعيته التاريخية الخاصة،"الوضعية المرتبطة  بأصل وتقليد الفكر التاريخي" منذ منازعات القدماء والمحدثين إلى جيرفنيوس ورانك مرورا  بشيلر  وهومبلت.           

    9 – نجد طبعا عند فيمان صيغ أخرى مثل "حركة التاريخ داخل سيرورة التقليد وفعله الانتقائي"، أو   "الجدلية الحقيقية للتقليد والثورة والتطور الطبيعي والاختيار" لكنها لا تضيف شيئا لأطروحته الرئيسية التي أنتقدها هنا.

    10 – يقول في ص 37: "بالنسبة للمؤرخ فأحسن طريقة لتسهيل فعل العمل الثقافي القديم في زماننا المعاصر هي  دراسة تكوينه في زمنه الأصلي"، لا يدرك في الغالب ما إذا كان فيمان يقصد ب "التكوين" سوابق العمل (بما في ذلك تاريخ مصادرها) أو تأثير الزمن الذي أنتجت أثناءه.

11- أجد اقتراح ماندلكو جيدا، خصوصا في ميدان الأدب، عندما يقترح التمييز بين انتظار المرحلة بصفة  عامة، وبين ما تنتظره من العمل وما تنتظره من المؤلف. ويمكن أن نميز في هذا المجال أيضا داخل  انتظار المرحلة الانتظار الخاص بالنوع (الأسلوب والقوانين الأدبية للكتاب المهيمنين).   

12 – حسب ايزر "تعتبر المعايير منظمات اجتماعية تفقد طابعها العملي عندما تنقل إلى عالم الرواية.  وتدمج هذه المنظمات في محيط جديد يحول وظيفتها لدرجة أنها لا تعمل كمنظمات (كما كانت تفعل  في محيط المجتمع) ولكنها تصبح بدورها مواضيع صياغة نظرية. 

13 – بيت شعري لغوته.

 

 

 


 

 

 



عنوان المراسلة

kababama@gmail.com

kababama@yahoo.fr



 

 

 


إصدارات
 






مناقشات




ورشات
 


همسات