Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

الأنا ـ الآخر

ازدواجية الفن التمثيلي

نورا أمين – مجلة "المحيط الثقافي":

وسط نقص فادح تعانيه المكتبة العربية ، في الدراسات التي تربط فن المسرح بمجالات بحثية كعلوم التاريخ والاجتماع والفلسفة والتحليل النفسي ؛ بل وسط نقص افدح في دراسة علاقة هذه المجالات بفن الممثل الذي يبدو كالأرض المجهولة علميا ونقديا بالنسبة للأبحاث العربية غير المترجمة ، يأتي كتاب د. صالح سعد ، "الأنا ـ الآخر " ازدواجية الفن التمثيلي ، الصادر في سلسلة عالم المعرفة بالكويت ، كفاتحة مبشرة لما يمكن أن يليه من كتابات ، وكمرتكز علمي دقيق للممثل الذي يريد أن يتحاور مع ما يتعامل معه من نظريات ليرتبط بمهنته وهويته ارتباطا مؤسسا على معرفة وتحليل منهجي.

تتميز دراسة د. صالح سعد ليس فحسب بريادتها في هذا المجال نتعطش جميعاـ  مبدعين وجمهورا ـ إلى إشباعه ، إنما بكونها قادرة على إجراء عدة حوارات أساسية ظلت طويلا غائبة عن الساحة النقدية ، وهو ما يتسق تماما مع موضوعه حيث المسرح فن الحوار بالدرجة الأولى ـ من هذه الحوارات ، الحوار بين العلوم والمجالات البحثية .

فالدراسة بعيدة كل البعد عن المنظور الأحادي ، أو الاتكاء على علم واحد لتفسير ظاهرة ، حيث يصحبنا المؤلف من التناول التاريخي إلى التحليل الاجتماعي إلى الأبعاد النفسية ، دالا على ذلك التكامل الواضح بين تلك المنظورات ، والذي قد يؤدى غيابه إلى قصور في التحليل النهائي . في خلال ذلك الحوار الكامن ، تتأكد فكرة أهمية موضوعية الثقافة بالنسبة للباحث في عمل الممثل ، بل إن التحليل اللغوي لمعجم ومفردات التمثيل ذاته من شانه آخذنا إلى آفاق كانت غير واردة منذ البداية .ربما لذلك فمفرداتنا في هذا المقال سوف تحتاج إلى مراجعة وتصحيح ، إلا إن ذلك لابد أن يتواكب مع إعادة النظر من جانب الوسط النقدي والمسرحي نفسه في لغته ، مما سوف يستغرق بالتأكيد وقتا طويلا.

الحوار الآخر الذي يجريه الكتاب منذ البداية وحتى النهاية ، هو الحوار بين مناهج التمثيل المختلفة نفسها ، انه الحوار الذي يقطع الكتاب عرضيا ، بينما حوار آخر يتخذ الشكل الراسي ليصل إلى عمق بعيد ومفاجئ هو حوار بين الممثل والمتفرج ، أو الداخل والخارج ، الأنا والآخر ،الظاهر والباطن ...إلى آخره . والمدهش في هذا الحوار هو توغل المؤلف في نفسية الممثل ، بل في روحه الإنسانية ، كأنه هو نفسه ـ كمؤلف ـ يلعب لعبة التقمص، ويتحول في تلك اللحظات إلى مؤلف / ممثل ، فقلما يستطيع الناقد المنظر أن يضع نفسه محل الظاهرة ، ليصبح المعاين وموضوع المعاينة ، يبد أن هذه اللعبة غاية في الأهمية في مجالات كفن التمثيل ، يزجر بعناصر لا يمكن الإمساك بها ووضعها وتحليلها، إلا بالتوحد معها ، في ذات الوقت الذي يجب فيه الاحتفاظ بالموضوعية العلمية والتحليل الخارجي والداخلي .

ولان تلك الدراسة ـ الثرية بإرشاداتها ومراجعها العديدة بالذات من اللغات الأجنبية ، بطريقة تقدم محاذاتها إعادة تعريف بها وقراءة جديدة لها كنصوص متصلة بشكل ما ـ تجئ بعد تراث طويل غربي من التنظير في مجال فن الممثل، دون أن يحويه لذلك بالضرورة امتداد أو انعكاس على وعى القارئ والممثل العربي ، فقد أجبرت على مراجعة أهم ما سبقها تأويله وربطه بالرؤية الجديدة التي يود المؤلف طرحها.

انه بالطبع طريق طويل ومعقد ، لاسيما ود. صالح سعد مهموم في ذات الوقت بتقديم عمل لا يتعالى على القارئ العادي ، وكذلك يرتبط بالظرف التاريخي والمجتمعي الذي يعيشه المواطن والممثل ، كان يدرج الحديث عن ازدواجية التمثيل المسرحي والسينمائي ، وسوق الممثل ، واليات الوسط الفني ، ومواصفات النجم ، والمسرح الاستهلاكي ، في ذات الوقت الذي ينخرط فيه ـ بمعرفة  عميقة ـ في العرض والتحليل لمسارح ومناهج شبه مجهولة للقارئ ، كالمسرح الشرقي ، في الهند واليابان والصين وإندونيسيا ، فالقارئ سوف يشعر بتلك البانوراما الجغرافية والتاريخية معا ، والرحلة بين المناهج ، وبين الشرق والغرب ، حيث الربط الفلسفي والتأسيس على نظرية المعرفة والتحليل التاريخي الجمالي ، يحلان الإشكاليات التي تقابل المؤلف ، بل وتمهد له الطريق لمغامرتين خاضهما بجسارة رغم انهما محفوفتان بالفخاخ..

المغامرة الأولى هي وصوله إلى فصل البحث عن الممثل العربي ، من حيث همومه وآفاقه ، ففي هذه الخطوة يصبح الرهان هو ربط وضعية الممثل العربي بكل التحليلات التي سبقته ، ليبدو فردا من سلالة كونية كبيرة ، وتظهر أزمته في أبعاد جديدة تشمل البعد الاجتماعي والجمالي والنفسي ، كما تشمل البعد الاجتماعي والجمالي والنفسي ، كما تشمل الإشارة إلى نسق قيم المجتمع وثقافته ومحرماته.

ويتخذ د. صالح سعد من هم التأصيل للمسرح العربي ، والتأسيس لهوية وفن الممثل ، هما شخصيا ، ولعل هذه ازدواجية أخرى تتعلق بهوية المؤلف نفسه ، فهو ليس ناقدا ومعلما أكاديميا وحسب ، بل ممثلا وكاتبا مسرحيا ومخرجا قبل ذلك كله ، وهذا بلا شك مبرر كاف لثراء دراسته وتعدديتها .

يضاف إلى أهمية هذه المغامرة أنها تبحث في مناطق قد تصطدم مع وعى القارئ أو قيمه ، من حيث الموروث الثقافي مثلا ، فالمؤلف لا يخشى نقد وإسقاط الأفكار والمعتقدات التي تحول دون تطور معرفي ، وبحث علمي واضح ، أو إدراك اعمق لفن التمثيل وما يتعلق به.

أما المغامرة الثانية ، والتي فيها جزء كبير من سحر هذه الدراسة فهي التطرق إلى مناطق ربما لا يعترف كثيرون بإمكان إدراجها في دراسة علمية كهذه ، مثل الخوض في البحث عن الخصائص والأبعاد الروحية للممثل بشكل عام ، ولممثل الشامانية والمسرح الطقسى بشكل خاص.

وتوغل د. صالح سعد في معاينة تلك المنطقة وتحليلها ـ وان كان قد احتاج منه إلى تأسيس خاص بسبب جدته ـ لكونها تشكل ذلك السحر الذي تمارسه شخصية الممثل ، وبسبب ارتباط التمثيل بالطقس الديني ، ولو أن الروح عنصر مراوغ ، يكاد يستحيل إخضاعها للتحليل ودراسة تداخلها مع عناصر أخرى إلا في مناهج بعينها ،وهو ما حاول أن ينظر له كإضافة حقيقية منه في هذا المجال ، بل إضافة مثيرة للتطوير والاستكشاف لاسيما لو اعتبرنا الكتاب مدخلا  نظريا لورشة للممثل يتأمل فيها ذاته ونفسه وروحه ، يصبح مراه لشخصيته ، أو ممثلا لنفسه ، ليجسد مناهجه المتنوعة ، متتابعة أو متداخلة ، فيصبح الكتاب النظري مرتكزا  لعملية تجسيد درامي ، حيث الممثل هو الموضوع والأداة أو المادة ، وحيث المنهج هو نفسه نص العمل ، ربما يذهب العمل النقدي إلى قارئه الأول ، مفيدا إياه بطريقة عملية منيرة ، وهكذا تتلاشى الفجوة بين النظرية والممارسة ، المؤلف والممثل ، المسرح والنص ؛ وتتحول الورشة إلى تكوين عملي أو امتداد للنظرية ومراجعة لها ، حيث يعيد جسد الممثل كتابة نفسه من الداخل والخارج معا.