Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

الباب الرابع

أحداث بعد كربلاء

31- مواقف متأخرة

32- أحزان الأحلام

33 - رثاء الطبيعة

34 - الأسى والرثاء

35 - الانتقام للدماء


 

31 - مواقف متأخّرة

ودائماً ، وفي كلّ حوادث التاريخ ، يبقى بعضُ الناس في المؤخّرة ، لأنّهم يحتاطون ، فيقفون بعيداً عن الأحداث ، لئلاّ يُصيبهم شررٌ أو أثارةٌ من سوءٍ.

لكنْ ليس مصيرُ المتأخّرين دائماً النجاةُ والسلامةُ ، وإنْ بقوا بعيدين عن الإصابات ، فهم ليسوا بمنجاةٍ من الحسابات ، حسابات التأريخ والضمير والواقع . وهكذا كان شأنُ الّذين تخلّفوا عن اللحوق بالحسين عليه السلام سواءً في مسيره إلى أرض كربلاء ، أو في سيرته على أهداف كربلاء ، وخاصّةً أُولئك الّذين كانت تمدّ إليهم الأعناق ، باعتبارهم حاملين للنصوص الفاصلة لكلّ نزاعٍ ، التي هي وصايا النبيّ وسُنّته صلّى الله عليه وآَله وسلّم ، وهم صحابته وحاملو آرائه . ولكنّ هؤلاء الّذين لم يلحقوا الفتحَ بتخلفّهم عن وجهة الحسين عليه السلام في المسير والسيرة ، وجدوا أنفسهم - بعد الحسين عليه السلام - بين مخالب القتلة ، وزهوهم بعد المذبحة التي ارتكبوها بحقّ الثائرين .

ومهما فرضنا لهؤلاء المتخلّفين من البساطة ، وأنّهم لم يكونوا يتصوّرون أنّ الدولةَ الإسلاميّة تُقدِمُ على قتل جمع من خيرة رجال المسلمين ، وفي مجموعتهم كوكبةٌ من آل محمّد ، وعلى رأسهم الحسيُن ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم وأنّهم فوجئوا بذلك ، فأُسقطَ في أيديهم لكنّ بُعْدَهم عن مجريات الأحداث ، إلى الحدّ الذي يؤدّي بهم إلى هذه السذاجة ، وتخلّفهم عن ركب الدفاع عن حياض الإسلام ، والالتحاق بالوحيد المتبقّى من سلالة محمّد صلّى الله عليه واَله وسلّم ، هو في نفسه يشكّل نقطة محاسبة عسيرة . وكفاهم ذُلاً ومهانةً ، أنْ يحضروا مجلس الحكّام القتلة ليُشاهدوا بأعينهم ما يجري على رأس الحسين - ذلك الرأس الذي رأتْه أعينُهم ذاتها على صدر الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم ، وعلى عاتقه وفي حِجْره - ولكنْ في حالة أُخرى ، وبالضبط كما يروونها هم- :

فهذا أنس بن مالك : [319] قال : لمّا قُتلَ الحسينُ جيء برأسه إلى عُبيد الله ابن زياد ، فجعل ينكثُ بقضيبٍ على ثناياه ، وقال : إنْ كانَ لحسنَ الثغر فقلتُ : أما واللهِ لأسوأنّك ، لقد رأيتُ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم يقبّل موضع قضيبك من فيه(162)

وهل كان أنس - وهو خادم النبيّ - جريئاً حتّى يتمكّنَ من مواجهة ابن زياد بهذا ؟
ولماذا لم يُحاول أن يُسيىء إلى ابن زياد ، قبلَ أنْ يضربَ ثنايا الحسين لمّا حاربه وقتله ? بل قبل أن يقتل الحسين عليه السلام؟

ألم يكن عُبيد الله مجرماً ، ومستحقّاً للإسائة قبل هذا ؟
ثمّ ماذا يفعل أنس في مجلس عُبيد الله ، في مثل هذا الوقت ؟
وهل رأى أنسُ رسولَ الله يفعل ذلك - فقطْ - بسبطه الحسين ? دون غيره من أعمالٍ عملها مع الحسين ، وأقوال قالها في الحسين ، والتي عرفنا بعضاً منها في فصلي [10 و11] وهو خادمُ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، ملازمٌ له على باب داره ?
ثمّ - أخيراً - لماذا لم يُحاول أنْ يُبرزَ هذا الذي رآه يفعله الرسول بسبطه الحسين ، قبل هذا المجلس ? حتّى لا يصل الأمر إلى هذه الحال ؟

وهذا زيد بن أرقم [321] قال : كنتُ عند عُبيد الله بن زياد لعنه الله ، إذْ أُتي برأس الحسين بن عليّ ، فوضعَ في طستٍ بين يديْه ، فأخذَ قضيباً ، فجعل يفتر به عن شفتيه ، وعن أسنانه فلم أرَ ثغراً - قطّ - كان أحسنَ منه ، كأنّه الدرّ ، فلم أتمالكْ أنْ رفعتُ صوتي بالبكاء , فقال : ما يُبكيك ، أيّها الشيخ ؟ قلت : يُبكيني ما رأيتُ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، يمصُّ موضع هذا القضيب ويلثمه ، ويقول : الّلهمّ إنّي أُحبه فأحبَه(163)

وفي نصٍّ آخر ، أنّ ابن زياد قال لزيد : إنّك شيخٌ قد خرفتَ وذهبَ عقلك!

والذي يستوقفُ الناظر : ماذا كان يفعلُ هذا الصحابيُّ الشيخُ في مجلس عُبيد الله ? داخل القصر ? في مثل هذه الأيّام ؟
هل كان يجهلُ أنّ النّاسَ في الكوفة قد ذهبوا لقتال الحسين عليه السلام ؟ وأنّ الحسين قد قتل ؟
فهو إذنً قد خرف حقّاً !
ثمّ أينَ كان حماسُهُ هذا ، قبلَ أنْ يؤتى برأس الحسين عليه السلام؟

ولماذا لم يروِ قبلَ هذا ما رواه بعدَ هذا المجلس ، لمّا [322] خرج زيد بن أرقم من عنده - يعني ابن زياد - يوْمئذٍ وهو يقول : أما والله ، لقد سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم، يقول : الّلهمّ إنّي استودعكه وصالح المؤمنين .
فكيف حفظكم لوديعة رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم(164)

لكن ، كيف كان حفظُك أنتَ يا زيد, يا صحابيّ ! لوديعة رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ? وقد أسلمْتَهُ وحدَه ، في كربلاء ، يُذْبَح هو وأهل بيته ، وشيعته ? وأنتَ تنادم قاتله ابن زياد ?

ولكنّ هذه المواقف المتأخّرة ، هل تَسُدُّ شيئاً ممّا أُصيبَ به الإسلام من الثلمات ? أو تردّ على الأُمّة ما فقده من الرجالات ?

ولو وقفوا هذه المواقف قبلَ قتل الحسين عليه السلام ، لكانت أشرفَ لهم ، وأنفع للأُمّة ! ولو ساروا بعد ذلك بسيرة الحسين عليه السلام ، لكان أعذرَ لهم ، وأخلد لذكرهم , أمّا لو ضيّع الصحابةُ وديعةَ الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم ، وهم السلفُ , المخاطبون بحفظها مباشرةً , فما هو عتابُهُ على البُعداء التابعين لهم في دينهم وعقيدتهم ، وهم الخلف الّذين يستنّنون بسُنّتهم !؟

(162)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 151 ) .
( 163) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 152 ) .
( 164) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 152 ) .


32 - أحزان الأحلام

ومهما كانت الأحلامُ و واقعها ، فإنّ الحُزْن بألم عاشوراء ، لم يقفُ على عالم اليقظة ، بل لقد تحدّثت الأخبار عن أحزان عالم الرؤيا : [324 - 325] قال ابن عبّاس : رأيتُ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم في ما يرى النائم بنصف النهار أغبر ، أشعث ، وبيده قارورة فيها دم! فقلتُ : بأبي أنت وأُمّي ، يا رسول الله ، ما هذا ؟ قال : هذا دمُ الحسين وأصحابه ، لم أزلْ- منذ اليوم- ألتقطُهُ!
فأُحصيَ ذلك اليوم ، فوجدوه قتل يومئذٍ .

وأُمّ سلمة ، زوجة الرسول ، المتّقية ، المحبّة لأهل بيته ، الحنون على الحسين ، والتي لها ذكر مكرّر في سيرة الحسين عليه السلام ، قد أفزعها المنام كذلك هي الأُخرى :

[327] عن سلمى قالت : دخلتُ على أُمّ سلمة ، وهي تبكي ، فقلتُ : ما يبكيك ؟ قالت : رأيتُ رسول الله صلّى الله عليه واَله وسلّم ، وعلى رأسه ولحيته التراب ، فقلتُ : مالك ؟ يا رسول الله ، مالك ؟
قال : شهدتُ قتلَ الحسين ، آنفاً(166)

(166)مختصر تاريخ دمشق لابن منظور ( 7/ 152 )

33- رثاء الطبيعة


33 - رثاء الطبيعة

ومن الأحداث بعد مذبحة كربلاء ، أنّ الطبيعة شاركت في إعلان الحزن ، بأساليب غريبة لم تؤثر عند عامة الحوادث .

فمنها بكاء السماء دماً :
[287] قال ابن سيرين : لم تبك السماءُ على أحدٍ بعد يحيى بن زكريّا ، إلاّ على الحسين بن عليّ(167)

[295] قالت نصرة الأزديّة : لمّا أنْ قُتلَ الحسينُ بن عليّ مَطَرَتْ السماءُ دماً فأصبحت وكلّ شيءِ لنا ملآَنُ دماً .

[291] وقالت امرأة : كُنّا زماناً بعد مقتل الحسين ، وإنَّ الشمس تطلع محمرّة على الحيطان والجدران بالغداة والعشيّ .
قالت : كانوا لا يرفعون حجراً إلاّ وجدوا تحته دماً(168)

ومنها ظلمة السماء
[288]: قال خليفة : لمّا قُتِلَ الحسينُ اسودّت السماءُ وظهرت الكواكبُ نهاراً ، حتّى رأيتُ الجوزاء عند العصر ، وسقطَ الترابُ الأحمرُ(169)

[293] قال عيسى بن الحارث الكندي : لمّا قُتِلَ الحسينُ مكثنا سبعةَ أيّام إذا صلّينا العصرَ ، نظرنا إلى الشمس على أطراف الحيطان كأنّها الملاحفُ المعصفرة ، ونظرنا إلى الكواكب يضرب بعضها بعضاً(170)

[296] قال أبو قبيل : لمّا قُتِلَ الحسينُ بن عليّ كسفت الشمسُ كسفةً بدت الكواكبُ نصفَ النهار حتّى ظننّا أنّها هي(171)

[301] قالت أُمّ حبّان : يوم قُتِلَ الحسينُ اظلمّتْ علينا ثلاثاً ، ولم يمسّ أحدٌ من زعفرانهم شيئاً فجعله على وجهه إلاّ احترقَ ، ولم يقلبْ حَجَرٌ ببيت المقدِس إلاّ أصبحَ تحتَهُ دمٌ عبيطٌ(172)

وقد اعترف ببعض هذه الأحداث حكّام بني أُمّية:

[302] قال معمر : أوّلُ ما عُرِفَ الزُهْريّ : تكلّمَ في مجلس الوليد بن عبد الملك ، فقال الوليد : أيّكم يعلمُ ما فعلتْ أحجار بيت المقدس يوم قُتِلَ الحسين بن عليّ ? فقال الزُهْريُّ : بلغني أنّه لم يقلبْ حَجَرٌ إلاّ وُجِدَ تحته دمٌ عبيطٌ.

(167)مختصر تاريخ دمشق لابن منظور ( 7/ 149 )
(168)و(169)و(171)و(172)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور (7 / 149 ) .


34 - الأسى والرثاء

لم يبقَ أحدٌ لم يدخلْ عليه الحزنُ والألمُ بقتل الحسين عليه السلام ، فالإمام لم يكن شخصاً ، بل كان شاخِصاً ، إليه تشخصُ أعينُ الأُمّة كي يُنجدها من المأزق الذي حاصرها وحاصر دينها ودنياها .

ولئنْ تقاعسَ الناسُ عن إدراك ما يجبُ عليهم أنْ يفعلوه في تلك الظروف العصيبة ، ولم يتمكّنوا من الإقدام على الفداء والتضحية ، إلاّ أنّ الإمام الحسين عليه السلام بتضحيته وإقدامه فَجَّرَ في نفوسهم كوامنها ، فلم يحبسوا عن الإمام نصرهم بالعواطف ، بعد أنْ فاتهم نصرُه بالنفوس ، وإنْ كان بعد أنْ خسروا وجوده الشريف ، وما يحمله من معارف ومعاني ومكارم ،فكانت المراثي ، التي تعتبرُ - في مثل ذلك الظرف الرهيب - استمراراً لثورة الحسين ، واحداً من نتائجها لمّا انطلقت الألسنُ عن صمتها .

وأوّلُ مَنْ أعلنَ الرثاءَ أُمّ سلمة ، زوجةُ الرسول صلّى الله عليه واَله وسلّم ، التي ساهمتْ في نشر أخبار سيرة الحسين عليه السلام بكثرة ، فقد كانتْ تستطلعُ أخبارَ الحسين قبل الواقعة ، فقالتْ لجارية لها:

[89] أُخرجي فخبّريني ، فرجعت الجارية ، فقالتْ : قُتِلَ الحُسينُ ! فشهقتْ شهقةً غشيَ عليها، ثمّ أفاقتْ ، فاسترجعتْ ، قالتْ : قتلوه ? قتلهم الله ، قتلوه ? أذلّهم الله ، قتلوه ? أخزاهم الله .
[329] قالت : قد فعلوها ? ملأ الله بيوتهم - أو قبورهم - ناراً , ووقعت مغشيّاً عليها (173)
وكان ابن عبّاس يتوقّعُ خبرَ الحسين بن عليّ إلى أنْ أتاهُ آتٍ ، فسارّه بشيىءِ ، فأظهر الاسترجاع ، قال الراوي : [330] فقلنا : ما حدثَ يا أبا العبّاس؟ قال : مصيبةٌ عظيمةٌ عندَ الله نحتسبها(174)

وحتّى الجنّ قد أسهموا في هذا الحُزن العظيم ، مع المؤمنين ، ومع الطبيعة ، فقد جاءت الأخبار بما يلي : [335] قالت أُمّ سلمة : سمعتُ الجنّ تنوحُ على الحسين يوم قُتِلَ ، وهنّ يقلن:
أيّها القاتلون ظلماً حسيناً * أبْشِروا بالعذاب والتنكيلِ
كلّ أهل السماء يدعو عليكم * من نبيّ ومرسَل وقتيلِ
قد لُعنتم على لسان ابن داو د و موسى وصاحب الإنجيلِ(175)

[336] وجنيّة تنوح :
ألا يا عينُ فاحتفلي بجهدِ * ومن يبكي على الشهداء بعدي
على رهطٍ تقودهم المنايا * إلى متجبّرٍ في ملك عبدِ(176)

[337] قال أبو جناب الكلبيّ : أتيتُ كربلاء ، فقلتُ لرجلٍ من أشراف العرب بها : بلغني أنّكم تسمعون نوح الجنّ ؟ قال : ما تلقى حرّاً ، ولا عبداً ، إلاّ أخبرك أنّه سمع ذاك . قلتُ : أخبرني ما سمعتَ أنتَ , قال : سمعتُهم يقولون :
مسحَ الرسولُ جبينَهُ * فلهُ بريقٌ في الخدودِ
أبواهُ من عَلْيا قريشٍ * جدّهُ خيرُ الجدودِ(177)

[338] كان الجصّاصون إذا خرجوا في السحر سمعوا نَوْحَ الجنّ على الحسين ينشدون ذلك الشعر .

[339] ولمّا قتل الحسين بن عليّ سُمع منادٍ ينادي ليلاً ، يُسمعُ صوتُه ولم يُرَ شخصُه :

عقرتْ ثمودٌ ناقةً فاستُؤصِلوا * وجرتْ سوانِحُهم بغير الأسعدِ
فبنو رسول الله أعظمُ حرمةَ * وأجلّ من أُمّ الفصيل المقصدِ
عجباً لهم ولما أتوا لم يُمسخوا * والله يملي للطغاة الجُحَدِ(178)

وأمّا الإنسُ :
فقد فجرّتْ واقعةُ كربلاء قرائحَ أصحابَ الولاء لأهل البيت ، من الشعراء , وقد ملأتْ مراثيهم دواوينَ الأشعار وكتبَ الأخبار ، وعرفَ كثيرٌ من شعراء العربية برثائهم للحسين عليه السلام فقطْ.

وفي طليعة أهل الرثاء : خالدُ بن عَفران : من أفاضل التابعين كان بدمشق ، وحدّثوا : أنّ رأس الحسين بن عليّ عليه السلام ، لمّا صُلِبَ بالشام ، أخفى خالدُ بن عَفران شخصه عن أصحابه، وطلبوه شهراً حتّى وجدوه، فسألوه عن عزلته ؟ فقال : أما ترون ما نزل بنا ؟ ثمّ أنشد يقول :
جاؤوا برأسك يابن بنت محمّدٍ * متزمّلاً بدمائه تزميلا
وكأنّما بكَ يابنَ بنتِ محمّدٍ * قتلوا جهاراً عامدين رسولا
قتلوكَ عطشاناً ولم يترقّبوا * في قتلكَ التنزيلَ والتأويلا
ويكبّرونَ بأنْ قُتلتَ وإنّما * قتلوا بكَ التكبيرَ والتهليلا(179)

[400] ومنهم - وقيل : إنّه أوّلُ من رَثى الإمام عليه السلام - سليمانُ بن قَتّة
قال :

وإنّ قتيلَ الطفِّ من آلِ هاشمٍ * أذلّ رقاباً من قريشٍ فذلَتِ
فإنْ تبتغوهَ عائذَ البيت تفضحوا(180) * كعادٍ تعمّتْ عن هداها فضلّتِ
مررتُ على أبياتِ آلِ محمّدٍ * فلمْ أرَها أمثالَها حيثُ حلّتِ
وكانوا لنا غُنماً فعادوا رزيّةً * لقدْ عَظُمتْ تلكَ الرزايا وجلّتِ
فلا يُبعدُ اللهُ الديارَ وأهلَها(181) * لقدْ عظمتْ منهم برغْمي تخلّتِ
إذا افتقرتْ قيسٌ جبرنا فقيرَها * وتقتُلنا قيسٌ إذا النعلُ زلّتِ
وعند غنيٍّ قطرةٌ من دمائنا * سنجزيهم يوماً بها حيثُ حلّتِ
ألمْْ تَرَ أنّ الأرضَ أضحتْ مريضةً * لفقدِ حسينٍ والبلادَ اقشعرّتِ(182)

[401] وأنشدوا لبعض الشعراء في مرثية الحسين بن عليّ:
لقدْ هدَّ جسمي رزءُ آلِ محمّدٍ * وتلكَ الرزايا والخطوبُ عظامُ
وأبكتْ جفوني بالفراتِ مصارعٌ * لآَلِ النبيّ المصطفى وعظامُ
عظامٌ بأكنافِ الفراتِ زكيّةٌ * لهنَّ علينا حرمةٌ و ذِمامُ
فكم حُرّةٌ مسبيّةٌ فاطميَةٌ * وكم من كريمٍ قدْ علاهُ حسامُ
لآلِ رسولِ الله صلّتْ عليهمُ * ملائكةٌ بيضُ الوجوهِ كرامُ
أفاطمُ أشجاني بَنُوكِ ذَوُو العُلا * وشِبتُ وإنّي صادقٌ لَغُلامُ
وأصبحتُ لا ألْتَذُّ طيبَ معيشةٍ * كأَنَ عَلَيَّ الطّيباتِ حرامُ
ولا الباردُ العذبُ الفراتُ أُسيغهُ * ولا ظلَ يهنيني الغَداةَ طعامُ
يقولونَ لي صبراً جميلاً وسلوةً * ومالي إلى الصبرِ الجميلِ مرامُ
فكيفَ اصطباري بعد آلِ محمّدٍ * وفي القلبِ منهمْ لوعةٌ وسقامُ

(173)و(174)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 153 ) .
(175)(176)و(177)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 154 ) .
(178)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 155 )
(179)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7/ 392 ) في ترجمة( خالد بن
عَفران).
(180) البيت في مختصر تاريخ دمشق : ( فإن تبتغوه عائذ البيت تصبحوا ) .
(181) الشطر الثاني من البيت السابق ، وهذا الشطر كلاهما من مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور .
(182)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 158 ) .


35 - الانتقام للدماء

ولئن كانت فتنةُ الله لعباده الصالحين - من الأنبياء والأئمّة والأولياء - شديدةَ الوطأة عليهم ، ولكنّها كانتْ وَعْداً وعهداً ربّانياً ، اتّخذوه ، وصَدَقُوهُ ، فصبروا على الأذى في جنب الله ، وصابروا ، ورابطوا على مواقع الحقّ ، ولم يتراجعوا ، ولم يهنوا ، ولم يحزنوا على ما فاتهم من الدنيا ، وجاهَدُوا بكلّ قُوّةٍ وصلابة وإصرار ، حتّى فازوا برضا الله عنهم ، كما رَضُوا عنه ، وحازوا خلود الذكر في الدنيا ، وجنّات عدنٍ في الآَخرة .

وصَدَقهم الله وعدَهُ ، بالانتقام من المُجْرِمين ، وليعلموا أنّ وعدَ الله حقٌّ ، وأنّ الله منجزُ وعدِه رُسُلَهُ ، إلى أنْ يرثَ ويرثُوا الأرض ، ويستخلفهم عليها ، وعْداً عليه حقّاً في كلّ الكتب السماوية : التوراة والإنجيل والزبور ، والقرآن .

وقبل هذا الأمر المعلن في النصوص المقدّسة ، والذي لا يستيقنُه الّذين لا يؤمنون ، فهم لا يؤمنون بالغيب ، وإنْ كان أمرُ الانتقام من قتلة الصالحين والمصلحين ، هو مكشوفٌ للعيان واضحٌ لكلّ ذي عينين إذا أتعبَ جفنيه ففتحهما على ما حوله:

ألَيْسَ فراغُ المجتمع من الصلحاء المخلصين للأُمّة والوطن انتقاماً عينياً ، إذ يعني ذلك فراغ الساحة للعابثين ، والانتهازيّين ، والنفعيّين ؟

أليس قتلُ الجماعة المؤمنة ، ذاتُ المستويات الرفيعة في الشرف والكرامة ، بين الأُمّة ، يؤدّي إلى تجرّؤ القتلة والظلمة على ارتكاب الجرائم الأكثر ، لأنّه يهونُ عليهم قتل الآَخرين ، بعد قتل الأشراف ؟

أليسَ سكوتُ الأُمّة على فظائع مروّعة ، ومجازر رهيبة ، مثل مذبحة كربلاء، بجرائمها وبشاعتها ، يكشفُ عن عجز الأُمّة عن التصّدي للظالم ، وخضوعها ، بما يؤدّي إلى إقدامه على الإجرام الأوسع ، كما فعل بنو أُميّة في وقعة الحرّة بل على الهتك الأعظم لحرمات الله ، كما فعلوه في إحراق الكعبة وهدمها ؟

إنّ هذه النتائج الواقعة ، كانتْ هي النتائج المنظورة والمرئيّة لكلّ أحدٍ ممّن يحمل قبساً من نور الوعيْ والعقل والفكر ، و يجد عليها هدىً ، ولم يكن بحاجة إلاّ إلى الْتفاتةٍ صغيرة

وقد أخبر الإمامُ الحسينُ عليه السلام عن بعض هذه النتائج قبل أنْ يردَ أرض كربلاء ، وبعد أنْ وردها [268] قال : والله ، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقةَ من جوفي , فإذا فعلوا ، سلّطَ الله عليهم من يُذلّهم ، حتّى يكونوا أذلّ من فرم الأَمَة

[266] وقال : لا أراهم إلاّ قاتليّ ، فإذا فعلوا ذلك لم يَدَعُوْا لله حرمةً إلاّ انتهكوها ، فيسلّطُ اللهُ عليهم مَنْ يُذلّهم حتّى يكونوا أذلَّ من فرم الأَمَة !

ولقد كان القتلُ للأنبياء والأئمّة عادةً ، وكرامتهم من الله الشهادة ، وإنّما بَرزَ الّذين كُتب عليهم القتلُ إلى مضاجعهم ، ليُثبتوا أنّهم أوفياء بوعد ربّهم ، ولدينهم ، وأهدافهم .
فكذلك كان الانتقامُ للدماء الزاكية سُنّةً إلهيةً جاريةً .

وقد ذكّر الله تعالى نبيَه بذلك ، كما في الحديث : [286] أوحى الله تعالى إلى محمّدٍ صلّى الله عليه واَله وسلّم : أنّي قد قتلتُ بيحيى بن زكريّا سبعين ألفاً ، وأنا قاتل بابن ابنتك سبعين ألفاً وسبعين ألفاً (183) .

وأمّا آحادُ الحُثالات التي تكدّستْ في كربلاء، وارتكبتْ جريمةَ عاشوراء: فهم أحقرُ من أن يُذكروا ، ويذكر ما جرى عليهم ، فكفاهم ذُلّا ، وخزياً ، وعاراً وشناراً ، ما أقدموا عليه من قتل ابن بنت رسول الله ، والكوكبة الأخيار من آله ، والهالة المشعّة من الصالحين حوله .

مع أنّ التاريخ لم يغفلْ ما جرى على كلّ واحدٍ منهم من الانتقام الإلهيّ في هذه الدنيا ، على يَدِ الأخيار من أنصار الحقّ الّذين اختارهم اللهُ لهذه المهمّة العظيمة , ليصبحوا عبرةً لمن اعتبرَ ، ولمن يعتبرُ على طول التاريخ ، من الظَلمة ، ليعلموا أنّ الله لهم بالمرصاد ، وليأتينّهم موعدُهم ولو بعد حين .

(183)مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 7 / 149 ) .

 

العودة