Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

تقاليد الكوميديا الشعبية

د. نديم معلا (ناقد سوري):                                                                                           24 / 11/ 1995 القبس ـ

 

قليلة هي الدراسات والأبحاث، التي تناولت الكوميديا العربية، بالدراسة والتحليل. ولا ندرى إذا كان النقاد والباحثون العرب، قد اقتفوا اثر الأقدمين ونظروا إليها باستعلاء أو بازدراء، لم انهم كانوا مشغولين بالسياسة التي طغت في الستينات والسبعينات ، على كل شئ حتى على المسرح.

فإذا لم تكن المسرحية سياسية ، فان نصيبها من التحليل والدراسة ، ضئيل إن لم يكن معدوما. وليس هذا الاهتمام بالسياسة خارجا على السياق ، أو في غير محله، فلقد انغمست لقمة العيش ـ كما لم يحدث من قبل ـ بالسياسة واكتسحت هذه الأخيرة الأدب والفن ملقبة بظلالها على المشهد برمته، ومتدرجة حتى تصل إلى أدق التفاصيل.

وكتاب "تقاليد الكوميديا الشعبية " لمؤلفة د. صالح سعد لا يقفز فوق السياسة ، أو يتجاهل دورها، وهو يتحدث عن الكوميديا الشعبية، بل إن العقل المسيس، يطل برأسه من خلال الأحكام الصارمة، على الظواهر والأفراد والتجارب. لكن ما يلفت الانتباه فى الكتاب، منهجه التاريخي من جهة ومقارباته المقارنة من جهة أخرى.

يحاول أولا أن يحدد مصطلح الكوميديا الشعبية ومفهومها ، ثم ينطلق إلي الجذور فيتحدث عن الضحك الشعائري ، والمحاكاة الطقسية في مصر القديمة ، ليصل بعدها إلى الاراجوز وخيال الظل ، ومن ثم إلى الكوميديا المصرية الحديثة ليتوقف عند الكوميديا التجارية المعاصرة .

يعرف المؤلف المسرح الشعبي تحديدا ، بأنه الخاضع "لمبدأ الاحتمالية والذي فيه المؤلف غير معروف ، والشفاهي المرتجل والعراقة التاريخية " والاهم من هذا انه يماهى بين المسرح الشعبي والكوميديا الشعبية ، معتبرا، من خلال هذه المماهاة، إن كل شعبي كوميدي ، وان كان يحاول أن يستدرك ، في الصفحات التالية ، لدى حديثه عن الكوميديا الشعبية ، وتجلياتها في السيرة الشعبية ، لكنه ـ مع ذلك ـ يقول "بالنبرة الدرامية الكوميدية المميزة للتراث الشعبي" وإذا قبلنا مثل هذا الرأي، اعتبرنا الفن الشعبي ، كوميديا بالضرورة، فان علينا أن نخرج السير الشعبية (سيف بن ذي يزن ، تغريبة بنى هلال . عنترة على ما في هذه الأخيرة من أجواء ابعد ما تكون عن الكوميديا) من دائرة الفن الشعبي. وإذا كان "داريو فو" يقول إن المسرح الشعبي (الفن الشعبي) ليس متباكيا، فانه يؤسس كلامه هذا، على ما يبدو على التراث الإيطالي.

السؤال هنا هل حياة الشعب أحادية البعد ؟ هل الكوميديا وجهها الوحيد ؟

لكن د. سعد يثير ، بالمقابل أسئلة مهمة عن طبيعة المسرح الشعبي في صورته الأصيلة ، والمسرح الشعبي في صورته الفنية التجريبية المستلهمة ، والعلاقة بينهما وعن الكيفية التي سارت عليها هذه الصورة المستلهمة "التي لم تنتج سوى أعمال فنية متناثرة هي في جوهرها صور متخيلة عن مسرح غير موجود".

ويثير أيضا قضية "التعبير الجسدي" أو لغة الجسد، وهى من اكثر القضايا المسرحية راهنية الآن، وبربط بين قيود الجسد، الدينية والاجتماعية، وتحايل الفنان العربي تاريخيا عن رقابة المؤسسات ولجوئه إلى الدمى وخيال الشخصيات كبديل للشخصيات الإنسانية الحية.

وإذا كان المؤلف يتقصى الكوميدي، في مصر القديمة والعصور الوسطى، والحديثة، ويسعى إلى إبرازه في شروطه الطقسية والسياسية والدينية والاجتماعية، لكي يعيد إليه اعتباره ، ويرفع من شانه ، حتى في اكثر أشكاله فظاظة وحسية فانه يرمى، إلى إماطة اللثام عن الشعب المقهور، المغيب، الباحث عن الفردوس المفقود في عالم الفرجة المتخيل.

كتاب "تقاليد الكوميديا الشعبية " يختلف عن السائد في هذا الموضوع بإثارته لأكثر الأسئلة حساسية وبقراءته العلمية، للعرض بل أن الكوميدي هنا لا ينفصل عن المجسد على خشبة المسرح.

الكتاب قراءة مخرج لإرث أُشبَع تنظيرا.


 

عماد النويري:                                                                                                                          القبس 17/2/1996

الكوميديا الشعبية

 

استحالة قيام التراجيديا لدينا هي نفسها الإمكانية التي سمحت للتعبير الهزلي بالظهور والانتعاش طبقا للمبدأ الذي يعبر عنه ميخائيل باختين ( ساعد شكل المضحك على حل الكثير مما لا يجوز دخوله إلى عالم الأشكال الجادة. فلا ضرر يمكن أن يأتي من الهزل والمرح المؤقت بل انه يصبح تنفيسا مستمرا عن الضغوط التي تمور بها النفوس ).

فالجماعة المغلقة التي لا تسمح لـ ( إذا ) أو ( لو ) بالوجود في عقل أبنائها وبخاصة في ما يتعلق بالقدر المحتوم أو الجسد المحافظ أو السلطة المطلقة فهذه الجماعة نفسها تبقى الباب مفتوحا أمام (الشيطنه) الكوميدية .

إلى أين يتوجه فنان المسرح العربي لكي يبنى لغته التعبيرية خاصة في مجال هذه الشيطنة الكوميدية وفى مواجهة الخيار الصعب بين التمسك بالتقاليد المحلية غير محددة المعالم والميل إلى المؤثر الغربي الساعي باستمرار لامتصاص فنون وثقافة الشرق داخل المزيج الحضاري العالمي الجديد الذي يرى في العالم قرية واحدة مصغرة ؟

أين يتوجه فنان المسرح ؟

هذا السؤال كان أحد الأسئلة الشاغلة للدكتور صالح سعد في كتابه ( تقاليد الكوميديا الشعبية ).

يرى د. صالح سعد بان النزعة الشعبية المتمثلة في العودة إلى الجذور والينابيع الأصلية للمسرح من طقوس وممارسات وشعائر بل والعاب وفنون شعبية أصبحت هي السمة المميزة للمسرح القرن العشرين بعامة ومن المتوقع أن تبقى كذلك خلال القرن المقبل ومن ثم فان طرح قضية العلاقة ما بين المسرح الحديث والمأثور الشعبي يعكس الموقف الصعب الذي يعانيه الفن المسرحي في نهايات هذا القرن الصاخب خاصة مع صعود نجم الاتجاهات المتطرفة وأيضا مع أفول نجم المجتمعات الاشتراكية التي ادعت لنفسها طويلا احتكار المنطق المادي الجدلي في التفكير والإبداع .

ومن ثم فالمواجهة التي تحتمها عملية التداخل الحضاري المطرد تفرض على المشتغلين بالمسرح والمتهمين بتطوره لدينا التوصيف المنهجي لما نسميه بالأصول الشعبية ، أو تقاليد المسرح الشعبي العربي.. ثم ما هو الشيء الذي نبتغيه ـ يسال د. صالح ـ من هذا المأثور في مسرحنا، هل هو الثيمات والموضوعات أو الصور والأشكال، أو التقنيات، أو هو هذا كله معا، أو انه لا هذه ولا تلك بالضبط وإنما هو (الروح الشعبية) الكامنة خلفهم جميعا أو ـ وبتسمية اكثر علمية ـ هو القانون الإبداعي المحرك للفن الشعبي ؟

ويؤكد د. صالح ـ وهو تأكيد ليس بجديد ـ أن معظم عروض المسرح المستلهم للفولكلور العربي قد اهتمت في المقام الأول باستدعاء المادة التراثية من ثيمات وصور وأشكال شعبية مسرحية أو طقسية أو حتى حياتية دون النفاذ إلى جوهر الروح الشعبي الكامن خلفها بوصفه المبدأ الأساسي المحرك لحياتها واستمرارها .

وفى كتابه يكشف د. صالح مجموعه من الحقائق المهمة ، منها أن حركة التأصيل في المسرح العربي لم تنتج إلا في ما ندر سوى أعمال فنية متناثرة في أنحاء الوطن العربي هي في جوهرها عبارة عن صور متخيلة عن مسرح لم يكن له وجود ، أي عن المسرح الحلم ، فيه من التراث شئ مثلما فيه أيضا من المسرح الغربي أشياء ،فإلى اليوم لم يستطع رجال المسرح الشعبي العربي أن يتخلصوا من اسر المنظور الغربي والفلسفة والتقنية الغربية عند معالجة المادة التراثية ومن ثم تحولت معظم هذه الأعمال إلى نوع غريب اقل ما يمكن وصفه به هو انه مسرح (عن) المسرح ..!

وثانية هذه الحقائق هو أن المسرح يعانى خللا في بنيته ابرز آثاره هو غياب المنهج العلمي للتمثيل والإخراج والاكتفاء بالنقل أو النسخ عن المدارس الغربية. وفى كتابه أيضا وهذه من الأشياء المهمة يسلط د. صالح الضوء على العلاقة بين الكوميديا الشعبية الاحتفالية والكوميديا المصرية التجارية وهو يؤكد أن الدعوة إلى تأصيل تقاليد الكوميديا الشعبية لا علاقة له بمسار المسرح التجاري الذي يمضى أصحابه في طريقهم بفعل غريزة الربح ووفق قانون السوق وهم من ناحية ـ أصحاب المسرح التجاري ـ إنما يلبون ذوق ثقافة الممنوعات السائدة (بل والرسمية) رغم التهليل الإعلامي الزائف ضد هذه الممنوعات.

تقاليد الكوميديا الشعبية دراسة جيدة للدكتور صالح سعد قد تضيف إليك بعض الحقائق الجديدة وقد تختلف مع تطرحه وقد تجد أحيانا أن ما تطرحه ليس كله بجديد لكن في كل الأحوال هي دراسة لا تفتقد إلى جرأة الطرح، وجدية البحث.