" مشهد من الشارع .. "
صرخة فى وجه العصر
د.نهاد صليحة – جريدة "الجمهورية" 1988: في أزمنة الشدائد قد يفقد الإنسان العديد من حقوقه المشروعة، لكن ثمة حاجات أساسية ، بيولوجية ونفسية ، لابد منها للفرد حتى تستقيم آدميته وتتحقق إنسانيته، وإلا انهارت الأمة، ووأد المستقبل في الأرحام. وربما كانت أهم تلك الحاجات الأساسية هي حق الرجل في أن يكون رجلا وحق المرأة في أن تكون امرأة بالمعنى الحقيقي للكلمة.. وعن معنى الرجولة والأنوثة يقول كاتبنا يوسف إدريس: " الرجل رجل لأنه شهم وكريم وشجاع ومضح ومغيث للملهوف وواقف بجوار المظلوم.. والمرأة امرأة لا بحسبها ودلالها وأنوثتها وإنما بعلمها الأعظم لبشرية اوقى. فالأمومة كالرجولة ليست صفة ولكنها قيم، درجات عليا من السلوك البشرى العاطفي والعقلي وحتى الجسدي، بها تفرد الإنسان ، وعلى هديها وصل إلى قمة في التطور جعلته أسمى حي في الوجود" وفى عرض مشهد من الشارع الذى قدمته الكتيبة الفدائية التى نعرفها باسمها الحركى وهو الفرقة النموذجية المركزية للثقافة الجماهيرية ، والتى تمثل شعبة التجارب طليعتها، ويقودها الاب الفنان المنضل الأصيل عباس احمد ، فى هذا العرض الرائع الذى يعد واحدا من افضل وابرز عروض هذا العام ، تجسد لنا باقة رائعة من شباب مصر تلك المعانى فتصور لنا كيف يكون الحال حين يفقد الإنسان ادميته ، وتغدو الامومة رفاهية ، وقتل الأجنة فى البطون رحمة ، وتستحيل الرجولة ، يبدا العرض بفرقة ممثلين (شادية حسنى ، سيد زكى ، حمدى السيد ، علاء عبد الرحمن، واحمد خلف ) تحاول تقديم مسرحية تقليدية فى مجموعة من المشاهد الهزلية التى تسخر فى باطنها واسلوبها من المسرح التقليدى . ثم يقترح أحد الممثلين تمثيل مشهد حادثة حقيقية شهدها فى الشارع ـ عربة فارهة تصدم مواطنا عاديا يمشى مع زوجته ـ وبعد اعتراض توافق الفرقة ويبدا التحقيق المسرحى فى الحادثة على النهج البريختى الذى يرفض التقمص والاندماج. ورغم جرعة الفكاهة والضحك ، ورشاقة الروح وحيوية الايقاع والحركة التى تميز هذه المشاهد البريختية الا ان صورة الواقع التى تنكشف لنا تدريجيا فى تلك المشاهد هى صورة كئيبة مفزعة مروعة ، أنها صورة واقع يحتضر فيه كل يوم امل ويدفن فى الصدور فتغدو الأرواح اكفلنل ومقابر ، وتتشوه كل المعانى وتموت فينا كل يوم الف مرة ، ويمشى العدل مصلوبا بيننا او قتيلا فى اكنانه ان هذا العرض يمثل صرخة جيل بأكمله ـ شباب تعلموا وحلموا وعملوا ثم وجدوا انفسهم وقد فقدوا ابسط حقوقهم الآدمية وهى ان يكون الرجل أبا ـ أي رجلا بالمعنى الذى قصده يوسف إدريس ، وأن تكون المرأة أما ـ أيضا بالمعنى الذى حدده كاتبنا الكبير ـ لقد بلغت الشدة مداها ، وعلينا ان نصرخ ، واذا كان الاحتجاج قيمة إيجابية ومقاومة فما اروع ان ياتى الاحتجاج متقدا بروعة الفن متوهجا بصدقه. لقد بكيت فرحة بهذا الشباب العظيم فى حبه لمصر وللمسرح وللحياة، فقد كانوا جميعا باقة امل رغم كابة الواقع والام المواجهة وصعوبة التحدى، ميلاد لفنان جديد خلاق هو صالح سعد تخبط طويلا فى شكليات التجريب لكنه وصل أخيرا الى بداية طريقه الحقيقى. |