الباب الثاني
سيرة الحسين عليه السلام قبل كربلاء
ثالثاً : في مقام الإمامة
20- مقوّمات الإمامة
21- البركة والإعجاز
22- الحجّ في سيرة الحسين عليه السلام
24- رعاية المجتمع الإسلاميّ
25 - مواقف قبل كربلاء
إنّ الإمامة في الحضارة الإسلامية هي ولاية أُمور المسلمين المرتبطة بدينهم ، وبدنياهم , والإمام هو الوالي ، المدبّر لتلك الأُمور حسب المصالح المتوفّرة في زمنه ، وبالأدوات والأساليب الممكنة له كمّاً وكيفاً .
ولابُدّ أن يتّصف الإمامُ بالأهليّة التامّة لمثل تلك الولاية ، التي يرتبط بها مصيرُ الأُمّة كلّها ، والإسلام نفسه ، كما أنّ إرادته هي التي تحدِّدُ مسير الدولة ودوائرها وسياستها .
ومن أجل خُطورة المنصب ، وعظمة ما يترتّب عليه ويرتبط به من أُمور مصيريّة ، فإنّ العلم بتوفّر تلك الأهليّة ، التي تكوّنها مقوّمات خلقيّة ، ونفسية وقابليّات ، ونيّات ، وأهداف ، لا يمكن الاطّلاع عليها إلاّ من خلال المعرفة التامّة ، والتداخل الوثيق في الماضي والحاضر ، وحتى المستقبل المستور ، وذلك ليسَ متصوّراً حصوله إلاّ لله العالم بكلّ الأُمور .
ومن هُنا ، فإنّ عنصر النَصّ , والتعيين الإلهيّ من خلاله لشخص الإمام المالك لأهليّة الإمامة ، شرط أساسيّ ، وضروريّ ، لإثبات الإمامة لأَي إمام .
ثمّ المواصفات الأُخرى :
فالعلم بالدين ، بجميع معارفه وشؤونه ، وبشكلٍ كامل وتامّ ، من أبده الأُمور اللازم وجودها في الإمام الذي يتولّى أمر الدولة الإسلامية ، ومن الواضح : أنّ ذلك لا يحصل إلاّ بالاتّصال الوثيق بمصادر المعرفة الإسلامية الثرّة الغنية ، والبعيدة عن الشوب والتحريف ، ليكون الإمام أعلم الناس ، ومرجعاً لهم في أُمور الدين ، ومعارفه . والفضل ، وأدواته : من الشرف ، والتقى ، ومكارم الأخلاق ، فلابُدّ أن يكون الإمام مقدَماً على أُمّته فيها ، حتّى يكون القدوة لهم . والقيادة ، بأن يكون بمستوى رفيع من الحكمة والتدبير ، والجرأة في الإقدام على الصالح للدين وللمسلمين ، والمتكفّل لعزّتهم ودوامه .وفي الفترة من سنة (50) إلى سنة (60) انحصرت هذه الخلال ، واجتمعت في شخص الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام ، بالإجماع وبلا منازع .
أمّا النصّ : فقد روى أهلُ الإسلام كافّة أنّ النبيَّ صلّى الله عليه واَله وسلّم قال في الحسن والحسين صلوات الله عليهما : ابناي هذان إمامان ، قاما أو قعدا , ذلك الحديث الذي أجمع عليه أهل القبلة ، وتلقته الأُمّة بالقبول ، وبلغ حدّ التواتر( 65).
مضافاً إلى الأدلّة الخاصّة الدالّة على إمامة الحسين عليه السلام بعد أخيه الحسن ، وما دلّ على أنّ الأئمّة اثنا عشر ، أوّلهم عليّ أمير المؤمنين ، والاَخَرون من ذرّيّته . ممّا طفحت به كتبُ الإمامة .
وأمّا العلم : فمن أوْلى باستيعابه من الحسين الذي تربّى في حجر الرسول وهو مدينة العلم ، ونشأ ونما في مدرسة حِجْر أمّهِ الزهراء البتول ، ولازم عليّاً أباه باب مدينة العلم ، وصحب أخاه الحسن الإمام بإجماع أُولي العلم ؟ فلابُدّ أنّه قد امتلأ من علم الدين من هذه العيون الصافية .
وقد أجمع أهل الولاء على تقدّمه على مَنْ عاصره في ذلك ، والتزموا بإمامته لذلك ، أمّا الآَخَرون فقد اضطرّهم هذا الواقع إلى الاعتراف : فهذا ابنُ عمر - لمّا يُحاسب على تصّرفه ، ويقاس عمله إلى عمل الحسنين عليهما السلام المتّزن والمليء بالحكمة - مع أنّهما أصغر سنّاً منه - أجاب ابن عمر بقوله : [176 - 177] ابنا رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، إنّهما كانا يُغَرّان بالعلم غَرَا , أي يُزَقّانِه ، كما يَزُقّ الطائر فرخه ، وهذا يُعطي أنّهما كانا منذ الصِغَر يَبُث فيهما جَدهما ، وأبُوهما ، وأُمهما : العلمَ . فَهَلْ يكون أحدٌ أعلمَ منهما في عصرهما ؟
وروى عكرمة ، حديثاً فيه الاعتراف بعلم الحسين عليه السلام ، إليك نصّه بطوله [203] روى عِكْرِمة : بينما ابن عباس يحدّث الناس إذ قام إليه نافعُ بن الأزرق ، فقال له : يابن عبّاس ، تفتي الناسَ في النملة والقَمْلة ، صِفْ لي إلهك الذي تعبدُ , فأطرق ابن عبّاس إعظاماً لقوله ، وكان الحسينُ بن عليّ جالساً ناحيةً ، فقال : إليّ يابن الأزرق , قال [ ابنُ الأزرق ] : لستُ إيّاك أسألُ قال ابن عبّاس : يابن الأزرق ، إنّه من أهل بيت النبوّة ، وهم ورثةُ العلم .
فأقبل نافعٌ نحو الحسين ، فقال له الحسينُ : يا نافع ، إنّ مَنْ وضع دينه على القياس لم يزل الدهر في التباس ، سائلاً ، ناكباً عن المنهاج ، طاعناً بالاعوجاج ، ضالاًّ عن السبيل ، قائلاً غير الجميل . يابن الأزرق ، أصِفُ إلهي بما وصف به نَفْسَه ، وأُعرّفه بما عرّف به نفسه ، لا يُدرَك بالحواسّ ، ولا يُقاس بالناس ، قريبٌ غير ملتصق ، وبعيدٌ غير منتقص ، يُوحَّد ولا يبعّض ، معروفٌ بالآيات ، موصوفٌ بالعلامات ، لا إلهَ إلاّ هو الكبيرُ المتعالُ . فبكىابنُ الأزرق، وقال: يا حسينُ ، ما أحسنَ كلامك .
قال له الحسين : بلغني أنّك تشهدُ على أبي وعلى أخي بالكفر ، وعليَّ ؟
قال ابن الأزرق : أما والله ، يا حسينُ ، لئن كان ذلك ، لقد كنتمْ منارَ الإسلام ، ونجومَ الأحكام (66).فشهادة ابن عبّاس الحقّة ، بأنّ الحسين عليه السلام من أهل بيت النبوّة ، وهم ورثة العلم , ليست الأُولى منه ، لكن رواية عكرمة - وهو من الخوارج - لها دليل على خضوع الأعداء لعلم أهل البيت .
أمّا إعراضُ ابن الأزرق عن مسائلة الحسين ، وتوجّهه إلى ابن عبّاس ، فهذا يكشف جانباً من مظلوميّة أهل البيت ، وصَدّ الناس عن معادن العلم وورثته وخزنته وهكذا - دائماً - يحاول الدجّالون إزواء أهل الحقّ بالإعراض عنهم وإغفال ذكرهم , وتناسي وجودهم , ولكن الله يأبى إلّا أنْ يتمّ نوره .
أمّا الحسين عليه السلام فهو لا يترك الأمر سُدىً ، بينما السؤالُ على رؤوس الأشهاد عن أعظم قضيّة جاء من أجلها الإسلام ، وهيَ التوحيد , فهو ينبري للجواب . حيث كان السؤال أمامه , فهو المقصود به , في وجه ابن عمّه ابن عباس , فسكوتُه يعني سكوت أهل البيت , بالرغم من تجاسر ابن الأزرق !؟
أمّا ابنُ الأزرق ، فحيثُ يجدُ الحقّ من معدنه ، لا يملك إلاّ الإقرار والخضوع والقبول , ولمّا يستغلُّ الإمامُ الحسين عليه السلام الموقف ليحرق جذور العُدوان ، ويقطع شأفةَ الظلم ، ويبدّد نتائج المهاترات السياسية طيلة الأعوام السوداء ، ممّا تكدّس في عقول علماء الأُمّة - مثل ابن الأزرق - وصار فكرة ورأياً وقولاً ، على فظاعته ، وشناعته ، وسوئه ، وهو تكفيره أهل البيت عليهم السلام بدلاً من تقديسهم - ولمّا يُبهتُ الحسينُ ابنَ الأزرق ، ويواجهه بهذا الكلام الثقيل ، لا يملك ابنُ الأزرق أيضاً إلاّ الاعتراف ، والتراجع عن أشدّ المواقف للخوارج التزاماً وتصلُّباً واعتقاداً .
ويصرّح ابن الأزرق معترفاً بأنّ أهل البيت : منارُ الإسلام ونجومُ الأحكام. .
وابن هندٍ : ذلك العدو اللدود لمحمّد وآل محمّد ، ولما جاءوا به من معالم دين الإسلام ومكارم الأخلاق ، والذي استنفد كلّ سهام مكره ودهائه في قمع هذا الدين ، واجتثاث أُصوله وفروعه ، وقتل ذويه وأنصاره ، وإطفاء أنواره ، وتهديم مناره ، وتحريف شرائعه وإبطال أحكامه , هذا المنافق الحسود الحقود ، لم يجدْ بُدّاً من الاعتراف بعلم الحُسين والإشادة بمنزلته , فقد أخذَ الحسينُ عليه السلام العلومَ في مسجد رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، حيثُ فتحَ عينه ، وتعلّم ألف باء الحياة والإسلام معاً ، ومعلّمه الأمين هو جدّه رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم , واليومَ ، حينَ آلتْ إلى الإمام الحسين عليه السلام مهمّة تعليم الأُمّة وإرشادها ، اتّخذ نفس المسجد مدرسةً .
وابنُ هندٍ - ذلك الضلّيل - الذي لم يهدأ لحظةً يجدّ في تحريف مسيرة الإسلام ، ويطمس تعاليمه السامية ، لا يمكنه أنْ يتغافلَ عن وجود تلك المدرسة ، لأنّه باسمها يتسنّمُ العرشَ ، ولا يمكنه أنْ يغضّ الطرفَ عن وجود معلّمٍ مثل أبي عبد الله الحسين ، الذي هو الامتداد الحقيقيّ لجدّه الرسول مؤسّس المدرسة ، فقال معاوية لرجل من قريش : [ 189]إذا دخلتَ مسجد رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم فرأيتَ حلقةً فيها قومٌ كأنَّ على رؤوسهم الطيرُ ، فتلك حلقة أبي عبد الله ، مؤتزراً على أنصاف ساقيه ، ليس فيها من الهُزّيلى شيء.
والهزّيلى فعلُ المشعوذ الذي يسحر أعينَ الناس ، لكن ليس في مجلس درس الحسين عليه السلام إلاّ حقائق المعرفة ، وعيون الحكمة ، والعلم الموروث ، ومعارف الكتاب ، وأحكام السُنّة .
وأمّا الفضل : فلا يرتاب مسلمٌ بأنّ آل محمّد أشرف بني هاشم ، وأنّ بني هاشم أشرفُ قريش ، وأنّ قريشاً أشرفُ العرب ، وآلُ محمّد ، أعرقُ بني هاشم نسباً ، وأطهرُهم رحماً ، وأكرمُهم حَسَباً ، وأوْفاهم ذِمَماً ، وأحمدُهم فعلاً ، وأنزهُهم ثوباً ، وأتقاهُم عملاً ، وأرفعُهم هِمماً . وقد أقرّ لهم العدوّ والصديقُ بالشرف والفضل والكرم والمجد(67).
فهذا عمرو بن العاص - الداهية النكراء الذي حارب آل محمّد جهاراً عن علمٍ وعَمْدٍ ، وبكلّ صلافةِ وحِقْدٍ ، زاعماً أنّه يستغلّ الظروف المؤاتية لصالح دُنياه القصيرة - يعلنُ عن بعض الحقيقة ، عندما يستظلّ بالكعبة ، التي كان يعبد أصنامها من قبلُ ، فجاء جدُّ الحسين ليشرّفه وقومه بعبادة الله ، ويطهرّ الكعبة من رجس الأصنام والأزلام .
وبالرغم من أنّ ابن النابغة ، نبغَ في محاربة كلّ القيم التي جاء بها الإسلامُ ، وعارضَ كلّ الذين وقفوا مدافعين عن تلك القيم ، وكانت لهم فضيلةُ التشرّف بها ، وجدّ بكلّ دهاء ومكرٍ وحيلةٍ يملكها ، فنفثَ في الأُمّة روحَ الجاهلية ليعيدَ مجدها ، ونابذَ عليّاً والحسن والحسين عليهم السلام بكلّ الطرق ، ووقف في وجه العدالة سنين طوالاً . لكنّه اليومَ ، يجدُ الكعبة وبناءَها الرفيعَ الشامخَ ، تَزْخَرُ بالعظمة الإسلاميّة ، طاهرةً من أوثان الجاهليّة وأرجاسها ، فلا يجدُ بُدّاً من الاعتراف ، وبينما هو كذلك إذ رأى الحسينَ ابنَ ذلك الرسول ، فلم يملك أيضاً إلاّ الاعتراف ، فقال [190] : هذا أحبُّ أهل الأرض إلى أهل السماء ، اليومَ .
ومعاوية ، أخوه الضلّيل ، يخنعُ لهذه الحقيقة ، يومَ دخلَ الحسنُ والحسينُ عليه ، فأمرَ لهما بمأتي ألف درهم ، وقال متبجّحاً : خذاها وأنا ابن هند ، ما أعطاها أحدٌ قبلي ، ولا يُعطيها أحدٌ بعدي وكأنَ معاوية استغلّ سياسة الإمام الحسن عليه السلام المبتنية على عدم مجابهته بالأجوبة ، حتّى وُصِفَ بأنّه كان : سكّيتاً , ولكن الحسين ، وهو يسير على خطّ إمامه الحسن عليه السلام ولا يخرج عن طوع إرادته - يعطي الموقفَ حقّه ، ويدمغُ معاويةَ بالحقيقة الصارخة ، ويقول : [5] والله ، ما أعطى أحدٌ قبلَك ، ولا أحدٌ بعدَك لرجلين أشرفَ ولا أفضلَ منّا( 68) فأُفْحِمَ معاوية ، ولم يَحْرِ جواباً .
وأمّا الآخَرون : فالمؤمنون يتشرّفون بآل محمّد ، كابن عبّاس حبر الأُمّة ، وتلميذ أمير المؤمنين عليه السلام ، فهو قرين الحسنين في التربية في هذا البيت الطاهر ، بيت الرسالة ، والإمامة ، رفيع العماد ، وبالرغم من تقدّمه في السنّ على الحسنين ، فهو لمعرفته بفضلهما ، وجلالتهما ، وشرفهما على قومهما ، لا يقصّر في إظهار ما يعرف ، وإبراز ما يجب القيام به تجاههما من الحرمة والكرامة ، في ما قال الراوي [188] : رأيتُ ابن عبّاس ، آخذاً بركاب الحسن والحسين . فقيل له : أتأخذُ بركابهما وأنتَ أسَن منهما ؟ فقال : إنّ هذين ابنا رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، أوَ ليس من سعادتي أن آخذ بركابيهما ?( 69).
بلى ، إنّها من نعم الله الكبرى ، ومن السعادة العظمى ، أن يتشرّف الإنسان بخدمة أشرف الخلق وأفضلهم ، وخاصة في تلك الظروف السياسية الحرجة وأنْ يُقدّم بذلك خدمة للأُمّة فيعرّفها بفضل أهل البيت عليهم السلام .
وحتّى أبو هريرة : الذي التقى بالنبيّ في أواخر سنّيّ حياته صلّى الله عليه واَله وسلّم , فأسلم في السنة السابعة للهجرة , ملازماً الصُفّة الشريفة بباب المسجد على شبع بطنه , فلابدّ أنّه كان يرى الحسين يروح ويغدو ، بين بيت أُمّه الزهراء وجدّه الرسول ، ويصحب جدّه في رواحه إلى المحراب ، وعلى ظهر المنبر ، وغدوّه منهما . هذا الذي ادّعى ملازمة الرسول أكثر من أصحابه الّذين شغلهم الصفقُ بالأسواق ، وانفضّوا إلى التجارات ، فكان لذلك أكثرهم حديثاً - بزعمه - على الإطلاق ، حتّى اتّخذَ لنفسه موقعاً رفيعاً في نفوس من صدّقه من الناس ، على الرغم ممّن كذّبه من كبار الصحابة وزوجات النبيّ ، كعليّ عليه السلام ، وعمر ، وعائشة (70) فهو إذنْ - حسب زعمه - يعلمُ من الحسين عليه السلام وفضائله أكثر ممّا يعرفه غيره ، لكنّه يبيتُ من أمر إعلانها وروايتها على خَطَرين :
فكيفَ يظهرُها ، في دولة بني أُميّة - وهو يرتعُ في مراعيهم ، ويطمعُ في برّهم ويقصعُ من مضيرتهم ؟
وكيفَ يتغافلُ عنها ، وله دعاوٍٍ طويلةٌ عريضةٌ في سماع الحديث الكثير عن رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، والاتّصال به باستمرار ؟ وإذا اضطرّ إلى إبراز شيءٍ فهو يعتمد على الإجمال .
اقرأ معي هذه الصورة من مواقف أبي هريرة [191]: . . . أعْيَى الحسينُ فقعدَ في الطريق ، فجعل أبو هريرة ينفُضُ الترابَ عَن قدميه بطرف ثوبه
فقال الحسين : يا أبا هريرة ، وأنتَ تفْعَل هذا ؟
قال أبو هريرة : دعني ، فو الله ، لو يعلمُ الناسُ منك ما أعلمُ ، لحملوك على رقابهم (71).لكن , لماذا قصّر أبو هريرة في تعليم الناس بعض ما يعلمُ عن الحسين ؟ فلو كان يعلّمهم لم يكن الجهلُ يؤدّي بالناس إلى أنْ يحملوا رأسَ الحسين على رؤوس الرماح , ولا أنْ يطؤوا جسده بخيولهم ، بدل أنْ يحملوه على رقابهم ? أليسَ هذا غَدْراً بأُمّة الإسلام، وإماتة للسُنّة التي كان أبو هريرة ينوء بدعوى حملها ؟
وأمّا القيادة : فقد اتّفقتْ كلمةُ مؤرّخي الإسلام فكريّاً وسياسيّاً ، على أنّ الإمام الحسين عليه السلام قد أدّى دوراً عظيماً في فترة إمامته ، وأنّه بمواقفه كان المانع الوحيد عن انهيار الإسلام وقواعده ، على أيدي بني أُميّة وعمّالهم ، وأنّه بقيادته الحكيمة للإسلام في تلك الفترة ، وبتضحيته العظيمة في كربلاء، كان الصدّ الأساسي من العودة إلى الجاهلية الأُولى .
فالحسين عليه السلام قد أحيى الإسلام بمواقفه قبل كربلاء ، وفي كربلاء، واستمرّت آثار حركته إلى الأبد ، وبذلك تحقّق مصداق قول الرسول صلّى الله عليه واَله و سلّم : حسينٌ منّي وأنا من حسين , كما شرحناه في الفقرة [11] السابقة.
أمّا عن صلابة الحسين عليه السلام ، وإقدامه في نصرة الحقّ خارج إطار كربلاء فقد مرّ بنا موقفه من عمر في الفصل [17] وسنقف على مواقفه من معاوية في الفصل [25].
وأمّا حديث كربلاء وبطولاتها ، وأشجانها فقد عقدنا له الباب الثالث التالي ، بفصوله المروّعة .(65) رواه الشيخ المفيد في النكت في مقدمات الأُصول ، الفقرة (82) وقد خرجناه في هامشه ونقلنا ما قاله علماء الإسلام حول تواتره .
(66) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظو ر( 7 / 130).
(67)لاحظ مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 /125).
(68) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 /115).
(69) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 / 128).
(70) انظر تدوين السُنّة الشريفة (ص7-488) والمحدّث الفاصل (ص4-555).
(71) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 /128) .
من معجزات النبيّ صلّى الله عليه واَله وسلّم المذكورة في سيرته ، أنّه تفلَ في بئرٍ قد جفّتْ ، فكثرَ ماؤها وعذبَ وأمهى ، وأمرى ، وهذا المعجزُ من بركة نبيّ الرحمة للعالمين قليلٌ من كثيرٍ ، وغيضٌ من فيضٍ .
والحسينُ عليه السلام ابنُ ذلك النبيّ ، وبضعةٌ منه ، وعصارةٌ من وجوده ، والسائر على دربه ، والساعي في إحياء رسالته ، فهو يمثّلُ في عصره جدّه الرسول جسدّياً ، ويمثّلُ رسالته هدياً ، فلا غروَ أنْ يكون له مثلُ ما كان لجدّه من الإعجاز ، وهو سائر في طريقه إلى الشهادة والتضحية من أجل الإسلام ، ليفعلَ ما لم يفعله أحَدٌ من قبله .
والإمامةُ - عندنا نحنُ الشيعةَ الإمامية - تشترك مع النبّوة في كلّ شيء إلاّ أنّ النبوّةَ تختصُّ بالوحي المباشر ، وبالشريعة المستقلّة ، أمّا الثبوت بالنصّ ، والأهداف ، والوسائل ، والغايات ، فهما لا يفترقان في شيء من ذلك .
بل الإمامةُ امتدادٌ أرضيٌّ للرسالة السماويّة ، فلا غروَ أنْ يَمُدّ اللهُ الإمامَ بما يمدُّ النبيّ من القُدرة على الخوارق التي لا يستطيعها البشرُ .
أليس الهدفُ من الإعجاز إقناعُ الناس بالحقّ الذي جاء به الأنبياء ? فإذا كان ما يدعو إليه الأئمّةُ هو عينُ ما يدعو إليه الأنبياء ، فأيّ بُعْدٍ في دعم هؤلاء بما دعمَ به أولئك ? من دون تقصيرٍ في حقّ اُولئك ، ولا مغالاةٍ في قدر هؤلاء ؟
ومهما كانَ ، فإنّ الحسينَ عليه السلام لمّا خرج من المدينة يريدُ مكّة مرّ بابن مطيع ، وهو يحفر بئره ، وجرى بينهما حديثٌ عن مسير الإمام ، وجاء في نهايته [201]: قال ابن مطيع : إنّ بئري هذه قد رشحتُها ، وهذا اليوم أوان ما خرجَ إلينا في الدلو شيء من الماء ، فلو دعوتَ اللهَ لنا فيها بالبركة .
قال الحسينُ عليه السلام : هاتِ من مائها . فأُتيَ من مائها في الدلو ، فشرِبَ منه ، ثمّ تمضمضَ ، ثمّ ردّه في البئر ، فأعذَبَ ، وأمْهى (72)وهذا من الحسين عليه السلام - أيضاً - غيضٌ من فيضٍ ، وهو معدن الكرم والفيْض . إلاّ أنّ حديثَ الماء ، والحسينَ في طريقه إلى كربلاء، فيه عِبْرة ، تستدرّ العَبْرة:
فهل هي إشارات غيبيّة إلى أنّ الحسينَ سيواجهُ المنعَ من الماء، وسيُقتلُ عَطشاً , وهو منبعُ البركة ، من فيض فمه يعذبُ الماءُ وينفجرُ ينبوعُه ؟
وهل كان ذلك يخطرُ على بالٍ ؟
لكنّ ذكر العطش والبحث عن الماء ، له شأنٌ آخر في حديث كربلاء.(72) في مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 130) وأُمْريَ ، هكذا مضبوطاً ، بدل (وأمهى)
22 - الحجّ , في سيرة الحسين عليه السلام
للحجّ في تراث أهل البيت عليهم السلام شأنٌ عظيم ، وموقعٌ متميّزٌ بين عبادات الإسلام ، فهم يبالغون في التأكيد على أنّ الكعبة هي محورُ الدين ، ومدار الإسلام ، ونقطة المركز له ، وقطب رحاه ، على المسلمين غاية تعظيمه والوفادة إليه .
ومن الواضح أنّ من الفوائد المنظورة للحجّ ، والتي صرّحتْ بها الآَياتُ الكريمة ، وأصبحتْ لذلك أفئدةُ المؤمنين تهوي إليه هو دلالته الواضحة على خلوص النيّة ، والتركيز على وحدة الصفّ الإسلامي ، وتوحيد الأهداف الإسلامية ، التي تركّزت عند الكعبة ، وتمحورت حولها .
وأهلُ البيت عليهم السلام كانوا في هذا التكريم العظيم جادّين أقوالاً وأفعالاً ، فالنصوص الواردة لذلك مستفيضةٌ بل متواترةٌ ، وقد أقدموا على ذلك عملياً بأساليب شتّى :منها : الإكثار من أداء الحجّ ، وقد جاء في سيرة الحسين عليه السلام : [2 - 193] إنّه حجّ ماشياً خمساً وعشرين , وإنّ نجائبه معه ، تُقاد وراءه(73 ) إنّها الغاية في تعظيم الحجّ ، بالسعي إلى الكعبة على الأقدام ، لا عن قلّة راحلة ، بل إمعاناً في تجليل المقصد والتأكيد على احترامه .
وهذا على الرغم من ازدحام سنيّ حياته بالأعمال ، فلو عدّدنا سنيّ إمامته العشر ، وسنوات إمامة أخيه الحسن العشر كذلك ، وسنوات إمامة أبيه الخمس ، لاستغرقت خمساً وعشرين حجّة . فهل حجّ الحسينُ عليه السلام في الفترة السابقة بعض السنوات ؟
وأُسلوبٌ آخر من تعظيم أهل البيت للكعبة والبيت والحرم : أنّهم لم يُقْدموا على أيّ تحرّكٍ عسكريّ داخلَ الحرم المكّيّ ، وكذلك الحرم المدنيّ ، رعايةً لحرمتهما أنْ يُهدَر فيهما دمٌ ، وتهتكَ لهما حرمةٌ على يد الحكّام والأُمراء الظالمين ، وجيوشهم الفاسدة ، المعتدية على حرمات الدين .
ومن أجل ذلك خرج الإمام عليّ عليه السلام من الحجاز ، وكذلك الإمام الحسين عليه السلام ، وكلّ العلويّين الّذين نهضوا ضدّ جبابرة عصورهم ، وطواغيت بلادهم ، خرجوا إلى خارج حدود الحرمين حفظاً لكرامتهما ، ورعاية لحرمتهما (74)
وبهذا الصدد جاء في حديث سيرة الحسين عليه السلام أنّه خرج من مكّة معجّلاً ، جاعلاً حجّه عمرةً مفردة ، حتّى لا تُنتهك حرمةُ البيت العتيق بقتله ، بعد أنْ دسَّ يزيدُ جلاوزته ليفتكوا بالإمام ، ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة وإذا كان الظالمون لا يلتزمون للكعبة والحرم بأيّة حرمة ، ويستعدّون لقتل النفوس البريئة فيه ، وهتك الأعراض في ساحته ، وحتّى لهدمه وإحراقه ، كما أحدثوه في تاريخهم الأسود مراراً ، وصولاً إلى أغراضهم السياسية المشؤومة .
فإنّ بإمكان الحسين عليه السلام أنْ يسلبهم القدرةعلى تلك الدنائة ، فلا يوفّر لهم فرصة ذلك الإجرام ، ولا يجعل من نفسه ودمه موضعاً لهذا الإقدام الذي يريده المجرمون ، فلا يحقّق بحضوره في الحرم ، للمجرمين أغراضهم الخبيثة ، بقتله وهتك حرمة الحرم ، وإن كان مظلوماً على كلّ حال . وهذه هي الغاية القصوى في احترام الكعبة ، وحفظ حرمة الحرم .
وقد صرّح الإمام الحسين عليه السلام بهذه الغاية لابن عبّاس ، لمّا وقف أمام خروجه إلى العراق ، فقال [243]: لئنْ أُقتل بمكان كذا وكذا ، أحَبُّ إليَّ من أنْ استحلَّ حرمتها . [244] وفي نصّ آخر : . . . أحبُّ إليَّ من أنْ يُستحلَّ بي ذلك( 75)
والنص الوارد في نقل الطبراني : . . . أحبُّ إليَّ من أنْ يُستحلَّ بي حرمُ الله ورسوله (76)
وهذه مأثرةٌ اختصَّ بها أهلُ البيت عليهم السلام لابُدّ أنْ يمجّدها المسلمون .
(73) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 /129)
(74) راجع جهاد الإمام السجّاد عليه السلام (ص68- 69)
(75)لاحظ : مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 142)
(76)تاريخ دمشق ،ترجمة الإمام الحسين عليه السلام (ص190-193) هامش(3).
الشعرُ يجري في وجدان الشعوب مجرى الدم ، ومعه يجري ما يحتويه الشعر من معنىً ومضمون ، وللشعراء في المجتمعات - وخاصة المجتمع العربيّ - وجودٌ مؤثّرٌ لا يمكن إنكاره .
واختلف الشعراءُ في أغراضهم وأهدافهم ، باختلاف طبائعهم ، وأُصولهم ، وانتماءاتهم القبليّة والطائفيّة ، وأهدافهم وأطماعهم الدينيّة والدنيوية ، وما إلى ذلك من وجهات نظر ، وغايات ، وآمال .
والمالُ الذي يسيلُ له لعابُ كثيرٍ من الناس ، يُغري من الشعراء مَن امتهنوا الشعرَ ، وحمّلوه مؤونة حياتهم المادّية ، قبلَ أنْ يكونَ بنفسه غرضاً ، يحدوهم إلى نيل مكانة اجتماعية في الأدب واللغة ، أو خلود الذكر في الحضارة البشرية ، أو علوّ الكعب والشرف بين الأقران والأهل والعشيرة ، أو الخُلْد والثواب والأجر في الآَخرة .
أمّا المالُ عند أهل الشرف والكرامة والإنسانية والعزّة النفسيّة ، من أصحاب الأهداف السامية الكُبرى ، فهو وسيلةٌ وليس هدفاً .
وكما أنّ الله تعالى ذكره استخدمَ المالَ لأغْراض العُبور على الجسور ، والوصول بها إلى الأهداف الربّانيّة ، فجعلَ للمؤلَفة قلوبهم حقّاً في أموال الله , فكذلك الحسينُ عليه السلام ، اتّباعاً للقرآن ، وتطبيقاً له فإنّه كانَ يستخدمُ المالَ لهدف معنويّ إلهيّ سامٍ . فكان يُعطي شعراء عصره ، ولمّا عوتبَ ، قال : [199] إنّ خيرَ المال ما وقَى العِرْضَ (77)
و العِرضُ هُنا ليس هو النامُوس , إذْ ليس بين المسلمين من يَخالُ أنْ يَنالَ من عِرض أهْل بَيْت الرسالة بل المراد به العِرْض السياسيّ الذي اسْتَهدفه من آل محمّد الأُمويّون ، فكانوا يكيلون سَيْلَ التهم والافتراء ضدّ عليّ وآل محمّد ، على حساب المدائح لمخالفيهم من آل عثمان و مروان وطواغيت آل أبي سفيان .
فكانت مبادرةُ الإمام الحسين عليه السلام قطعاً لأعذار المتسوّلين بشعرهم والمستغلّين لهذا المنبر الشعبيّ الفاعل ، في سبيل جمع الحُطام الزائل ، وعلى حساب تحكيم سلطة الظلمة الجائرين , فكان عطاءُ الحسين عليه السلام يحدّ من اتجّاه الشعراء إلى أبواب الحكّام ، ويقلّل من فرص استغلالهم من قبل الجائرين ، كما يُوصِدُ أمام السفلة أبواب التعرّض للشرفاء من معارضي السلطة وأنصارِها الطُغاة البغاة( 78)
ويُمكن أنْ تُفسَر ظاهرة رواية الشعر المنسوب إلى الأئمّة عليهم السلام ، على أساس من هذا المنطلَق ، فبالرغم من أنّ قول الشعر لا يليقُ بأُولئك العلماء ، القادة ، السادة ، الّذين كانت لهم اهتمامات كبرى ، ومع أنّ الشعر المنسوب أكثرهُ ضعيف اللفظ والوزن ، ولا وقع له في مجال اللغة والأدب فضلاً عن أنْ يُقاسَ بكلماتهم النثريّة التي هي في قمّة البلاغة والفصاحة , إلاّ أنّ من الممكن أن تصدُرَ - لو صحّت النسبةُ - من أجْل ملىء الفراغ في دنيا الشعر ، والذي انهمك فيه الشعراء بأغراضٍ أُخرى ، وقلّت فيها النخوة الدينية عندهم ، فلا يبعدُ أنْ يكون للأئمّة عليهم السلام شعرُ يسدّ بعض هذا الفراغ ، ويجذب قلوب الناس إلى المعاني والأغراض الصالحة التي تحتويه , أو يكون بعضُ الموالين قد حاول ذلك ، فأخذ من الأئمّة المعاني ونظمها بشكل سهل ، ليتهيّأ لكلّ الناس حفظه وتداوله ، فنسب إلى الأئمة باعتبار معانيه .
ومن الشعر المنسوب إلى الإمام الحسين عليه السلام :
ومهما يكن ، فإنّ ابن عساكر قد روى من الشعر المنسوب إلى الإمام الحسين عليه السلام ، الشيء الكثير ، نختار منه ما يلي :
[205] خرجَ سائل يتخطّى أزقّة المدينة ، حتّى أتى باب الحسين بن عليّ ، فقرع الباب ، وأنشأ يقول :
لم يَخَبِ اليَوم مَنْ رجاكَ ومَنْ * حرّكَ من خلف بابك الحَلَقَهْ
فأنْتَ ذو الجودِ أنْتَ معدِنُه(79) * أبوكَ قد كان قاتلَ الفَسَقَهْوكان الحسينُ بن علي واقفاً يُصلّي ، فَخَفَفَ من صلاته ، وخرجَ إلى الأعرابيّ ، فرأى عليه أثر ضُرّ وفاقة ، فرجع ونادى بقَنْبرٍ فأجابه : لبّيك ، يابنَ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم , قال : ما تبقّى معكَ من نفقتنا ؟ قال : مائتا درهم ، أمرتني بتفريقها في أهل بيتك , قال : فهاتها ، فقد أتى مَنْ هو أحقُّ بها منهم. فأخذها ، وخرج ، فدفعها إلى الأعرابيّ ، وأنشأ يقول :
خُذْها فإنّي إليك معتذِر * واعلم بأنّي عليك ذو شَفَقَهْ
لو كان في سيرنا الغداة عصاً (80) * كانَتْ سمانا عليك مُنْدَفقهْ
لكنّ ريبَ الزمان ذو نَكَدٍ * والكف منّا قليلة النَفَقهْفأخذها الأعرابيُّ وولّى وهو يقول :
مُطَهرونَ نقيّات ثيابُهم * تجري الصلاةُ عليهم أينما ذُكروا
فأنتمُ أنتمُ الأعلونَ عندكمُ * علمُ الكتاب وما جاءتْ به السورُ
من لم يكنْ علويّاً حين تنسبُه * فماله في جميع الناس مُفتخرُ(81)[208] وأنشدوا ، له عليه السلام :
أغْنِ عن المخلوق بالخالقِ * تغن عن الكاذب والصادقِ
واسترزق الرحمنَ من فضله * فليس غير الله من رازقِ
مَنْ ظنَ أنّ الناس يُغنونَه * فليس بالرحمن بالواثقِ
أو ظنَ أنَ المال من كسبهِ * زلّتْ به النعلان من حالقِ(82)[209] وروى الأعمش ، له عليه السلام :
كلّما زِيْدَ صاحبُ المال مالا * زِيْدَ في هَمّه وفي الاشتَغالِ
قد عرفناكِ يا منغصّة العيشِ ويا دارَ كلّ فانٍ وبالِ
ليس يصفو لزاهدٍ طلب الزهدِ إذا كانَ مثقلاً بالعيالِ(83)[210] وروي أنّ الحسين عليه السلام أتى المقابر بالبقيع فطاف بها ، وقال :
ناديتُ سُكّان القبور فأُسْكتوا * وأجابني عن صمتهم ندب الجثى
قالت أتدري ما صنعتُ بساكني * مزّقتُ ألْحُمَهم وخرّقتُ الكِسا
وحشوْتُ أعينهم تراباً بعدما * كانتْ تؤذى بالقليل من القذى
أمّا العظام فإننّي فرّقتها * حتّى تباينتِ المفاصل والشوى
قطّعتُ ذا من ذا ومن هاذاك ذا * فتركتُها رمماً يطول بها البِلى(84)[211] وأنشدوا له عليه السلام :
لئن كانت الدُنيا تُعدُّ نفيسةً * فدارُ ثوابِ الله أعلى وأنْبلُ
وإن كانت الأبدان للموت أُنشِئتْ * فقتلُ سبيل الله بالسيف أفضلُ
وإن كانتِ الأرزاقُ شيئاً مقدَراً * فقلّة سعي المر في الكسب أجملُ
وإن كانتِ الأموال للترك جُمِعَتْ * فما بالُ متروكٍ به المرُ يبخلُ(85)(77) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 -129)
(78) انظر موقف الحسين عليه السلام من الفرزدق الشاعر هامش (ص207) من تاريخ دمشق ، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام .
(79) في مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور : وأنت جود وأنت معدنه .
(80) في مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور : لو كان في سيرنا عصاً تمدّ إذن!
(81) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 / 1 - 132)
(82)و ( 83 ) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 /132) .
(84)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 /132) باختلاف يسير
(85)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 /133) .
إنّ من أهمّ واجبات الإمام هو رعاية المجتمع الإسلامي عن كَثَبٍ ، وملاحظة كلّ صغيرة وكبيرة في الحياة الاجتماعيّة ، ورصدها ، ومحاولة إصلاحها وإرشادها ، ودفع المفاسد والأضرار ، بالأساليب الصالحة ، وبالإمكانات المتوافرة ، دَعْماً للأُمّة الإسلاميّة ، وحفظاً للمجتمع من الانهيار أو التصدّع .
وقد ورد عن الإمام الحسين عليه السلام حديث مهمّ يدلّ على عمق اهتمام الإمام بهذا الأمر الهامّ :
قال جُعيد الهمدانيّ : أتيتُ الحسين بن عليّ وعلى صَدْره سكينة ابنتهُ ، فقال : يا أُخْتَ كلب ، خذي ابنتك عنّي , فسألني ، فقال : أخبرني عن شباب العرب ? قلتُ : أصحاب جُلاهقات ومجالس
قال عليه السلام : فأخبرني عن الموالي ? قلتُ : آكل رِبا ، أو حريص على الدنيا
قال عليه السلام : ( إِنَا للهِ وَ إِنَا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) والله ، إنّهما لَلصنفان اللذانِ كنّا نتحدّثُ أنّ الله تبارك وتعالى ينتصرُ بهما لدينه .
يا جُعيد همدان : الناس أربعة :
فمنهم من له خَلاق ، وليس له خُلُق
ومنهم من له خُلق ، وليس له خَلاق .
ومنهم من ليس له خُلُق ولا خلاق ، فذاك أشرّ الناس
ومنهم من له خُلُق وخلاق ، فذاك أفضل الناس(86).وهذا الحديث يدلّ على مراقبة دقيقة ، من الحسين عليه السلام ، لمجتمع عصره : فقوله : كُنّا نتحدّث , يدلّ - بوضوحٍ - على تداول الأمر ، والتدبير الحكيم والمشورة المستمرّة ، من الإمام ومن كان معه ، حول السُبل الكفيلة لنصرة الدين وإعزازه وتقوية جانبه ، وتهيئة الكوادر الكفوءة لهذه الأغراض وإنجاحها .
والتركيز على شباب العرب , بالذات ، يعني الاعتماد على الجانب الكيفيّ في الكوادر العاملة ، إذ بالشباب يتحقّق التحرّك السريع والجريء ، فهم عصب الحياة الفعّال ، وعليهم تعقد الآَمال ، وهم يمثلّون القوّة الضاربة .
وأمّا الموالي , فهم القاعدة العريضة ، التي ترتفع أرقامها في أكثر المواجهات والحركات ، وهم أصحاب العمل والمال ، والّذين دخلوا هذا الدين عن قناعة بالحقّ ، وحاجة إلى العدل . ولكن سياسة التهجين ، والتدجين ، الأُموية ، جرّت شباب العرب ، إلى اللهو واللعب . وجرّت الموالي إلى الالتهاء بالأموال والتكاثر بها .
وهنا تأتي كلمة (إِنَا للهِ وَإِنَا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) في موقعها المناسب ، لأنّها تُقالُ عند المصيبة ، والمصيبة الحقيقية أنْ تموتَ روحُ القوّة والتضحية والنضال في هذين القطاعين المهمّين من الأُمّة .
وتقسيمه عليه السلام المجتمع إلى : مَنْ له خُلُق وكرامة وشرف ، يعتمد الأعراف الطيّبة ، وتدفعه المروءة إلى التزام العدل والإنصاف ، ورفض الجور والفساد والامتهان ، ويرغب في الحياة الحرّة الكريمة في الدنيا .
وإلى من له خَلاق ودين وعمل صالح وضمير ووجدان وعقيدة ورجاء ثواب ، يدفعه كلّ ذلك إلى نبذ الباطل ، وبذل الجهد في سبيل إحقاق الحقّ . فمن جمعَ الأمرين فهو أفضلُ الناس جميعاً ، وهو ممّن تكون له حميّة ، ويسعى في الدخول في من ينتصر الله به لدينه .
ومن تركهما معاً ، فهو من أذلّ الناس وأحقرهم ، وهل شرّ أشرّ من الذُلّ . ومن التزمَ واحداً ، فقد أخطأ طريق العمل الصالح ، وهو في ذلّ ما ترك الآَخر ، وهل يُرجى الخير من ذليل ? وإنْ كان محسناً أو صالحاً ؟
وموقف آخر : قال بشر بن غالب الأسديّ : قدمَ على الحسين بن عليّ أناسٌ من أنطاكية فسألهم : عن حال بلادهم ? وعن سيرة أميرهم فيهم ? فذكروا خيراً ، إلاّ أنّهم شكوا البَرد(87)
فالإمام عليه السلام يستكشف الأوضاع السائدة في بلاد المسلمين ، حتى ابعدَ نقطة شمالية ، وهي أنطاكية , وهي رقابة تنبع من قيادة الإمام للاُمّة ، فمع فراغ يده من السلطة القائمة ، فهو لا يتخلّى عن موقعه ، ويخطّط له .
(86) تاريخ دمشق ، ترجمة الإمام الحسن عليه السلام رقم [272] ص159، وقد رواه عن الإمام الحسن عليه السلام ، لكنّ ابن سعد أخرجه عن الإمام الحسين عليه السلام ، وكذلك المتّقي الهندي ، كما في هامش الموضع المذكور ، و جعيد يروي عن الإمامين ، لكن ذكر سكينة يُعيّن كون الحديث للحسين عليه السلام .
(87) تاريخ بغداد (3 /63).
التزم الحسينُ بمواقف أخيه مدّة إمامة الحسن عليه السلام ، لأنّ الحسين من رعاياه ، وتجب عليه طاعته والانقيادُ له ، لما هو من الثابت أنّ الإمام إنّما يتصرف حسب المصالح اللازمة ، وطبقاً للموازين الشرعيّة ، التي تمليها عليه الظروف ، وبالأدوات والإمكانات المتيسّرة له .
وقد استغلّ معاويةُ حلم الإمام الحسن عليه السلام ، ليتمادى في غيّه ، ويزيدَ في تجاوزاته وتعدّياته ، فخطّطَ لذلك خططاً جهنّميّة ، تؤدّي نتائجها إلى هدم كيان الإسلام ، وضرب قواعده ، بداً بتحريف الحقائق ونشر البدع ، ومنع الحديث النبويّ , وإبطال السُنّة ، في بلاط الأُمراء والحكّام ، ثمّ محاولة نشر ذلك في ساحة البلاد الإسلامية الواسعة .
لكنّ الذي كان يمنعه وجود الأعداد الكبيرة من أنصار الحقّ ، وأعوان الإمام عليّ عليه السلام الذين حافظ على وجودهم الإمام الحسن عليه السلام بمخطّطه العظيم ومواقفه الصائبة بالتزام الصلح المفروض ، والشروط التي كانت هي قيوداً تُكبّل معاوية لو التزمها ، وتُخزيه لو خرقها .
ولقد خالفَ معاوية كثيراً من بنود الصلح ، فأخزى نفسه في مخالفة العهد الموقّع من قبله ، وكانَ أخطرَ ما قام به هو الفتك بالصلحاء من الشيعة الّذين كانُوا يتصدّون لمُنْكره ، وللبدع التي كان ينشرها ، وللأحاديث المكذوبة التي كان يُذيعها على ألسنة وُلاته ووعّاظ بلاطه .
فلمّا ماتَ الحسنُ بن عليّ - والكلام من هُنا لسليم بن قيس الهلالي ، المؤرّخ الذي عاش الأحداث وسجّلها بدقّة - : ازداد البلاءُ والفتنةُ ، فلم يَبْقَ لله وليٌ إلاّ خائفٌ على نفسه ، أو مقتول ، أو طريد ، أو شريد(88).
وكانت الفترة التالية عصر إمامة الحُسين عليه السلام ، وكانت مزاولات معاوية التعسّفية بلغت أوْجَ ما يتصوّر ، وكادتْ مخطّطاته أنْ تُثمِر ، وقد اتضّح لجميع الأُمّة - صالحها و طالحها - استهتار معاوية بالمواثيق التي التزم بها نفسه في وثيقة الصلح ، والعهود التي قطعها على نفسه أمام الأُمّة ، وتبيّن للجميع أنّ ما يزاوله إنّما هو الملك والسلطة ، وليس هو الخلافة عن الله ورسوله ، فقد انفتحتْ أمامَ الحسين عليه السلام آفاقٌ جديدة وأُتيحت له ظروفٌ مغايرةٌ ، ووجب عليه التصّدي لاستثمارات معاوية من خططه الجهنّميّة التي أعدّها طوال السنين التي حكم فيها من سنة (40) للهجرة ، وحتّى أواخر أيام ملكه اجتماع منى العظيم :
قال سليم في تتمّة كلامه السابق : فلمّا كان قبل موت معاوية بسنتين ، حَجّ الحسين بن عليّ عليه السلام و عبد الله بن جعفر و عبد الله بن عبّاس معه .
وقد جمع الحسين بن علي عليه السلام بني هاشم : رجالَهم ونساءهم ومواليهم وشيعتهم ، من حجّ منهم ومن لم يحجّ ، ومن الأنصار ممّن يعرفونه وأهل بيته .
ثم لم يَدَعْ أحداً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، ومن أبنائهم والتابعين ، ومن الأنصار المعروفين بالصلاح و النُسُك ، إلاّ جمعهم .
فاجتمع عليه < بمِنَى > أكثر من ألف رجل( 89 ) .ويمكن اعتبار اجتماع مِنى هذا العظيم ، موقفاً سياسياً هامّاً ، من وجهين :
1 - أنَه تظاهرة كبيرة ، تجمع عَدَداً كبيراً من ذوي الشهرة ، والوجهاء المعروفين بين الأُمّة ، بحيث لا يمكن إغفال أثرها ولا منع الناس من التساؤلات حولها .
2 - أنّه أكبر مَجْلِسٍ يضم أصحابَ الرأي من رجالات الأُمّة ، وشخصيّاتها ممّن له الحقّ في إبداء الرأي ، وسنّ القانون ، وهم النُخْبة المقدّمة من أهل الحلّ والعقد ، ومن جميع القطّاعات الفاعلة في المجتمع الإسلامي وهم :العلويّون ، والصحابة - المهاجرون والأنصار - والتابعون ، ومن النساء ، وطبقة الأبناء ، وطبقة الموالي . بحيث يمكن أن يعتبر ذلك < استفتاءاً شعبيّاً عامّاً > من خلال وجود ممثّلين لكلّ طبقات الشعب المسلم .
وتبدو الحكمة و الحنكة في انتخاب الزمان، والمكان، لعقد ذلك المجمع العظيم:
فأرض منى المفتوحة الواسعة ، وهي جزء من الحرم - تسع لمثل هذا الاجتماع العظيم في ساحة واحدة ، وفي وسط كلّ الوافدين عليها ، من الحجّاج المؤدّين للواجب ، أو غيرهم القائمين بأعمال أُخرى ، واجتماع رهيب ، مثل ذلك ، لا يخفى على كلّ الحاضرين في تلك الأرض المفتوحة ، وبذلك ينتشر الخبر ، ولا يُحصَر بين الأبواب المغلقة أو جدران مكانٍ خاصٍ .ولابدّ أنْ يكونَ الاجتماعُ في زمان الحضور في مِنى وهو يوم العيد الأكبر - يوم الأضحى - العاشر من ذي الحجّة ، فما بعد ، إذ على الجميع - الناسكين والعاملين معهم - الوجود على أرض مِنى ، لأداء مناسكها او تقديم الخدمات إلى الوافدين .
وفي انتخاب مثل هذا المكان ، في مثل ذلك الزمان ، مع نوعية الأشخاص المنتخبين للاشتراك في هذا الاجتماع ، دلالات واضحة على التدبير والاهتمام البليغ الذي كان يوليه الإمام لهذا الموقف .
وأمّا محتوى الخطاب التاريخي الذي ألقاه الإمام الحسين عليه السلام فهو ما سنقرؤه معاً ( 90 ) : خطبة الإمام بمنى :
أمّا بعدُ ، فإنَ هذا الطّاغية قد فَعَلَ بنا و بشيعتِنا ما قد رأيتُم وعلِمتُم وشهِدتُم . وإنّي أُريد أن أسألَكُم عن شيٍ، فإنْ صدقتُ فصدقوني ، وإن كذبتُ فكذبوني .
اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي ، ثمّ ارجعوا إلى أمصارِكُم وقبائِلِكُم ، فَمَن أمِنْتُم من النّاسِ وَوَثِقْتُم بهِ فادعوهم إلى ما تعلمونَ من حقنا . فإنّي أتخوَفُ أن يُدرسَ هذا الأمرُ ، ويذهبَ الحق ويُغلَب ( وَاللهُ مُتِم نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ ) . [التوبة 9/الاية 32 ]
أنشدكم الله : أتعلمون أنّ عليّ بن أبي طالب كان أخا رسول الله - صلّى الله عليه واَله وسلّم - حين آخى بين أصحابِهِ فآخى بينه وبين نفسه ، وقال : أنت أخي وأنا أخوك في الدّنيا والاَخرة ?
قالوا : اللّهمّ نعم ،
قال : أنشدكم الله : هل تعلمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم اشترى موضعَ مسجدِهِ ومنازِلِهِ فَاْبتناهُ ثُمّ اْبتنى فيه عشرةَ منازل ، تسعة له ، وجعل عاشرها في وسطِها لأبي ، ثمّ سَدَ كُلَ بابٍ إلى المسجد غيرَ بابِه ، فتكلَمَ في ذلك من تكلَمَ ،
فقال : ما أنَا سددتُ أبوابَكُمْ وفتحتُ بابَهُ ولكنّ الله أمرني بسد أبوابِكُم وفتحِ بابِه ، ثمّ نهى النّاس أن يناموا في المسجد غيره ، وكان يُجنب في المسجد ومنزله في منزل رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم فوُلِدَ لرسولِ الله صلّى الله عليه واَله وسلّم وله فيه أولاد
قالوا : الّلهمّ نعم .
قال : أ فتعلمون أنّ عمر بن الخطّاب حَرِصَ على كُوَةٍ قَدْرَ عينهِ يَدَعُها في منزلهِ إلى المسجد فأبى عليه ، ثُمّ خطب فقال : إنّ الله أمرني أن أبني مسجداً طاهراًلا يسكُنُهُ غيري وغير أخي وبنيه ?
قالوا : الّلهمّ نعم .
قال : أَنْشُدُكم الله : أتعلمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم نصبه يوم غدير خمّ فنادى له بالولايةِ وقال : ليبلّغ الشّاهدُ الغائب ?
قالوا : الّلهمّ نعم .
قال : أَنْشُدُكم الله : أتعلمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم قال له في غزوة تبوك : أنت منّي بمنزلةِ هارونَ مِنْ مُوسى ، وأنت ولي كُل مُؤمنٍ بعدي ؟
قالوا : اللّهمّ نعم .
قال : أَنْشُدُكم الله : أتعلمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم حين دعا النّصارى من أهل نجرانَ إلى المباهلةِ لم يأتِ إلاّ بهِ وبصاحبَتِهِ وابنيهِ ?
قالوا : الّلهمّ نعم .
قال : أَنْشُدُكم الله : أتعلمون أنَهُ دفع إليه اللّواء يومَ خيبر ثمّ قال : لأدفعه إلى رجلٍ يحبهُ الله ورسولُهُ ويُحِب الله ورسولَهُ كرّار غير فرّارٍ ، يفتحُها الله على يديه ?
قالوا : الّلهمّ نعم .
قال : أتعلمون أنّ رسول الله بعثه ببرائَةٍ وقال : لا يبلّغ عنّي إلاّ أنا أو رجل منّْي ?
قالوا : الّلهمّ نعم .
قال : أتعلمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم لم تنزل به شدّة قط إلاّ قدّمَهُ لها ثقةً بهِ وأنّه لم يدْعُهُ باْسمِهِ قط إلاّ يقول : يا أخي ، واْدعُوا لي أخي ?
قالوا : الّلهمّ نعم .
قال : أتعلمونَ أنّ رسولَ الله صلّى الله عليه واَله وسلّم قضى بينَهُ وبينَ جعفرٍ وزيدٍ فقال : يا علي أنتَ منّي وأنا منك ، وأنت ولي كُل مُؤمنٍ بعدي ?
قالوا : الّلهمّ نعم .
قال : أتعلمون أنَهُ كانت مِنْ رَسُولِ الله صلّى الله عليه واَله وسلّم كلَ يوم خلوة وكُلَ ليلةٍ دخْلَة ، إذا سألَهُ أعطاهُ وإذا سكت ابتدأه ?
قالوا : الّلهمّ نعم .
قال : أتعلمونَ أنَ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم فضّله على جعفرٍ وحمزة حين قال : لفاطمة عليها السلام : زوّجْتُكِ خيرَ أهلِ بيتي ، أقدمَهُمْ سِلْماً ، وأعظَمَهُمْ حِلْماً ، وأكثَرَهُم عِلْماً ?
قالوا : الّلهمّ نعم .
قال : أتعلمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم قال : أنا سيّدُ وُلْدِ بني آدَمَ ، وأخي عليّ سيّدُ العرَبِ ، وفاطمةُ سيّدةُ نساءِ أهلِ الجنّةِ ، والحسنُ والحسينُ ابناي سيّدا شبابِ أهلِ الجنةِ ?
قالوا : الّلهمّ نعم .
قال : أتعلمونَ أنّ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم أمره بغسلِهِ وأخبَرهُ أنّ جبرئيلَ يُعينُهُ عَلَيْهِ ?
قالوا : الّلهمّ نعم .
قال : أتعلمونَ أنّ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم قال في آخر خطبة خَطَبَها : إنّي تركتُ فيكُمُ الثَقَلَيْن كتابَ الله وأهلَ بيتي ، فتمسَكُوا بِهما لن تَضِلوا ?
قالوا : الّلهمّ نعم .
ثمّ ناشَدَهُم أنّهم قد سمعوه يقول : <مَن زَعَم أنَهُ يُحبني ويُبغِضُ عليّاً فقد كَذِبَ ، ليسَ يُحبّني ويُبغضُ علّياً> ، فقال له قائل : يا رسول الله وكيف ذلك ? قال : لأنّه منّي وأنا منهُ ، من أحبَهُ فقد أحبَني ، ومَن أحبَني فقد أحبَ الله ، ومَن أبغضَهُ فقد أبغضَني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله ?
قالوا : الّلهمّ نعم ، قد سمعنا . . .اعتبروا أيها النَاسُ بما وَعظَ الله به أولياءَ هُ من سُوءِ ثَنائِهِ على الأحبار إذْ يقول : ( لَوْلا ينهاهُمُ الرَبَانيّوُنَ وَالأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهُم الإثْمَ ) وقال : ( لُعِنَ الّذينَ كَفَرُوا مِنْ بَني إسْرَائيلَ - إلى قوله - لبئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُون)
وإنَما عابَ الله ذلك عليهم ، لأنّهم كانوا يَرَوْنَ من الظَلَمَةِ الّذين بين أظْهُرِهِم المُنكرَ والفَساد فلا ينهونهم عن ذلك رَغبةً فيما كانوا ينالونَ منهم ، ورهبةً ممّا يحذرون ، والله يقول : ( فلا تَخْشواْ النَاسَ وَاْخشَوْن ) وقال : ( المُؤْمِنُونَ واْلمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أولياءُ بَعْضٍ يأمرونَ بِاْلمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اْلمُنْكَرِ ) . فبدأ الله بالأمر بالمعروفِ والنّهي عن المنكر فريضةً منه لعلمِه بأنَها إذا أُديَتْ وأُقيمت استقامتِ الفرائضُ كلها هَينُها وصَعْبُها ، وذلك أنّ الأمرَ بالمعروفِ والنّهيَ عَن المُنْكر دعاء إلى الإسلام مع رد المَظَالِم ومخالفةِ الظّالمِ وقسمةِ الفَيء والغنائمِ وأخذِ الصَدَقاتِ من مواضِعِها ووضعِها في حقّها .
ثمّ أنتم أيّتُها العصابةُ عصابة باْلعِلْمِ مشهورة وبالخيرِ مذكورة وبالنصيحة معروفة وبالله في أنفُسِ النّاسِ مهابة ، يهابُكُمُ الشّريفُ وَيُكْرِمُكُمُ الضعيفُ وَيُؤْثُِركُم مَنْ لا فضلَ لكم عليه ، ولا يدَ لكم عنده ، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت مِنْ طُلابِها ، وتمشُونَ في الطّريقِ بهيبة الملوك وكرامة الأكابرِ . أليس كُلّ ذلك إنّما نِلتُموهُ بما يُرجى عندكُم من القيامِ بحق الله وإن كنتم عن أكثر حقّهِ تقصُرُونَ فاسْتَخْفَفْتُمْ بحقّ الأئمّة ، فأمّا حقّ الضعَفاءِ فَضَيَعْتُمْ ، وأمّا حقّكم بزعْمِكُمْ فَطَلَبْتُم ، فَلا مالاً بذلتموه ، ولا نفساً خاطَرْتُم بِها للّذي خلَقَها ، ولا عشيرةً عاديتموها في ذاتِ الله .
أنتُم تتمنّونَ على الله جَنَتَهُ ومجاورةَ رُسُلِهِ وأماناً من عذابهِ
لقد خشيتُ عليكم - أيها المُتَمَنّونَ على الله - أن تَحِلَ بكُم نقمة مِن نقماتِهِ لأنّكم بلغتم من كرامة الله منزلة فُضّلتمْ بها ، ومن يُعرَفُ بالله لا تُكْرِمُونَ ، وأنتُم بالله في عباده تُكْرَمُونَ .
وقد تَرَوْنَ عهودَ الله منقوضَةً فلا تَفزَعُون ، وأنتُم لبعضِ ذِمَمِ آبائِكُمْ تَفْزَعُون وَذِمّةُ رسولِ الله مخفورة ، والعُميُ والبُكُم والزّمنى في المدائنِ مهملة لا تَرحَمُونَ ولا في مَنزِلَتِكُم تعملون ، ولا مَنْ عَمِلَ فيها تُعينون . وبالادّهانِ والمُصَانَعَةِ عند الظَلَمَةِ تأمنون .
كُلّ ذلك ممّا أمركم الله بهِ من النّهي والتّناهي وأنتم عنه غافلونَ .وأنتُم أعظم النّاس مصيبة لما غلبتم عليه من منازلِ العلماء لو كنتُم تشعرون ، ذلك بأنّ مجاريَ الأُمورِ والأحكامِ عَلَى أيدي العُلَماء بالله الاُمناءِ عَلَى حَلاَلِهِ وَحَرَامِهِ ، فأنتُم المَسْلُوبونَ تلك المنزلةِ وَما سُلِبْتُم ذلك إلاّ بتفرقِكُم عن الحقّ واْختلافِكُم في السُنّة بعد البيّنة الواضحة ، وَلَوْ صَبَرْتُم علَى الأذَى وتحمّلْتُم المؤونة في ذاتِ الله كانت أُمور الله عليكُم تَرِدُ وعنكم تصْدُرُ وَإِلَيْكُمْ تَرْجعُ ، ولكنَكُم مكّنتُم الظَلَمَة مِنْ منزِلَتِكُمْ ، وأسلمتم أُمور الله في أيديهم ، يَعملون بالشبُهاتِ ، ويَسيرونَ في الشَهَواتِ ، سلّطهم على ذلك فرارُكُم مِنَ الموتِ وإعجابُكُم بالحياة التّي هي مفارقتُكُم ، فأسلمتم الضعفاءَ في أيديهم فمن بين مُستعبَدٍ مقهورٍ ، وبين مستضعَف على معيشتِهِ مغلوبٍ ، يتقلّبون في المُلكِ بآرائِهم ، ويستشعِرونَ الخِزْيَ بأهوائهم ، اقتداءً بالأشرار وجرأةً على الجّبارِ ، في كُلّ بَلَدٍ منهم على مِنْبَرِهِ خطيب مُصْقع .
فالأرضُ لهم شاغرة ، وأيديهم فيها مبسوطة ، والنّاسُ لهم خَوَل ، لا يدفعون يد لامسٍ ، فمن بين جبّار عنيدٍ ، وذي سطوةٍ على الضعفةِ شديدٍ ، مُطَاعٍ لا يَعْرِفُ
المُبْدِى المعيدَ .
فيا عجباً ! وما لي لا أعجبُ ! والأرض من غاش غَشُومٍ ، ومتصدقٍ ظلومٍ ، وعامِلٍ على المُؤمنينَ بهم غيرُ رحيمٍ !
فالله الحاكمُ فيما فيه تنازعنا ، والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا .الّلهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تَنافُساً في سُلْطانٍ ، ولا اْلتِماساً من فضول الحطامِ ، ولكن لنُرِيَ المعالِمَ من دينك ، ونُظْهِرَ الإصلاحَ في بلادِك ، ويأمنَ المظلُومونَ مِنْ عبادِك ، ويُعْمَلَ بفرائِضِكَ وسُنَنِك وأحكامِك .
فإنَكُم إن لا تَنْصُرونا وتنصفونا قويت الظّلمة عليكم ، وعَمِلَوا في إطفاءِ نُورِ نَبيكُم . وحسبُنا الله وعليه توكّلنا وإليه أنَبْنَا وإليه المصيرُ .إنّ هذا الموقف يعتبر ، أقوى معارضة علنية أقدم عليها الحسين عليه السلام في مواجهة معاوية وإجراءاته الخطرة التي دأب - طول حكمه - بعد استيلائه على أريكة الحكم في سنة (40) للهجرة على العمل بكلّ دهاء وتدبير ، لتأسيس دولته المنحرفة عن سنن الهدى والصلاح والتقى ، فحاول في الردّة عن الإسلام إلى إحياء الجاهلية الأُولى بما فيها من الظلم والعصبية والتجسيم لله ، والقول بالجبر والإرجاء وما إلى ذلك من الأفكار التي تؤدّي إلى تحميق الناس وإخماد جذوة الحركة الثورية الإسلامية ، والتوحيدية الإصلاحية .
فكانت حركة الحسين عليه السلام ، وبهذا الأُسلوب المحكم الرصين ، وفي الزمان والمكان المنتخبين بدقّة ، أوّل معارضة معلنة ضّد كلّ الإجراءات تلك . وإن كان الإمام الحسين عليه السلام لم يكفّ مدّة إمامته عن مواجهة معاوية بشكل خاصّ في القضايا الجزئيّة ، وفي اللقاءات الخاصّة ، لكنّ هذا الإجراء العظيم اعتبره رجال الدولة ثورة مُعْلنة ، وتحرّكاً سياسياً خَطِراً على الدولة ، ومؤدّياً إلى تبخير كلّ الجهود والاَمال والطموحات التي عملوا من أجلها طوال عشرين سنة من حكمهم الفاسد .
معاوية بين فكي الأَسَد :
كان من مخطّطات معاوية مخالفة كلّ التراتيب الإدارية الإسلامية حتّى في شكل تعيين الخليفة خارجاً عن جميع الاَراء حتى تلك التي عملها الخلفاء قبله ، فَعَمَد إلى تجاوز سنن الّذين سبقوه كلّهم ، فلا هو عمل كما فعل أبو بكر في العهد لعمر من بعده ، ولا عمل مثل عمر في جعلها شُورى ، ولا أرجع الأمر إلى أهل الحلّ والعقد يختارون لأنفسهم ، بل عَمَدَ إلى تنصيب ابنه خليفة وأخَذ البيعة له قبل أن يموت ، ليعلنها < مُلكاً عَضُوضاً > بعد أن كانت خلافةٍ !وكان هذا الإجراء من أخطر ما أقدم عليه معاوية في آخر سنيّ حياته ، ولذلك كان للناس مواقف متفاوتة تجاه هذه البدعة ، أمّا الحسين عليه السلام فقد استغلّ ذلك للإعلان عن مخالفة هذا الإجراء لبنود وثيقة الصلح الموقّعة من قبل معاوية , فلا خلاف بين العلماء أنّ الحسن إنّما سلّم الخلافة لمعاوية حياته لا غير ( 91 ).مع أنّ يزيدَ ، كان معروفاً بين الأُمّة بفسقه ، ولهوه ، وعدم لياقته للأدنى من الخلافة ، فَضلاً عنها .
ولم يُخفِ الحسين عليه السلام نشاطه ، حتّى عرف منه ذلك ، فجأته الوفود يقولون له : < [254 ص 197] قد علمنا رأيك ورأي أخيك > .
فقال عليه السلام : < إنّي أرجو أن يُعطيَ الله أخي على نيّته في حُبّهِ الكفَ ، وأن يعطيني على نيّتي في حُبّي جهاد الظالمين >( 92 ) .إنّ كلمة < الجهاد > تهزّ الحكومة الظالمة ، التي تخيّلت أنّها قد قطعت شأفة أهل الحق ، واجتثّت أُصول التحرّك الجهاديّ ، بقتل كبار القوّاد ، وطمس معالم الحقّ ، وتشويه سمعة أهل البيت ، وسلب الإمكانات المادّية منهم .
ولكن لمّا يَسْمع الحكّام كلمة < جهاد الظالمين > من الحسين عليه السلام السبط الوحيد الذي تشخص إليه أبْصار البقيّة الباقية من المسلمين ، والقلائل الّذين بقوا من أولاد الشهداء والصحابة الصلحاء الّذين ضاقوا ذرعاً من تصرّفات معاوية وولاته الجائرين ، فإنّ الأُمراء يتهيّبون الوضع ، بلا ريب .
وخاصة مثل مروان بن الحكم - ابن طريد رسول الله ولعينه - الذي لم يجد فرصة للإمارة على مدينة الرسول ، إلاّ حكم معاوية ، وإلاّ فأين هو من مثل هذا المقام الذي لم يحلُم به ?
فهاهو يجد في تحرّك الإمام الحسين عليه السلام أنّ أجراس الخطر تدقّ تحت آذانه ، وهو العدوّ اللدود للحسين وأهل بيته ، منذ القديم ، يوم وقف في حرب الجَمَل يُشعل فتيل الحرب ضدّ الإمام عليّ عليه السلام ، لكنّه فشل واندحر وأُسِرَ وذَلَ ، ومَنّ عليه الإمامُ فيمن مَنّ عليهم من أهل تلك الحرب .وهو - وإن استفاد من حكم معاوية - إلاّ أنّه لا يكنّ لمعاوية ولا لاَل أُميّة ودّاً ، بعد أن أصبح ذيلاً لهم ، ويراهم منتصرين في صفّين ، بينما هو اندحر أمام عليّ وانكسر في وقعة الجمل .
والاَن ، يريد أن يضرب بسهم واحد هدفين ، فكتب إلى معاوية : [254 ص197] إنّي لستُ آمنُ أن يكونَ حُسين مُرصِداً للفتنة ، وأظن يومكم من حسينٍ طويلاً ( 93 ) .ولكنّ معاوية أذكى من مروان ، فهو يعلم أنّ تحرّشه بالحسين لا يصلح لتحقيق مآربه ، فكتب إلى الحسين في بعض ما بلغه عنه :
[ص198] إنّي لأظنّ أنّ في رأسك نزوةً ، فوددتُ أنّي أدركتها ، فأغفرُها لك( 94 ) .
وهكذا يُحاول معاوية، أن <يتحلّم> لكيْ يمتَصَ من ثورة الإمام وحركته شيئاً مّا.
ويظهر من الكتاب الثاني ، أنّه أحسَ بخطورة حين كتب إلى الإمام بما يتهدّده ، بما نصّه : ([254 ص198] أمّا بعد ، فقد انتهتْ إليَ أُمور أرغبُ بك عنها ، فإن كانت حقّاً لم أُقارّك عليها ، ولعمري)( 95 ) إنّ من أعطى الله صفقة يمينه وعهده لجدير بالوفاء . (وإن كانت باطلاً ، فأنت أسعد الناس بذلك ، وبحظّ نفسك تبدأ ، وبعهد الله تفي ، فلا تحملني على قطيعتك والإسائة بك ، فإنّي متى أُنكرك تنكرني ، وإنّك) متى تكدني أكدك . وقد اُنْبِئتُ أنّ قوماً من أهل الكوفة قد دعوكَ إلى الشقاق ، (فاتّقِ شقّ عصا هذه الأُمّة ، وأن يرجعوا على يدك إلى الفتنة) .
وأهل العراق من قد جرّبتَ ، قد أفسدوا على أبيك وأخيك (وقد جرّبتَ الناس وبلوتهم ، وأبوك كان أفضل منك ، وقد كان اجتمع عليه رأي الّذين يلوذون بك ، ولا أظنّه يصلح لك منهم ما كان فسد عَليه) . فاتّقِ الله ، واذكر الميثاق (وانظر لنفسك ودينك ( ولا يستخفنّك الّذين لا يُوقنون )( 96 ) ) .رسالة الإمام إلى معاوية :
ولقد اغتنم الإمامُ جواب هذا الكتاب ، فرصةً لتوجيه السهام المربكة على معاوية ، لِتُنتزعَ ثقتُه بتدبيراته الخبيثة ، وينغّصَ عليه استثمار جهوده الكبيرة التي زرعها طيلة سنوات حكمه ، وليعرّفه أنّه رغم السكوت المرير طيلة تلك الفترة ، فإنّ الإمامَ لَهُ ولمخططاته بالمرصاد ، وأنّه مراقب لأعماله وتصرّفاته الهوجاء ومتربّص للوثبة عليه حينما تسنح له الفرصة، وتؤاتيه الإمكانات ، وإن لم تحنْ بعدُ.ولقد كان جواب الإمام - على ذلك التهديد - صاعقةً على معاوية بحيث لم يُخْفِ تأثّره من ذلك فأصدر كلمةً قصيرة تنبى عن كلّ مخاوفه ، فقال : [ص198] إنْ أثَرنا بأبي عبد الله إلاّ أسَداً( 97 ) .
ولقد تداول الرواةُ نبأ هذا الجواب وتناقلوه ، واعترف كثير منهم بشدّة محتواه .
قال البلاذري : فكتب إليه الحسين كتاباً غَليظاً ، يعدّد عليه فيه ما فعل . . . ، ويقول له : إنّك قد فُتِنتَ بكيد الصالحين مذ خُلقتَ ، فكدني ما بدا لك . وكان آخر الكتاب : والسلام على مَن اتّبع الهُدى .وكان معاوية - من شدّة تأثّره وارتباكه - يشكو ما كتب به الحسينُ إليه ، إلى الناس( 98 ) . لكنّ سَرَقة الحضارة ، وخَوَنة التاريخ ، حاولوا جهد إمكانهم أن يختصروا ما في هذا الكتاب ، وأن لا يُوردوا إلاّ جزءاً منه .
فلذلك نجد رواية ابن عساكر تقتصر على قوله [ص198]: فكتب إليه الحسين : أتاني كتابك ، وإنّي بغير الذي بلغك عنّي جدير ، والحسنات لا يهدي لها إلاّ الله ، وما أردت لك محاربة ولا عليك خلافاً ، وما أظنّ لي عند الله عذراً في ترك جهادك ، وما أعلم فتنةً أعظم من ولايتك أمر هذه الاُمّة( 99 ) .
وينقطع الحديث عند ابن عساكر ، بينما الكتاب يحتوي على فقرات هامّة ، لا تفي بالغرض منها هذه القطعة القصيرة. ولوضع هذه القطعة في إطارها المناسب ، رأينا إيراد الجواب كاملاً نقلاً عمّا أورده المؤرّخ القديم البلاذري في أنساب الأشراف( 100 ) قال :
فكتب إليه الحسين : أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك تذكر أنّه : بلغك عنّي أُمور ترغب عنها ، فإن كانت حقّاً لم تقارّني عليها. ولن يهديَ إلى الحسنات ولا يسدّد لها إلاّ الله .
فأمّا ما نمي إليك ، فإنّما رقّاه الملاّقون ، المشّاؤون بالنمائم ، المفرّقون بين الجمع . وما أُريد حرباً لك ، ولا خلافاً عليك ، وأيمُ الله لقد تركت ذلك ، وأنا أخاف الله في تركه، وما أظنّ الله راضياً منّي بترك محاكمتك إليه، ولا عاذري بدون الاعتذار إليه فيك وفي أوليائك القاسطين الملحدين ، حزب الظالمين وأولياء الشياطين .
ألستَ قاتل حجر بن عدي وأصحابه المصلّين العابدين - الّذين ينكرون الظلم ، ويستعظمون البدع ، ولا يخافون في الله لومة لائمٍ - ظلماً وعدواناً ، بعد إعطائهم الأمان بالمواثيق والأيمان المغلَظة ?
أوَ لستَ قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم
الذي أبلته العبادةُ فصفّرتْ لونه ، وأنحلتْ جسمه [ بعد أن آمنته وأعطيته من عهود الله عزّ وجلّ وميثاقه ما لو أعطيته العصم ففهمتْه لنزلتْ إليك من شعف الجبال ، ثمّ قتلتَه جرأةً على الله عزّ وجلّ ، واستخفافاً بذلك العهد)(101) ؟!أوَ لستَ المدّعي زياداً بن سُميّة ، المولود على فراش عُبيْدٍ عبد ثقيف ? وزعمتَ أنّه ابنُ أبيك ، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم : الولد للفراش وللعاهر الحَجَر , فتركتَ سُنّة رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم وخالفتَ أمره متعمّداً ، واتّبعتَ هواك مكذّباً ، بغير هُدىً من الله . ثمّ سلّطته على العراقين ، فقطع أيدي المسلمين ، وسملَ أعينهم ، وصلبهم على جذوع النخل ,كأنّك لستَ من هذه الأُمّة ، وكأنّها ليستْ منك ?
وقد قال رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم : من ألْحَقَ بقومٍ نسباً ليس لهم ، فهو ملعون.
أوَ لستَ صاحب الحضرميّين الّذين كتب إليك ابنُ سُميّة أنّهم على دين عليّ، فكتبت إليه : أُقتل مَن كان على دين عليّ ورأيه , فقتلهم ومثَل بهم بأمرك ? ودينُ عليٍّ دينُ محمّدٍ صلّى الله عليه واَله وسلّم الذي كان يضربُ عليه أباك ، والذي انتحالُك إيّاه أجلسك مجلسك هذا ولولاهمو كان أفضلُ شرفك تجشُّم الرحلتين في طلب الخمور
وقلتَ :اُنظر لنفسك ودينك والأُمّة ,واتقّ شقّ عصا هذه الاُمّة ، وأن تردَّ الناسَ إلى الفتنة.[فلا أعرف فتنةً أعظمُ من ولايتك أمر هذه الأُمّة] (102) ولا أعلم نظراً لنفسي وديني أفضل من جهادك ، فإنْ أفعله فهو قربةٌ إلى ربّي ، وإن أتركه فذنبٌ أستغفرُ الله منه في كثيرٍ من تقصيري ، وأسأل الله توفيقي لأرشد أُموري .
وقلت فيما تقول : إن أُنكرك تنكرني وإن أكدك تكدني.
[و هل رأيك إلاّ كيدُ الصالحين منذُ خُلقتَ ? فكدني ما بدا لك ](103) فإنّي أرجو أنْ لا يضرّني كيدُك ، وأنْ لا يكون على أحدٍ أضرَّ منه على نفسك ، على أنّك تكيدُ فتوقظُ عدوّك وتوبقُ نفسك ، كفعلك بهؤلاء الّذين قتلتَهم ومثّلتَ بهم ، بعد الصلح والأيمان والعهد والميثاق ، فقتلتَهم من غير أنْ يكونوا قتلوا ، إلاّ لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقّنا بما به شرفتَ وعرفت ، مخافةَ أمرٍ لعلّك لو لم تقتلهم مُتَ قبل أن يفعلوه ، أو ماتوا قبل أن يدركوه ? فأبشر يا معاوية بالقصاص ، وأيقن بالحساب .واعلم أنّ لله كتاباً لا يُغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها ، وليس الله بناسٍ لك أخذك بالظنّة ، وقتلك أولياءَهُ على الشبهة والتهمة, ونفيك إيّاهم من دار الهجرة إلى الغربة والوحشة ](104)
وأخذك الناس بالبيعة لابنك غلامٌ سفيهٌ يشربُ الشرابَ ويلعبُ بالكلاب .ولا أعلمك إلاّ قد خسرتَ نفسك، وأوبقتَ دينك ، وأكلتَ أمانتك ، وغششتَ رعيّتك [ وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفتَ التقيّ الورع الحليم ] (105) وتبوّأت مقعدك من النار ، فبعداً للقوم الظالمين .
والسلام على من اتّبعَ الهُدى( 106)إنّ موقف الإمام الحسين عليه السلام هذا الذي أبداه في جواب معاوية ، أربك معاوية بحيث فوجىء به ، وهو في أواخر أيّامه ، وقد استنفدَ كلّ الجهود واستعدَّ ليجنيَ ثمارها ، فإذا به يواجه أسداً من بني هاشم يثورُ في وجهه ، ويحاسبه على جرائمه التي تكفي واحدةٌ منها لإدانته أمام الرأي العام ، فكان يقول : إن أثرنا بأبي عبد الله إلاّ أسداً.
إنّ الحسين عليه السلام باتّخاذه هذا الموقف من معاوية ، وضعَ أمامَ إنجازاته حجرةً عرقلتْ سيرها ، وأوقفتْ إنتاجها السريع ، ممّا جعلَ معاوية يفكّر ويُخطّط من جديد ، ولكن كبر السنّ لم يُساعده ، والأجل لم يمهله ، وإن كان قد فتح للحسين صفحة في وصاياه لابنه من بعده .
أمّا الإمام الحسين عليه السلام فقد بدأ بالعمل لحركةٍ جهاديّة استتبعتْ تحطيم كلّ منجزات معاوية ، في حركةٍ لم تطُلْ سبعة أشهرٍ بدأتْ من منتصف رجب سنة (60) - حين مات معاوية - وانتهت في يوم عاشوراء العاشر من المحرم سنة (61) . فكان حديثُ كربلاء وما تضمّنه من مآسٍ وأحزان ، وما تبعه من إحياء للإسلام من جديد ، حتّى أصبح حسيني البقاء , بعد أن كان محمّديّ الوجود. وصدّق ما قال رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم: حسين منّي وأنا من حسين .
(88) لاحظ كتاب سليم (ص 165) والاحتجاج للطبرسي (296) .
(89) كتاب سليم بن قيس (ص 165) والاحتجاج للطبرسي (ص296) .
(90) اعتمدنا في نقل نصّ الخطاب على ما أثبته الشيخ محمد صادق نجمي ، في تحقيقه القيّم الذي أصدره باسم < خطبه حسين بن علي عليه السلام در منى > باللغة الفارسية ، وطبعته مؤسّسة القدس في مشهد سنة 1411 هج- وقد ذكر أنّ مجموع الخطبة جأ على شكل مقاطع في كلّ من كتاب سليم ، والاحتجاج للطبرسي ، وتحف العقول لابن شعبة .
(91) ذكر ذلك أبو عمر ابن عبد البرّ في الاستيعاب ، بهامش الإصابة(1 /373 (92)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 /137) .
(93) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 137 ) .
(96) لفّقنا الكتاب من ما أورده ابن عساكر خارج الأقواس ، وما ذكره البلاذري داخلها ، ولا ريب أن الكتاب نسخة واحدة ,وإنّما حصل التقطيع والاختصار من الرواة . ولاحظ مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور(7/ 137)
(97) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 137 ) .
(98) أنساب الأشراف (3/ 3 - 154)
(99)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 137 ) .
(100) لقد نقل المحموديّ نصّ الجواب الكامل عن أنساب الأشراف في ترجمة معاوية ، وذكر من مصادره مجموعة كبيرة من أُمّهات كتب التاريخ والحديث ، منها : الأخبار الطوال ، للدينوري (ص224) والإمامة والسياسة لابن قتيبة (ص131) ورجال الكشي (ترجمة عمرو بن الحمق) والاحتجاج للطبرسيّ (ص297) غير من روى قطعاً منه ، فراجع هامش تاريخ دمشق (ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ص198) وهامش أنساب الأشراف (ترجمته عليه السلام3 / 153) تحقيق المحمودي .
(101) ما بين المعقوفتين ، لم يرد في رواية البلاذري ، وإنّما أخذناه من الاحتجاج للطبرسي .
(102)ما بين المعقوفتين لم يرد في البلاذري ، وإنّما ورد في ابن عساكر ، والاحتجاج .
(103) ما بين المعقوفتين لم يرد في البلاذري - في ترجمة معاوية - لكنّه ذكره في القطعة التي نقلها في ترجمة الحسين عليه السلام ، وقد سبق أن نقلناها ، فلاحظ .
(104) من الاحتجاج ، ولم يذكره البلاذري .
(105)ما بين المعقوفتين عن الاحتجاج .
(106)هذا السلام لم يرد في النص الكامل الذي نقله البلاذري ، وإنّما ذكره في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ، قال : وكان في آخر الكتاب :والسلام على من اتبع الهدى!!.