Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

الباب الثاني

سيرة الحسين عليه السلام قبل كربلاء

أولاً : في حماية الرسُول صلّى الله عليه واَله وسلّم

 

8- رواية الحديث الشريف

9- بيعة الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم

10- الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم يعمل

11- الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم يقول

12- الحسين عليه السلام والبكاء

13- الحب والبُغض

14- السلْم والحرْب

15- وديعةُ الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم


 

8-رواية الحديث الشريف

وُلِدَ الحسينُ عليه السلام ، وجدّه الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم منهَمكٌ في بثّ الرسالة الإسلاميّة ، والدولة آخذة بالأوج والرفعة ، والرسولُ القائدُ لا ينفكّ يدبّر أُمورها ، ويرعى مصالحها ، ويُعالج شؤونها ، ويخطّط لها .

فالحسين السبط ، الذي يدور في فلك جدّه الرسول ، ويجلس في حجره ، ويصعد على ظهره ، ويرتقي عاتقه وكاهله ، لابُدّ وأن يمتلىء بكلّ وجوده من كلام الرسول وحديثه ، فهو يسمع كلّ ما يقول ، ويرى كلّ ما يفعل ، وقد عاشر جدّه سبعاً من السنين ، تكفيه لأنْ يعيَ منه الكثير من الأُمور التي تعدّ في اصطلاح العلماء حديثاً لرسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، و سُنّة له .

وقد ابتدأ ابن عساكر برواية بعض الأحاديث التي سمعها الحسين من جدّه ، وأوَل حديث ذكره هو [1]: قال عليه السلام: سمعت رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم يقول : < ما من مسلم ولا مسلمةٍ يُصاب بمصيبة وإنْ قدم عهدها ، فيُحدِث لها استرجاعاً ، إلاّ أحدَثَ اللهُ له عند ذلك ، وأعطاهُ ثوابَ ما وعده عليها يوم أُصيبَ بها( 35).

أَوَ من القَدَرِ أن يكون هذا أوّل حديثٍ يُروى في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ? أوْ أنّ الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم أراد أنْ يلقّنَ الحسين في أوّل دروسه له ، درساً في الصبر على المُصيبة ، التي تكون قطب رحى سيرته ، ومقرونة باسمه مدى التاريخ ؟
إنّ في ذلك - حقّاً - لَعِبْرةً
وحديث ثانٍ نقله ابن عساكر في ترجمة الإمام عليه السلام : [2] قال : إنّ أبي حدّثني - يرفع الحديث إلى النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم - أنّه قال : المغبون : لا محمود ، ولا مأجور ( 36).

وهذا درس نبويّ عظيم : فإنّ عمل الإنسان لدنياه يستتبعُ الحمدَ ، وعمله لاَخرته يستتبعُ الأجر ، والأعمالُ بالنيّات . أمّا أنْ يُحتالَ عليه ويُغبَنَ ، فيؤخذَ منه ما لا نيّة له في إعطائه ، فهذا هو المغبونُ الذي لا يُحمدُ على فعله إنْ لم يُعاتَبْ ، ولا يؤجرُ على شيءِ لم يقصدْ به وجهَ الله والخير ، بل هو أداة لتجرُّؤ الغابنين واستهتارهم ، كما يؤدّي إلى الاستهزاء بالقِيَم و استحماق الناس.

ففي هذا الحديث دعوة إلى التنبهِ والحذر واليقظة ، حتّى في الأُمور البسيطة الفرديّة ، فكيف بالأُمور المصيريّة التي ترتبط بحياة الأُمّة ؟
إنّ في ذلك - أيضاً - عِبْرةً ، لقّنها الرسولُ صلّى الله عليه واَله وسلّم لحفيده الحسين عليه السلام.

(35)و (36 ) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 /115).


9- بيعة الرسول

الّذين لم يبلغوا الحُلُمَ لم يُكلَفوا في الدين الإسلامي بما يشقّ عليهم ، ولم يُعامَلوا إلاّ بما يلائم طفولتهم من الاَداب .

فأمر مثل البيعة , التي تعني الالتزام بما يَقع عليه عقدها ، لا يصدُر إلاّ من الكبار ، لأنّها تقتضي الوعيَ الكاملَ ، ومعرفة المسؤوليّة ، والشعور بها ، وتحمّل ما تستتبعه من أُمور ، وكلّ ذلك ليس للصغار قبل البلوغ فيه شأن . إلاّ أنّ النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم ميّزَ بعض من كان في عمر الصغار من أهل البيت عليهم السلام بقبول البيعة منهم . وهذا يستلزم أنْ يكون عملهم بمستوى عمل الكبار ، وإلاّ لنافى الحكمة , التي انطوى فعل الرسول عليها بأتمّ شكلٍ وبلا ريبٍ فالمسلمون يربأون بالنبيّ وحكمته ، أن يقوم بأمرٍ لغوٍ .

وجاء الحديث عن الإمام أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام : [194] أنّه قال : إنّ النبي صلّى الله عليه واَله وسلّم بايعَ الحسن والحسين ، وعبد الله بن عبّاس ، وعبد الله بن جعفر ، وهم صغار لم يبلغوا . قال : ولم يبايع صغيراً إلاّ منِّا (37).

وتدل هذه البيعة على أنّ قلّة الأعوام في أولاد هذا البيت الطاهر ، ليستْ مانعةً عن بُلوغهم سنّ الرشد المؤهّل للأعمال الكبيرة المفروضة على الكبار ، مادام فعلُ الرسول المعصوم يدعمُ ذلك ، ومادام تصرّفهم يكشف عن أهليّتهم ومادام الغيبُ ، والمعجز الإلهيّ يُبَيّن ذلك .

فليس صِغَرُ عمر عيسى عليه السلام مانِعاً من نبوّته مادام المعجِز يرفده في المهد يكلّم الناس صبيّاً ، وليس الصِغرَ في عمر الحسين مانِعاً من أن يُبايعه جدّه الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم .

(37 ) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 129 )


10-الرسولُ يعملُ

وَجَدَ الرسولُ صلّى الله عليه واَله وسلّم سبطَه الحسينَ ، يلعبُ مع غلمانٍ في الطريق ، فأسرعَ الجد أمامَ القوم ، وبسطَ يديه ليحتضنَه ، فطفق الحسينُ يمرُّ هاهنا مرّةً ، وهاهنا مرّةً ، يُداعبُ جدّه ، يفرّ منه دلالاً ، كما يفعلُ الأطفالُ ، فجعلَ الرسولُ العظيم يُضاحكُهُ حتّى أخذه .

ذكر هذا في الحديث ، وأضاف الراوي له ، قال[: [112 و115] فوضع الرسولُ إحدى يديه تحت قفاه ، والأُخرى تحت ذقنه ، فوضع فاه على فيه ، فقبّله ، وقال : حُسينٌ منّي ، وأنا من حُسين ، أحَبَ الله من أحبَ حُسيناً ، حُسين سِبْط من الأسباط (38).

إنّ الرسول - وهو يحمل كرامة الرسالة ، وثقل النبوّة ، وعظمة الأخلاق ، وهيبة القيادة - يُلاعبُ الطفلَ على الطريق . فلابُدّ أن يكون لهذا الطفل شأنٌ كريمٌ ، وثقيلٌ ، وعظيمٌ ، ومهيبٌ ، مناسبٌ لشأن الرسول نفسه ، ويُعلن عن سبب ذلك فيقول : حُسَينٌ منّي وأنا من حُسَينٍ ,ليؤكّد على هذا الشأن ، وأنّهما - : الحسين والرسول - وِفقان ,كما سنراه في الفقرة التالية [11].

ومنظر آخر : حيثُ الرسولُ , الذي هو أشرف الخلق وأقدسهم ، فهو الوسيط بين الأرض وبين السماء ، فهو أعلى القِمَم البشريّة التي يمكن الاتّصال بالسماء مباشرة ، بالاتّصال بها .ومَنْ له أنْ يرقى هذا المُرتقى العالي ، الرهيب ؟

لا أحدَ ، غيرُ الحسنِ ، وأخيه الحسينِ ، فإنّهما كانا يستغلاّن سجود النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم إذا صلَى ، فيثبانِ على ظهره ، فإذا استعظم الأصحاب ذلك وأرادوا منعهما ، أشار النبي إليهم أنْ :دعوهما .ثمّ لا يرفع الرسول رأسه من سجوده حتّى يقضيا وطرهما ، فينزلان برغبتهما .

وفي نصّ الحديث [116 و142 و143] : فلمّا أن قضى الرسول الصلاةَ ، وضعهما في حجرهِ ، فقال : مَنْ أحبّني ، فليحبَ هذينِ. إنّ عملهما مع لطافته لا يستندُ إلى طفولةٍ تفقد الوعي والقصد ، لأنّهما أجَلُّ من أن لا يُميّزا بينَ حالة الصلاة وغيرها،وموقف الرسول العظيم تجاههما لا يستند إلى عاطفةٍ بشريّة فهو في أعظم الحالات قرباً من الله .

فهما يصعدان على هذه القمّة الشمّاء ، وهو في حالة العروج إلى السماء ، فإنّ الصلاة معراج المؤمن ، والرسول سيّد المؤمنين . فأيّ تعبيرٍ يمكن أنْ يستوفي وصف هذه العظمة ، وهذا العُلوّ ? ? وهذا الشموخ ? الذي لا يُشك في تقرير الرسول له ، وعدم معارضته إيّاه بل إظهاره الرضا والسرور به . وهل حَظِيَ أحَد بعدَهما بهذه الحظوة الرفيعة ? كلاّ ، لا أحد .

أمّا قبلهما ، فنعم : أبوهما عليٌّ ، الذي هو خيرٌ منهما ، قد رَقِيَ - بأمْر من الرسول - ظهرَه الشريف ، يومَ فتح مكّة ، فصعدَ على سطح الكعبة وكسّر الأصنام , وفي ذلك المقام قال الإمام عليه السلام: خُيلَ إليَ لو شِئْتُ نِلْتُ اُفُقَ السماء (39).

إنّ الشرفَ في الرُقيّ على ظهر النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم - وهو المثال المجسَد للقُدس والعُلوّ - لا يزيد على شرف الصاعد ، إذا كان مثل عليّ والحسن والحسين ، ممّن هو نفس النبيّ أو فلذة منه .

وقد عبّر الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم عن هذه الحقيقة في حديثه مع عمر ، لمّا قال :
[148] رأيتُ الحسنَ والحسين على عاتقي النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم، فقلتُ: نِعْم الفرسُ تحتكُما فقال النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم: ونِعْمَ الفارسان هُما(40). إنّه نَفْث لروح الفروسيّة ، وتعبير عن أصالة الشرف ، بلا حدود.

(38 ) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 ./ 120)
(39) المستدرك على الصحيحين (2 /366).


11- الرسول يقول

ولاحظنا أنّ الرسول - بعد أن يعمل - يقول : حسينٌ منّي وأنا من حسين.

فأمّا أنّ الحسينَ من الرسول ، فأمرٌ واضحٌ واقعٌ ، فهو سبطه : ابن بنته ، وَلَدَتْه الزهراءُ وحيدةُ الرسول ، من زوجها عليّ ابن عمّ الرسول . ومع وضوح هذه المعلومة ، فلماذا يُعلنها الرسول ، وماذا يريد أن يُعلن بها ؟

هل هذا تأكيدٌ منه صلّى الله عليه واَله وسلّم على أنّ عليّاً والد الحسين هو نفسُ الرسول , تلك الحقيقة التي أعلنتها آية المباهلة ؟ كما سبق في الفقرة [5] أو أنّ الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم يريد أن يُمَهّد بهذه الجملة : حُسَينٌ منّي , لما يليها من قوله : وأنا من حُسينٍ ? تلك الجملة المثيرة للتساؤل : كيف يكون الرسول من الحسين ؟

والجواب : أنّ الرسول ، لم يَعُدْ بعدَ الرسالة - شخصاً ، بل أصبحَ مثالاً ، وَرمْزاً ، وأُنموذجاً ، تتمثّل فيه الرسالةُ بكلّ أبعادها وأمجادها ، فحياتُه هي رسالتُه ، ورسالتُه هي حياته .

ومن الواضح أنّ أيّ والدٍ إنّما يسعى في الحياة ليكون له ولد ، كي يخلفَه ، ويحافظ عَلى وجوده ليكون استمراراً له . فهو يدافع عنه حتّى الموت ويحرصُ على سلامته وراحته ، لأنّه يعتبره وجوداً آخر لنفسه . إذا كانت هذه رابطةُ الوالد والولد في الحياة المادّية ، فإنّ الحسين عليه السلام قد سعى من أجل إحياء الرسالة المحمديّة بأكبر من ذلك ، وأعطاها أكثر ممّا يُعطي والد ولَده ، بل قدّم الحسينُ في سبيل الحفاظ على الرسالة كلّ ما يملك من غالٍ ، حتّى فلذات أكباده : أولاده الصغار والكبار ، وروّى جذورها بدمه ودمائهم , فقد قدّم الحسين عليه السلام للرسالة أكثر ممّا يقدّم الوالدُ لولده ، فهيَ إذنْ أعزّ من ولده ، فلا غروَ أن تكون هي مِنهُ .

وقد ثبتَ للجميع - بعد كربلاء- أنّ الرسالة التي كانت محمّدية الوجود ، إنّما صارت حُسينيّة البقاء . فالرسالة المحمّديّة التي مثّلتْ وجودَ الرسول ، كانت في العصر الذي كادتْ الأيدي الأُمويّة الأثيمة أنْ تقضيَ على وجودها ، قد عادتْ من الحسين ولذلك قال صلّى الله عليه واَله وسلّم : . . . وأنا من حسين .

ولم تقف تصريحاتُ الرسول في الحسين عند هذا الحدّ ، بل هناك نصوص أُخر تكشف أبعاداً عميقةً في العلاقة بين الحسين وجدّه ، وتبتني على أُسس ثابتة للاهتمام البالغ من الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم بسبطيه الحسن والحسين .

فممّا قال فيهما : [58 - 60]: الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا(41). حتّى كنّى أباهما عليّاً : أبا الريحانتين , وقال له [159 - 160] : سلام عليك ، أبا أوصيك بريحانتَيَ من الدنيا ، فعن قليلٍ ينهدّ ركناك ، والله خليفتي عليك( 42 ) .

فلمّا قبض النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم قال عليّ عليه السلام : هذا أحد الركنين . فلمّا ماتت فاطمة عليها السلام ، قال عليه السلام : هذا الركن الاَخر . فبقى الحسنان نعم السلوة لعليّ بعد أخيه الرسول وبعد الزهراء فاطمة البتول ، يَسْتَر عليه السلام بالنظر إليهما ، ويتمتّع بشبههما بالرسول ، ويشمّهما ، كما كانا الرسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ريحانتيْهِ ، ويقول لفاطمة [124]: ادعي لي بابنيّ > فيشمهمّا ويضمهمّا( 43).

والحديث المشهور عنه صلّى الله عليه واَله وسلّم : [62 - 82] الحسنُ والحسينُ سيّدا شباب أهل الجنّة( 44) الذي رواه من الصحابة : أبوهما عليّ عليه السلام ، والحسينُ نفسُه ، وابنُ عبّاس ، وعمرُ بن الخطّاب ، وابنُ عمر ، وابنُ مسعود ، ومالكُ بن الحويرث ، وحُذَيْفةُ بن اليمان ، وأبو سعيد الخُدْري ، وأنسُ بن مالك .

ونجد في بعض ألفاظ الحديث تكملة هامّة حيث قال الرسولُ صلّى الله عليه واَله وسلّم : [69 و71] . . . وأبوهما خير منهما (45)

وإذا كانت الجنّةُ هي مأوى أهل الخير ، وقد حتمها الله للحسنين ، وخصّهما بالسيادة فيها ، فما أعظم شأن من هُوَ خير منهما ، وهو أبوهما عليّ عليه السلام ؟ لكن إذا كان الحديث عن الحسنَيْن ، فما لأبيهما يُذكر هاهُنا ؟

إنّ النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم المتّصل بالوحي ، والعالِم من خلاله بما سيُحدثه أعداء الإسلام ، في فتراتٍ مظلمة من تاريخه ، من تشويهٍ لسمعة الإمام عليّ عليه السلام ، مع ما له من شرف نَسَبه ، وصهره من رسول الله ، وأُبوّته للحسن والحسين فإنّهم لم يتمكّنوا من تمرير مؤامراتهم على الناس ، إلاّ بالفصل بين السبطين الحسنين فيُفضّلونهما ، وبين عليّ فيضلّلونه !!

لكنّ الرسولَ ، يوم أعلنَ عن مصير الحسنين ، ومأواهما في الجنّة ، وسيادتهما فيها ، أضاف جملة : وأبوهما خير منهما , مؤكّداً على أنّ الّذين ينتمون إلى دين الإسلام ، ويقدّسون الرسولَ و حديثَه و سُنّته ، ويحاولون أن يحترموا آل الرسول ، وسبطيه ، لكونهما سيّدي شباب أهل الجنّة ، ولأنهما من قُربى النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم ، مُتجاوزينَ عليّاً تبعاً لِما أملَتْ عليهم سياسةُ الطغاة البُغاة من تعاليم .. إنّ هؤلاء على غير هَدْي الرسول!!

إذْ مهما يكنْ للحسن والحسين من مؤهّلات اكتسبا بها سيادة الجنّة ، أوضحُها انتماؤهما إلى الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم ، فهما سبطاه من ابنته الزهراء فاطمة , فأبوهما عليّ اكتسبَه بأنّه ابن عمّه نسباً ، وربيبه طفلاً ، ونفسه نصّاً ، وصهره سبباً ، وهو زوج الزهراء فاطمة ، وهو خيرٌ منهما لفضله في السبق والجهاد ، وكلّ الذاتيّات التي منه أخذاها ، والتي جعلته أخاً وخليفة للنبيّ ، وكفؤً للزهراء ، وأباً للحسنين ، وإماماً للمسلمين .

ومع وضوح هذا التصريح النبويّ الشريف ، فإنّ التَعتيم المضلّل الذي كثّفه بنو أُميّة ، فملأوا به أجواءَ البيئات الإسلامية مَنَعَ من انصياع الأُمّة لفضل عليّ عليه السلام ، فهاهم يفضّلون الحُسَينَ وأُمَهُ ، ويُحاولون غمط فضل عليّ ، وفصله عنهما : ففي الحديث ، قال مولىً لحُذيفةَ : [202] كانَ الحسينُ آخذاً بذراعي في أيّام الموسم ، ورجلٌ خلفَنا يقول : الّلهمّ اغفر له ولأُمّه . فأطال ذلك . فتركَ الحسينُ عليه السلام ذراعي ، وأقبل عليه ، فقال : قد آذيتنا منذ اليوم تستغفرُ لي ، ولأُمّي ، وتترك أبي وأبي خير منّي ، ومن أُمّي !!

(40 ) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور( 7 /122).
(41)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 / 118)
( 42) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7/ 123)
(43) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 /120)
(44) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7/ 119)
(45 ) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 /119).


12- الحسين والبكاء

روى ابن عساكر بسنده قال : [170] خرج النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم من بيت عائشة فمرّ ببيت فاطمة ، فسمع حُسيناً يبكي ، فقال : ألم تعلمي أنّ بُكاءه يؤذيني (46).

[319] وقال صلّى الله عليه واَله وسلّم لنسائه : لا تُبكوا هذا الصبيّ - يعني حسيناً -(47 )

ولماذا يؤذيه بكاءُ هذا الطفل بالخصوص ? وكلّ طفلٍ لابُدّ أن يبكي ، وإذا كان إنسانٌ رقيقَ العاطفة ، فلابُدّ أن يتأذّى من بكاء كلّ طفلٍ ، أيّ طفل كان ، فلماذا يذكر النبيّ العطوف ، الحسينَ خاصّة ? لكنّ القضية التي جاءت في الحديث لا تتحدّث عن هذه العاطفة ، وإنّما تشير إلى معنىً آخر , فبكاء الحُسين ، يؤذي النبيّ لأنّه يذكّره بحزنٍ عظيمٍ سوف يلقاهُ هذا الطفل ، تبكي له العيون المؤمنة وتحزن له القلوب المستودعة حبّه , وإذا كان الرسولُ صلّى الله عليه واَله وسلّم يتأذّى من صوت بكاء هذا الطفل وهو في بيت أبويه ، فكيف به إذا وقف عليه يوم عاشوراء في صحراء كربلاء وقد كظّه الظمأُ ، يطلب جرعة من الماء ؟

وإذا كانت دمعةُ الحسين تعزّ على رسول الله أن تجريَ على خده فكيف بدمه الطاهر حين يُراقَ على الأرض ؟

إنّ أمثال هذا الحديث رموز تُشير إلى الغيب ، وإلى معانٍ أبعدَ من مجرّد العاطفة وأرقّ . والأذى الذي يذكره النبيّ ، أعمقَ من مجرّد الوجع وأدقّ .

وللبكاء في سيرة الحسين منذ ولادته بل وقبلها ، وحتّى شهادته بل وبعدها ، مكانة متميّزة . فقد بكتْهُ الأنبياء كلّهم حتّى جدّه الرسول قبل أن يولد الحسينُ , وبكاه أهلُ البيت بما فيهم جدّه الرسول يوم الولادة , وبكاه أهلُه وأصحابهُ يوم مقتله ، وبكى هو أيضاً على مصابه .

وبعد مقتله بكاهُ كلّ من سَمِعَ بنبأ شهادته : أُمّهات المؤمنين ، والصحابةُ المؤمنون . وبكاهُ الأئمّة المعصومون ، ومن تبعهم ، مدى القرون حتّى جاء في رواية عن الحسين عليه السلام نفسه أنّه قال : أنا قتيلُ العَبْرة ، ما ذكرني مؤمن إلاّ وبكى . وعبّر عنه بعض الأئمّة بعَبْرة كلّ مؤمنٍ .

ولقد تحدّثتُ عن مجموع النصوص الواردة في البكاء على مصيبة الحسين , في بعض الحسينيّات التي ألّفتها( 48).

(46 ) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور( 7 / 125).
(47 ) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور(7 / 134).
(48 ) لاحظ : ذكرى عاشوراء وتأمّلاتها التراثية فقهياً وأدبياً - مخطوط - وجهاد الإمام السجّاد عليه السلام (ص179 - 187).


13-الحُب والبُغْض

أنْ يُحبّ الإنسانُ أولاده ونَسْلَه ، فهذا أمر طبيعي جدّاً ، أمّا أنْ يربطَ حُبّهم بحبّه ، فهذا أمرٌ آخر ، فليس حبّهم ملازماً لحبّه ، وليس لازماً أو واجباً - في كلّ الأحوال - أن يحبَهم كلّ مَنْ أحبّ جدّهم . لكنّ الرسولَ فرضَ الربْطَ بين الحبَيْنِ ، حبَ أولاده ، و عترته ، وحبّه هو صلّى الله عليه واَله وسلّم ، فكان يُشير إلى الحسن والحسين ، ويقول : [116] مَنْ أحبَني فليُحبّ هذينِ .

إنّ عاطفة الحُبّ بين الرسول والأُمّة ، ليس هو العشق فحسبْ ، بل هو أيضاً حُبّ العَقيدة والتقديس والإجلال والسيادة ، لِما تمتّع به الرسولُ من ذاتيّات جمالية وكمالية ، وأُبوّة ، وشرف ، وكرامة ، وجلال ، وعطف , وحنان ، وصفات متميّزة .

وإذا كان الحسنان ، قد استوفيا هذه الخصالَ ، وبلغا إلى هذه المقامات حَسَباً ونَسَباً ، فمن البديهيّ أنّ مُحِبّ الرسول ، سيحبّهما ، بنفس المستوى ، لِما يجد فيهما ممّا يجد في جدّهما الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم .

ولأجل هذا المعنى بالذات ، نجد الرسولَ يعكسُ تلك الملازمة ، فيقول : في نصوص أُخرى : من أحبّهما فقد أحبّني , فيجعل حُبَهُ متفرعاً من حبّهما ، بعد أن جعل في النصّ الأول حبّهما متفرّعاً من حبّهِ .

فإذا كان سببُ الحُبّ ومنشؤُه واحداً ، فلا فرق بين الجملتين : مَنْ أحَبّني فليُحِبَ هذيْنِ , و مَنْ أحَبَهما فقد أحبّني .
والنصوص التي أكّد فيها الرسولُ صلّى الله عليه واَله وسلّم على حُبّ آل محمّد , ومنهم الحسين عليه السلام ، كثيرة جدّاً ، روى منها ابن عساكر قسماً كبيراً(49 ).

ويتراءى هذا السؤالُ : :لماذا كلّ هذه التصريحات ، مع كلّ ذلك التأكيد ? وإنّ المؤمنين بالرسالة والرسول ، لابُدّ وأنّهم يُكرمون آل الرسول , ويودّونهم ، ويحبّونهم حبّ العقيدة والإيمان وعلى أقلّ التقادير ، مشياً على أعرافٍ من قبيل :لأجْل عَيْنٍ ألْفُ عَيْنٍ تُكْرَمُ .

و المَرْءُ يُحفظ في وُلدهِ , تلك الأعراف التي كانت سائدةً بين أجهْل البشر في ذلك العصر ، فكيف بالّذين ملأتهم تعاليم الإسلام وَعْياً ؟ هذا ، مع الغضّ عمّا كان لأهل البيت النبويّ ، من الكرامة والشرف والمكانة العلميّة والعمليّة ، ممّا لا يخفى على أحدٍ من المسلمين .

فإذا نظرنا إلى آثارهم ومآثرهم ، فهل نجد أحداً أحقّ بالحبّ والتكريم منهم ? وأَوْلى بالتفضيل والتقديم ؟ فلماذا كلّ ذلك التأكيد من جدّهم الرسول على حُبّهم , وربط ذلك بحبّه هو ؟ إنّ هذا السؤال تسهل الإجابة عنه ، إذا لاحظنا أنّ الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم قد أضاف على نصوص الملازمة الثانية : من أحبّهما فقد أحبّني , قوله :[ 118- 123] ومن أبغضهما فقد أبغضني (50)

عجباً ، فكيف يُفترضُ وجود من يُبغض الحسن والحسين ؟ ولماذا يُريدُ أحدٌ ممّن ينتمي إلى دين الإسلام ، أن يُبغض الحسنَ أو الحسين ؟ وهذه الأسئلة أصعب من السؤال السابق ، قطعاً ، إذ يلاحَظ فيها : أنّ الرسولَ صلّى الله عليه واَله وسلّم قد فرضَ وجود من يُبغض الحسنين ، ورَبَطَ بين بُغضهما ، وبُغضه هو ثمّ هناك ملاحظة في مسألة البُغض ، وهي أنّ الملازمة فيه ، من طرف واحد ، وقد كان في الحبّ من الطرفين.

فلم يَرِد في البغض : من أبغضني فقد أبغضهما‍‍‍ ‍‍؟ وقد يكون السببُ في الملاحظة الثانية : أنّ فرض بُغض النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم ، في المجتمع الإسلاميّ ، أمر لا يمكن تصوُّره ولا افتراضُه ، إذ هو يساوي الكفر بالرسالة ذاتها ، وبالمرسِل والمرسَل أيضاً .

لكن بُغْض آل الرسول , فهو على فظاعته ‍‍‍‍, ‍قد تحقّق على أرض الواقع ، فقد كان في أُمّة الرسول بالذات مَن أبغضَ الحسنين ، ولعنَهما على منابر الإسلام ، بل وُجِدَ في الأُمّة مَنْ شهر السيفَ في وجهيهما ، وقاتلهما .

وهل قُتِلَ الحسينُ عليه السلام على يدِ أناسٍ من غير أُمّة جدّه الرسول محمّد ? ولماذا ؟ إنّ الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم أعلنَ بالنّص المذكور - الذي هو من دلائل النبوّة - أنّ بُغضه , وإنْ لم يفترضه المسلم مُباشرةً ، ولا يتمكّن المنافق والكافر من إظهاره علانيةً ، إلاّ أنّه يتحقّق من خلال بُغْض الحسن والحسين ، لأنّ : مَنْ أبغضهما فقد أبغض النبيّ , لِما في بغضها من انتهاك المُثُل التي يحتذيانها ، ونبذ المكارم التي يحتويانها ، ورفض الشرائع التي يتّبعانها , وهي نفس المُثُل ، والمكارم ، والشرائع ، التي عند الرسول نفسه صلّى الله عليه واَله وسلّم فبغضهما ليس إلاّ بغضاً له صلّى الله عليه واَله وسلّم ولرسالته .

ولقد رَتَبَ النتائج الوخيمة على بُغضهما في قوله صلّى الله عليه واَله وسلّم : [131] مَنْ أحبّهما أحببتُه ، ومَنْ أحببتُه أحبَه الله ، ومَنْ أحبَه الله أدخلهُ جنّات النعيم . ومَنْ أبغضهما أو بغى عليهما ، أبغضتُه ، ومَنْ أبغضتُه أبغضَه اللهُ ، ومَنْ أبغضَه اللُه أدخله نارَ جهنّم ، وله عذاب مقيم ( 51).

لكنّ الذين أسلموا رَغْماً ، ولم يتشرّبوا بروح الإسلام ، وظلّتْ نعراتُ الجاهليّة عالقةً بأذهانهم ، ومترسّبةً في قلوبهم ، جعلوا كلّ الذي وردَ عن الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم من النصوص في حقّ أهل بيته الكرام ، وارداً بدافع العاطفة البشريّة ، نابعاً عن هواهُ في أبناء ابنته مُعْرضين عن قدسيّة كلام الرسول الذي حاطه بها الله ، فجعل كلامه وحياً ، وحديثه سُنّةً وتشريعاً ، وطاعته فرضاً ، ومخالفته كفراً ونفاقاً ، وجعل ما ينطق بعيداً عن الهوى ، بل هو وحي يُوحى , فأعرضوا عن هذه النصوص الاَمرة بحبّ الحسنين ، والناهية والمتوعّدة على بغضهما ، بأشدّ ما يكون , ونبذوها وراءهم ظِهْرِيّاً ، فَعَدَوْا على آل الرسول ظلماً ، وعَسْفاً ، وتشريداً ، وسبّاً ، ولعناً ، وقتلاً .

وخَلَفَ من بعد ذلك السَلَفَ ، خَلْف أضاعوا الحقّ ، وأعرضوا عن أوامر النبيّ ونواهيه ، واتّبعوا آثار سَلَفٍ وجدوه على أُمّةٍ ، وهم على آَثارهم يُهرعُون . فبعد أنْ ضيّع السَلَفُ على آل محمّدٍ فرصة الخلافة عن النبيّ ، وتوليّ حكم الأُمّة ، وقهروهم على الانعزال عن مواقع الإدارة ، وغصبوا منهم أريكة الإمامة ، وفرّغُوا أيديهم عن كلّ إمكانات العمل لصالح الأُمّة ، وأودعوا المناصب المهمّة والحسّاسة في الدولة الإسلاميّة بأيدي العابثين من بني أُميّة والعبّاس .

وبعد أنْ أضاعَ الخَلَفُ على آل محمّدٍ فُرَصَ إرشاد الأُمّة وهدايتها تشريعيّاً ، فلم يفسحوا لفقههم أن يُنشَر بين الأُمّة ، ومنعوهم من بيان الأحكام الإلهيّة ، وحرّفوا وِجْهة الناس عنهم ، إلى غرباء دخلاء على هذا الدين واُصوله ، وسننه ومصادر معرفته وفكره .

فأصبحتْ الأُمّةُ لا تعرفُ أنّ لاَل محمّدٍ صلوات الله وسلامه عليهم فقهاً يتّصِل - بأوضح السُبُل وأصحّ الطرق - برسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم مُباشرةً ، ويستقي أحكامه من الكتاب والسُنّة ، من دون الاتّكال على الرأي والظنّ ، بل بالاعتماد على اُصول علميّة يقينيّة .
وأمست الأُمّةُ لا تعرفُ أنّ علوم آل محمّد ، محفوظةٌ في كنوز من التُراث الضخم الفخم ، يتداوله أتباعهم حتّى اليوم .

ولكنْ لمّا كُتبت السُنّة الشريفة وجُمعتْ ودُوّنتْ ، وبرزتْ للناس المجموعة الكبيرة من أحاديث الرسول الداعية إلى حُبّ آل محمّد , وقفَ الخلفُ على حقيقةٍ مُرّةٍ ، وهي : كيف كان موقف السَلَف من آل محمّد ? وأين موقع آل محمّد في الإسلام حكماً وإدارةً ، وفقهاً وتشريعاً ؟ فأين الحب الذي أمر به الرسولُ ، لأهل بيته ؟ وكيف لا نجد في التاريخ من آل محمّد إلاّ مَنْ هو مقتولٌ بالسيف ، أو بالسمّ ، أو معذّبٌ في قعر السجون وظُلَمِ المطامير ، أو مُشَرَد مطارَد ، أو مُهان مبعد ؟

فكيفَ يكونُ البُغضُ ، الذي نهى عنه الرسول لأهل بيته ، إن لم يكن هكذا ؟ فلّما وقفَ الجيلُ المتأخّر على هذه الحقيقة المرّة ، وخوفاً من انكشاف الحقائق ، ولفظاعة أمر البغض المعلن ، ولكي لا تحرقهم ناره المتوعّد بها ، لجأوا إلى تحريفٍ وتزوير ، انطلى على أجيالٍ متعاقبة من أُمّة الإسلام . وهو ادّعاء حُبّ آل الرسول , مجرّدَ اسم الحُبّ ، الفارغ من كلّ ما يؤدي إلى إعطاء حقّ لهم في الحكم والإدارة ، أو الفقه والتشريع .

وقد صنّفوا على ذلك الأحاديث وجمعوا المؤلّفات ، مُحاولين إظهار أنّهم المحبّون لاَل محمّد ، مُتناسين ، ومتغافلين : أنّ الحبّ - الذي يؤكّد عليه الرسولُ لنفسه ولأهل بيته ، صلّى الله عليه واَله وسلّم - ليس هو لفظ الحبّ , ولا الحبّ العشقيّ الفارغ من كلّ معاني الولاء العمليّ ، والاقتداء والاتّباع والتأسّي ، ورفض المخالفة ، ونبذ المخالفين .

فلو أظهر أحدٌ الحبَ لرسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ولم يعمل بشريعته وخالف الأحكام التي جاء بها ، ولم يتعبّد بولايته وقيادته وسيادته ، ولم يلتزم بنبوّته ورسالته لم يكن مُحبّاً له صلّى الله عليه واَله وسلّم .

فكيف يكون محبّاً لاَل محمّد عليهم السلام مَنْ لم يُتابعهم في فقههم ، ولم يأخذ الشريعة منهم ، ولم يقرّ بإمامتهم ، ولم يعترفْ بولايتهم ، ولم يُسندْ إليهم شيئاً من أُمور دينه ولا دنياه ؟؟
أنّها إحدى الكُبَر . فضلاً عمّن واجَهَ آل محمّد بالقتْل واللعن والتشريد ، فهل يحقّ لمثلهم أنْ يدّعوا حبّ الرسول ? واتّباعه ? وهو الذي يقول : ومن أبغضهم أبغضني ؟ فكيف بمن قتلهم ولعنهم على المنابر ? وسبى نساءهم وأولادهم في البلاد ؟

وإنّ من التغابي أنْ يرتديَ في عصرنا الحاضر بعضُ السلفييّن ، تلك العباءة المتهرّئة ، عباءة التحريف للحقائق ، فيُنادي :علّموا أولادكم حُبّ الرسول وآل الرسول , ويطبع كتاباً بهذا الاسم مُتجاهلاً معنى حُبّ الحسين - مثلاً - وقد مضى على استشهاده أكثر من ألف وثلاثمائة وخمسين عاماً ، وكيف يكون الحبّ للأموات ?

أليس بتعظيم ذكرهم ، ونشر مآثرهم ، الاستنان بسنتهم ، واتّباع طريقتهم ، والتمجيد بمواقفهم ، ونبذ معارضتهم ، ورفض معانديهم ، ولعن قاتليهم وظالميهم ؟

فكيف يدّعي حُبَ الحسين ، مَنْ يمنع أن يُجرى في مجلسٍ ذكر الحسين ، والتألّم لمصابه ، وذكر فَضائله ، والإعلان عن تأييد مواقفه ، وإحياء ذكراه سنويّاً بإقامة المحافل والمجالس ؟ أو من يُحرّم ذكر قاتله بسوء ، وذكر ظالميه بحقائقهم ؟ أو من يُحاول أن يبّرر قتله ، ويُوجّهَ ما جرى عليه ، بل يعظّم قاتله ويمجّده ، ويصفه بإمرة المؤمنين ؟ ويَقْسو على محبّيه ، وذاكريه ، والباكين عليه ? ومع ذلك يدّعي حُبّه , ويدعو إليه .

إنّ التلاعُب بكلمة : الحُبّ , إلى هذا المدى ليس إلاّ تشويهاً لقاموسَ اللغة العربيّة ، ومؤدّى ألفاظها ، وتجاوزٌ على أعراف الأُمّة العربيّة ، وهذا تحميق للقرّاء ،واستهزاء بالثقافة والفكر والحديث النبوي . إنّها سُخرية لا تُغتفر.

(49) لاحظها في الصفحات (79 - 100) من تاريخ دمشق ، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام .
( 50) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور( 7 / 120).
(51) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 /121).
(52)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 /121).


14-السلم والحرب

إذا أفاضَ الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم في ذكر فضائل أهل البيت : عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، عليهم السلام ، فهو العارفُ بها وبهم ، والمعلّم الذي يُريد أنْ يُعرّف أُمّته بهؤلاء الّذين سيخلُفُونه من بعده هُداةً لا تضل الأُمّة ما تمسّكت بهم .

وقد صرّح الرسول بذلك ، عندما ذكرهم بأسمائهم ، وقال : [158] ألا ، قد بيّنتُ لكم الأسماء ، أنْ تضلّوا( 52).

ولقد أعلن الرسولُ عن فضلهم في كلّ مشهدٍ وموقفٍ ، وبلّغ كلّ ما يلزمُ من التمجيد بهم ، وإيجاب مودّتهم وحبّهم ، والنهي عن بغضهم وإيذائهم ، فأبلغَ ما هو مشهور مستفيض ، من دون نكير .

أمّا أن يُعلنَ الرسولُ صلّى الله عليه واَله وسلّم عن أنّه : سلم لمن سالموا ، وحرب لمن حاربوا ,فهذا أمر عظيم الغرابة فهل هم في معركة ؟ أو يتوقّع الرسولُ أن تُشَنَ حرب ضدّ أهله ? فيُعلن موقفه منها ‍, و ها هم أهله يعيشون في كنفه ، وفي ظلّ تجليله واحترامه ، ويغمرهم بفيض تفضيلاته ، وإيعازه للأُمّة بتقديسهم وتكريمهم , فمن الغريب حقّاً أنْ يجمع عليّاً وفاطمة ، والحسنَ والحسين ، ويقول لهم : [135] أنا سلم لمن سالمتُم ، وحرب لمن حاربتم .

و يقول في مرضه الذي قُبض فيه : [134] حَنا عليهم وقال : أنا حَرْبٌ لمن حاربكم ، وسِلْمٌ لمن سالمكم.

ووجه الغرابة : أنّ الإنسان يكادُ يقطع بأنّه لم يَدُرْ في خَلَدِ أيّ واحدٍ ممّن عاصر الرسول وآمن به ، أو صحبه فترة وسمعَه يؤكّد ويكرّر الإشادة بفضل أهل البيت وتكريمهم وتفضيلهم وتقديمهم ، حتّى آخر لحظة من حياته في مرض موته , لم يَدُرْ في خَلَد واحدٍ من الصحابة المؤمنين بالرسالة المحمّدية أنْ يشنّ حرباً على آل الرسول ، أو يضرمَ ناراً على بابهم , أو يشهر سيفاً في وجه أحدهم ? أو يحرق خبأهم وفيه النساء والأطفال ؟

فلذلك لم يُوجّه رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم خطاباً بهذا المضمون إلى الأُمّة ، لأنّهم كانوا يذعرون ، لو قال لهم : سالموا أهل بيتي ، ولا تُحاربوهم .

لكنّها الحقيقة التي يعلمها الرسولُ من وحي الغيب ، ولابُدّ أن يقولها لآَله حتّى يكونوا مستعدّين لها نفسّياً ، ولا ينالهم منها مفاجأة ، ولا يُسْقَط في أيديهم. فلذلك وجّه الخطاب إليهم بذلك خاصّة ، في كلّ النصوص ، وكأنّه دعمٌ معنويٌّ منه ، لمواقفهم ، وحثّ لهم على المضيّ في السبيل التي يختارونها ، وهكذا كان :

فما أن أغمض النبيُّ عينيْه ، حتّى بدت البغضاءُ ضدَّ أهل البيت :
فكانت لهم مع ابنته الزهراء فاطمة مواقفُ أشدّ ضراوةً من حروب الميادين ، لأنّها حدّدتْ أُصول المعارضة ، ومعالمها ، وكشفتْ عن أهدافها , وقد جاءتْ صريحةً في خطاباتها الجريئة التي أعلنتها في مسجد رسول الله , فطالبتْ أبا بكر بحقوق آل محمّد من بعده : من مقام زوجها في الخلافة ، ونحلة أبيها في فدك ، وإرثها منه كما كتبه الله وشرّعه في القرآن .

فقامتْ عليها السلام تُحاكمه في مسجد رسول الله ، أمام الأُمّة ، معلنةً لمطالبها بمنطق الأدلّة المحكمة ، من القرآن الكريم ، والسُنّة الشريفة ، وبالوجدان والضمير ، ومُنادية بلسان أبيها الرسول وذاكرة وصاياه بحقّها .

فقوبلتْ بالنكران والخذلان .
فصرّحتْ وهي تُشهد الله ، بأنّها لهم قالية ، وعليهم داعية غاضبة تذكّرهم بحديث أبيها - المتمثّل على الأذهان - القائل : فاطمة بَضْعَة مِنّي ، فَمَنْ أغْضَبَهَا أغْضَبَني (53) ذلك الحديث الذي لم يملك أحد تجاهه غير القبول والتسليم والإذعان .

وتموت فاطمة عليها السلام شهيدة آلامها وغُصّتها .

ثمّ حروب أُثيرت ضدّ عليّ عليه السلام :
في وقعة الجمل ، حيثُ اصطفّت مع عائشة فئةٌ ناكثةٌ بيعتَها له , تُحارب الإمام إلى صفّ الزبير وطلحة ، يطالبون بدمٍ ليس لهم .

وفي صفّين ، حيث تصدّت الفئة الباغية لحقٍّ قد ثبت للإمام عليّ عليه السلام وأقرَ به الصحابةُ أنصاراً ومهاجرين ، وفضلاء الناس التابعين ، وإلى صفّه كبيرّ المهاجرين والأنصار : عمّارُ , الذي بشّره الرسولُ صلّى الله عليه واَله وسلّم بالجنّة ، وقال له : تقتلك الفئة الباغية ,فقتلته فئةُ معاوية .

وفي النهروان ، حيثُ واجهه القُراَنيّون ,الّذين لم يتجاوز القرآن تراقيهم ، الّذين مرقوا من الدين كما تمرق الرمية من السهم ، فكانوا هم الفئة المارقة .

وفي كلّ المواقف والمشاهد ، وقفَ الحسنان إلى جنب أبيهما أمير المؤمنين عليه السلام .

وحُوربَ الحسنُ عليه السلام عسكرياً ، ونفسيّاً ، حتّى قضى .

وحُوربَ الحسينُ عليه السلام ، حتّى سُفك دمه يوم عاشوراء .

إنّ الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم أعلن موقفه من كلّ هذه الحروب في حديثه لهم : أنا حرب لمن حاربكم. فإنّما حُوربَ أهل البيت ، لأنّهم التزموا بهدى الرسول . وقد أدّى كلّ منهم ما لديه من إمكانات ، في سبيل الرسالة المحمّدية ، حتّى كانتْ أرواحهم ثمناً للحفاظ على وجودها ، كي لا تخمد جذوتها ، ولا تنطمس معالمها .

(52) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 123).
(53) صحيح البخاري ( 5/ 36) باب مناقب فاطمة عليها السلام و (5 /26) باب مناقب قرابة رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم .


15-وديعةُ الرسول

ولم يدّخر الرسولُ صلّى الله عليه واَله وسلّم وُسْعاً في إبلاغ أُمّته ما لأهل بيته من كرامةٍ وفضلٍ وحُرمةٍ ، منذُ بداية البعثة الشريفة ، من خلال وحي الاَيات الكريمة ، وما صَدَرَ منه صلّى الله عليه واَله وسلّم من قولٍ ، وفعلٍ ، وعلى طول الأعوام التي قضاها في المدينة المنوّرة بين أصحابه وزوجاته في المسجد ، وفي الدار ، وخارجهما على الطريق ، وفي كلّ محفل ومشهد .

لقد وَعَدَ على حبّهم ، وتوعَدَ على بُغضهم وحربهم ، وأبلغَ ، وأنذرَ ، ورغّبَ وحذّر ، بما لا مزيدَ عليه .

ولمّا حُضِر ، ودَنَتْ وفاتُه ، اتّخذ قراراً حاسِماً نهائياً ، في مشهد رائع ، يخلد على الأذهان ، فلنصغ للحديث من رواية أنس بن مالك خادم النّبي صلّى الله عليه واَله وسلّم :

[167] جاءت فاطمة ، ومعها الحسن والحسين ، إلى النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم ، في المرض الذي قبض فيه . فانكبّتْ عليه فاطمة ، وألصقتْ صدرها بصدره ، وجعلت تبكي ، فقال النّبي صلّى الله عليه واَله وسلّم : مَهْ ، يا فاطمة , ونهاها عن البكاء . فانطلقت إلى البيت ، فقال النبي صلّى الله عليه واَله وسلّم - وهو يستعبر الدموع - : اللّهمّ أهل بيتي ، وأنا مستودعهم كلّ مؤمن , ثلاث مرّات( 54) فالمشهدُ رهيبٌ : رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم مسجّىً ، ستفقده الأُمّة بعد أيّام ، وتفقد معه : الرحمة للعالمين , وأمّا أهل البيت عليهم السلام ، فسيفقدون - مع ذلك - الأبَ ، والجدَ ، والأخَ ، تفقد الزهراء أباها ، ويفقد الحسنان جدّهما ، ويفقد علي أخاه وانكبابُ فاطمة على أبيها ، يعني منتهى القُرْبِ ، إذ لا يفصلُ بينهما شيء سوى الصدر ، والصدرُ محلّ القلب ، والقلبُ مخزنُ الحبّ ، فالتصاق الصدرين بين الأب والبنت ، في مرض الموت ، يُنبىء عن منظر رهيب مليء بالحزن والعاطفة ، بما لا يمكن وصفه .

وليس هناك ما يعبّر عن أحزان فاطمة عليها السلام ، إلاّ العَبْرة تجريها ، والرسول الذي يؤذيه ما يؤذي ابنته فاطمة ، لا يستطيع أن يشاهدَها تبكي ، فينهاها . لكنّه هو الاَخر ، لا يقلّ حزنهُ على مفارقة ابنته الوحيدة ، وسائر أهل بيته ، الذي أعلمه الغيبُ بما سيجري عليهم من بعده ، فلم يملك إلاّ استعبار الدموع .

على ماذا يبكي رسول الله ؟
إنّ كلامه الذي قاله يكشفُ عن سبب هذا البكاء في مثل هذه الحالة ، والمحتضرُ إنّما يوصي بأعزّ ما عنده ، فهو في أواخر لحظات حياته ، إنّما يفكّر في أهمّ ما يهتمّ به ، فيوصي به ، والرسول يُشهدُ الله على ما يقولُ ، فيقول : اللّهمّ ، أهل بيتي . ويجعلهم وديعةً , يستودعُها كلَ مؤمنٍ برسالته ، وحفظ الوديعة من واجبات المؤمنين } الَذِينَ هُمْ لأِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ {[الآية 8 من سورة المؤمنون 23 ] ويؤكّد على ذلك ، فيقوله ثلاث مرّات .

ولا يُظنّ - بعد هذا المشهد ، وهذا التصريح - أنّ هناك طريقة أوغلَ في التأكيد على حفظ هذه الوديعة ، ممّا عمله الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم ، ولكن لنقرأ السيرة الحسينيّة لِنجدَ ما فعلته الأُمّة بوديعة الرسول هذه .

وفي خصوص الحسين جاء حديث الوديعة , في رواية زيد بن أرقم قال : [322] أما - والله - لقد سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم يقول: اللّهمّ إنّي استودعكه وصالح المؤمنين .

وقد ذكر ابن أرقم هذا الحديث في مشهد آخر ، حيثُ كان منادماً لابن زياد ، فجيْ برأس الحسين ، فأخذ ينكث فيه بقضيبه ، فتذكّر ابن أرقم هذا الحديث ، كما تذكّر أنّه واجب عليه أن يقوله في ذلك المشهد الرهيب الاَخر ، وراح يتساءل : فكيف حفظُكم لوديعة رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ؟

مع أنّ زيد بن أرقم نفسه هو ممّن يُوَجَه إليه هذا السؤال ؟
وسنقرأ الإجابة في الفصل [31] ضمن : المواقف المتأخّرة.

(54) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 124).

 

العودة