الأمثال قديمة في أدبنا العربي، تولّى جمعها أكثر من كاتب واحد ،جمعها وحكى
حكايتها.،
أما أدبنا الحديث فلم يعرفها، باعتبارها نوعا أدبيا مستقلا،إلا على يد
المهجريين، ومنهم:
أمين الريحاني:
يعد الكاتب أمين الريحاني هو أول من لفت الأنظار في الكتابة عن الشذور
والأمثال في الأدب العربي الحديث فقد نشر مجموعة من هذه الأمثال والشذور تحت
عنوان: ( بذور الزارعين) ، وقد تأثر به مجموعة من الكتاب صاروا على دربه فكتبوا
في هذا المجال.
جبران خليل جبران:
تأثر جبران خليل جبران بأمين الريحاني فأصدر كتبا باللغة الإنجليزية قصرها
على الأمثال،وهي:
( السابق) و( المجنون ) و(رمل وزبد)، وقد قام بترجمة بعض هذه الأمثال إلى العربية ووضعها في كتاب أسماه:( حفنة من رمال الشاطئ)، ثم
ألف كتابه (الشذور) الذي وضع فيه أمثالا وشذورا كثيرة.
ميخائيل نعيمة:
تأثر ميخائيل نعيمة بأمين الريحاني وبجبران خليل جبران ،فكتب كتابا أسماه :( كرم على درب) وقد وضع فيه أمثالا وشذورا كثيرة ، وقد كان كل من جبران ونعيمة متأثرين في أمثالهما وشذورهما بأمثال التوراة، وعظات السيد المسيح في الإنجيل ، وبالحكم التي تحفل بها كتب الأديان الشرقية، وببعض ما كتبه الغربيون في هذا المجال، إضافة إلى تأثرهما بكتاب كليلة ودمنة الذي استمد رموزه من عالم الحيوان.
طه حسين:
كتب طه حسين كتابه ( جنة
الشوك) والذي ضمنه أمثالا وشذورا كثيرة، ولكن
النقاد أجمعوا أن ما كتبه طه حسين لا يدخل في دائرة الشذور والأمثال بل يغلب عليه
أن يكون نوعا من النقد الاجتماعي وقد التزم فيه لازمة حوارية طريفة لعلها علقت
بنفسه من أسلوب التعليم الذي درج عليه في الأزهر.
نماذج من شذور جبران ونعيمة:
من شذور جبران خليل جبران:
(أيها الكون العاقل المحجوب بظواهر الكائنات، الموجود
بالكائنات وفي الكائنات وللكائنات! أنت تسمعني لأنك حاضري ذاتي. وإنك تراني لأنك
بصيرة كل شئ حي. ألق في روحي بذرة من بذور كلمتك، لتنبت قصبة في غابتك، وتعطي ثمرا
من أثمارك. آمين)
تبدو هنا عقيدة الكاتب بوحدة الحياة والموت والتناسخ.
رأيه في التمدن:(عندما يجوع المتوحش يقطف ثمرة من شجرة
ويأكلها،وعندما يجوع المتمدن يشتري ثمرة ممن اشتراها ممن اشتراها ممن قطفها من
الشجرة).
من شذوره الدعائية:
(أحمدك ربي لأنك وضعت في قلبي ما لا يحيط
به بياني. أحمدك ربي لأنك علمتني أن أقول الحق بدون زلاقة، وأن أصمت أمام الحق
بدون خجل. أحمدك ربي لأنك وضعت بين شفتي التصريح بدلا من التلميح).
إن أمثال وشذور جبران خليل جبران، في مجملها حكم لا تخلو أحيانا من عمق
ودسامة مردهما إلى تكثيف الفكرة، أو عمق النظرة.يقول مثلا: ( قد يكون في استصعابنا الأمر أسهل السبل إليه)
وبعض هذه الأمثال يطلق للخيال العنان لأنه صورة حارة قائمة في الخيال، يقول:( دموع الشفقة في عينيك كواكب تتلألأ في صدر الأبدية)
من شذور خليل
نعيمة:
يقول ميخائيل نعيمة في مقدمة كتابه: كرم على درب:
(كرمي على درب، فيه العنب وفيه الحصرم. فلا
تلمني يا عابر السبيل إن أنت أكلت منه فضرست).
تعد شذور
ميخائيل نعيمة خلاصة مركزة لأفكاره الفلسفية كلها، فقد جمعها وهو على أبواب الستين
من عمره، بعد أن اختمرت عقيدته واتضحت معانيها:
يقول:
• تاه من لا دليل له من نفسه.
•كيف يبصر الذين عيونهم مفتوحة
أبدا؟.
•أقرب ما تكون مني أبعد ما تكون عن نفسك؟
•ابتعدت عن الناس لأقربهم مني.
•عناصر الكون أربعة م. ح .ب. ة، يجمعها العنصر الفرد أنا.
•جارك من جاورت قلبه.
•عجيب لمن يغسل وجهه مرات في النهار، ولا يغسل قلبه
ولو مرة واحدة.
ما الذي يراه نعيمة من خلال شذوره؟!.
- يرى نعيمة أن الحقيقة الأصيلة تكمن في النفس؛ فمنها ينبع كل شئ، ويرى أن
بابتعادنا عن الناس نقترب من أنفسنا، ويرى أن المحبة هي ناموس الوجود، فهي تلغي
الأبعاد ؛ وتغني الحياة، وتغسل القلب، يقول:( كلما وضعت يدي في يد ما لمستها من قبل قلت: تبارك
الله، فتح جديد، وكنز لا نفاد له)، ويرى أيضا أن الحياة دورة لا تنتهي أبعادها، ويراها يغتذي بعضها من بعض،
يقول:(أعد الأموات الذين التهمتهم فما
أحصيهم، وأعد الأحياء الذين التهموني فما أحصيهم، ثم أعدّني فإذا بي واحد لا غير)
والإيمان عنده لا يحلل يقول:(
كسرت قلمي مرتين: مرة عندما حاولت أن أحلل إيماني بالله، وأخرى يوم حاولت أن أحلل
إيماني بنفسي.أما اليوم، فقد جمعت كسر قلمي وجبرتها، فعاد قلمي أقوى مما كان، وهو
في شغل عن التحليل بالتسجيل).
من شذوره في نقد الإنسان
والمجتمع:
- درست القانون لأعرف كيف تغزل
الخيوط التي منها تحاك أكفان الحق والعدل.
- كيف تعرف عيبا ليس فيك؟
- لا ينبذ الناس خرافة إلا ليعتنقوا أكبر منها.
- الكبرياء والذل توأمان متلاصقان.
- للحسود ألف عين، ولكن في كل عين ألف جمرة.
لم يتبع نعيمة في أمثاله وشذوره كلها أسلوب الحكمة القصيرة المركزة، بل
تفنن في الأساليب فكان يستخدم أحيانا الحكاية والتي أسماها :( الرواية الموجزة)، تأثر نعيمة بالأمثال القياسية الكثيرة التي كان يضربها السيد المسيح
لتلامذته وحوارييه، ليقرب معانيه إلى أذهانهم،واستخدم أسلوب الحوار، وفي أحيان
كثيرة كان يأتي بالحوار على لسان الأشياء والحيوانات.
يقول: ( تعاتب الوتد والطنب، فقال الوتد ما ذنبي إليك حتى
لتكاد تخنقني؟ فأجابه الطنب بل ما ذنبي أنا حتى لتكاد تقطعني؟اعتقني فأعتقك .
وعندما جاء صاحب الخيمة مكّن الوتد وشد الطنب، وانطلق إلى الصيد)
من شذوره في الأدب والنقد :
-
أما سمعت بالذي طبخ
القاموس وأكله ليصبح كاتبا؟ لقد مات المسكين بعسر الهضم، وما استطاع أن يكتب حتى وصيته.
-
كم من ناس صرفوا
العمر في إتقان فن الكتابة ليذيعوا جهلهم لا غير.
-
يا للعجيبة أزرع قلبي
على الورق فينبت في صدور الناس.
سمات أسلوب ميخائيل نعيمة:
-
تأثره بالإنجيل،
يقول: إذا سمعت بخيلا يذكر الله فاعلم أنه يعني
ماله لا غير،.فهذا القول متأثر به بقول السيد المسيح:(لا يقدر أحد أن يخدم سيدين؛لأنه إما أن يبغض الواحد
ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال)
-
تأثره ببعض أمثال
متصوفة الإسلام، يقول: رب صلاة
أفسدت صلوات، فهذا من قول رابعة العدوية:( استغفارنا يحتاج إلى استغفار).
- تأثره ببعض الحكم المعروفة الشائعة، مثل قوله:ما دمت تنعت الصخر بالبكم والصمم دامت حجارة بيتك
تفشي أسرارك لمن هو أرهف سمعا منك. فهذا
من قول الفرنسيين: ( إن للجدران آذانا
مرهفة).
-
تأثره
بأقوال بعض الأدباء العرب، يقول: مر من
أمام شبّاكي موكب جنازة فقلت رحمة الله عليه أو عليها.وعقب الجنازة موكب عرس، فقلت:
رحمة الله عليها.
فهذا من قول أبي العلاء المعرّي:
غير مجد في ملتي واعتقادي نوح بـاك أو ترنـم شـاد
وشبيه صوت النّعي إذا قيـ س بصوت البشير في كل ناد
- يجعل نعيمة من
المثل أحيانا أسلوبا للتعبير عن فكرة صغيرة أو صورة،دون أن يقصد إلى الرمز أو التمثيل، كأن يقول:
سألت راعي معيز أقعدته
الشيخوخة عن العمل: ما أجمل ما شهدته في حياتك؟ فأجابني: أمس رأيت حفيدي الصغيرين
يرعيان جديين فيُحنيان لهما ضغار الشجر ليأكلا أوراقها. ذلك أعذب
ما شهدته في حياتي، فقد عشت صباي مرتين.
- تأثره بالصلوات الصوفية المعروفة، والتي نجد
صداها عند الشاعر الهندي طاغور،يقول نعيمة:
ربي ما فتئت تقرع بابي حتى فتحت لك، وكان بيتي بغير ترتيب، فيه الغبار وفيه
العناكب، فما أنفت من الدخول، ولا أنّبت ، ولا صبغت وجنتي بحمرة الخجل منك. وهأنذا
منذ دخلت بيتي دائب في تنظيفه وترتيبه. والغريب أنني ما بقيت أذكر زمانا كنت فيه
وحدي؛ فكأنك كنت دائما معي وداخل بيتي.
مما سبق:
يتضح مما سبق أن المهجريين هم الذين شقّوا هذا السبيل، وقد التقطوا بذور هذا النوع الأدبي من الإنجيل والتوراة وتعاليم الحكماء وأقوالهم في جميع الأمم،منذ قديم الزمان، لما يسع من قوة التمثيل والإيحاء والتوجيه، كما نرى أن الشذور والأمثال من الأشكال الأدبية التي تتسع للرمز، والإيجاز والطرافة ، وكثافة الفكرة والإحساس، واختمار التجربة الإنسانية فيها، وقد كان هذا هو أقصى ما وصل إليه النثر العربي الحديث من قدرة التركيز مع بلاغة الأداء
.