Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

المقدمة

 

إن ما يصدّره المشتغلون بعلوم الحديث الشريف، في عصرنا الحاضر، من دراسات وبحوث وتحقيقات، وما يقومون به من أعمال وجهود وخدمات، في سبيله، لأمر معجب ويدعو إلى الفخر والزَهْو، حيث إنّ هذا الكنز الغنيّ من <تراثنا> يُنْشَر، وتُعرف من خلاله مصادر فكرنا الخالد، وروافده الموثوقة، المتّصلة بمعين الوحي الإلهي.

لكن قد يُكَدرُ صَفْوَ هذا الزهو والإعجاب ما ينشره بعض المتطفّلين على علوم الحديث، من أعمال لا تتّسم بالمسؤوليّة العلميّة، ولا تعتمد موازين الفنّ، فتصبح أعمالهم كعمل (التي نقضتْ غزلها من بعد قوّةٍ أنكاثا) [ النحل 16 : 92] أو (كَسَرابٍ بِقِيعةٍ يحسبُهُ الظمآنُ ماءً) [ النور 24 : 39] من قبيل لجوء بعضهم إلى ما يسمّيه <نقد متن الحديث> على حساب <سند الحديث>.

إنّ <نقد الحديث> عموما: يُعتبر من أهمّ ما اضطلع به علماء الإسلام، لتصفية هذا المصدر الثرّ من كلّ الشوائب والأكدار. وهو - بشروطه ومقرّراته - من بدائع فكر المسلمين، ومميّزات تراثهم وحضارتهم، وممّا يفتخرون به من مناهج البحث والتنقيب العلميّ، على جميع الأُمم والحضارات القديمة والحديثة، سواء الإلهيّة المرتبطة بالأديان السماويّة، أم البشريّة الوضعيّة المستندة إلى قوانين الأرض, فقرّروا قواعد، وأُسساً، وموازين، مضبوطة محكمة صحيحة، لنقد الحديث - سنداً ومتناً - لمعرفة صحيحه من زيفه، وحقّه من باطله، حتى أصبح <نصّ> الحديث، من أوثق ما يُعتمد عليه من النصوص القديمة وحتى الحديثة، اعتماداً على سُبُل الإثبات المعقولة والمتعارفة.

وقد بذل الأسلاف الكرام جهودا مضنية في سبيل تنقية الحديث، وتنقيحه، حتى أنّ الواحد منهم كان ينتخب ما يُثبته في كتابه، بعد التثبت، من بين عشرات الاَلاف من الأحاديث المتوفّرة، وبعد سنوات عديدة من الفحص والتأكّد، والترحال، فيجمع كل منهم في كتابه <الجامع> ما يراه حجّةً بينه وبين الله. فخلّفوا كنوزا وذخائر عظيمةً من التراث الحديثي المنقَح، والمنقود، والمنظَم، والمدوَن، وألّفوا الأُصول، والمصنّفات، والمسانيد، والجوامع. وجاء الجيل الثاني، وبذل جهودا مُضْنية كذلك معتمداً<الطرق> المأمونة والموثوقة، متكبّدا الصعوبات وراكباً الرحلات، فاستدرك على الأوائل ما فاتهم، سواء في الجمع، أم في النظم، فألّفوا المعاجم، والمستدركات، والجوامع المتأخّرة.

ووقف الناس في عصر متأخّر على كلّ تلك الثروة الغالية، للاستفادة والتزوّد في مجالات العلم والعمل. وانقسم المتأخّرون في التعامل مع الحديث المجموع:
فمنهم من استند إلى ما قام به الأقدمون من النقد والاختيار، واقتنعوا بما توثّق منه أُولئك من كتب الحديث ومصادره، ولم يحاولوا إجراء قواعد النقد عليها من جديد، فأصبحوا ملتزمين بالتقليد لأُولئك القدماء في هذا الأمر، كما التزموا بتقليد الفقهاء ، في آرائهم الفقهيّة، والأحكام الشرعيّة، وحصروا طرق معارفهم الدينيّة بما توصّل إليه الأقدمون، من دون تجاوز، أو نقد..

ومنهم من عارض منهج التقليد في المصادر، وهم طائفة ممّن يلتزم بإطلاق سراح الفكر والنظر ليجول ويُبدع، ويقول بفتح باب الجدّ والاجتهاد في علوم الإسلام كافّة. وهؤلاء لا يلتزمون بالتقليد، حتى في الفقه ومعرفة الأحكام، ومصادر المعرفة كافّة، ومنها الحديث. فليست لهم مذاهب فقهيّة معيّنة ومحدّدة يلتزمون بها، بل يعملون بما يُوصل إليه الاجتهاد.

وكذلك لا يلتزمون بما يُسمّى من الكتب <صحاحاً> بل ينقدون أسانيد كلّ حديث يصل إلى مسامعهم، معتمدين طرق النقد المعروفة عند علماء الحديث.

ولكلّ من الفريقين - أهل التقليد، وأهل الاجتهاد - أدلّته وحججه، ومن اعتمد على دليل معتبر، فهو معذور ومأجور على قدر جهده.

لكنّ الغريب والمؤسِفَ: أنّا نجد في عصرنا هذا شرذمة ممّن تصدّى للحديث الشريف بالنقد، ولم يسلك مسلكاً واضحاً محدّداً في تعامله مع هذا المصدر، الثرّ، الغنيّ، من مصادر الفكر الإسلامي، بل هو يتأرجح <بين التقليد والاجتهاد> في نقد الحديث:
فتارةً يحاول أن يعرض أسانيد ما وصله من الأحاديث على طاولة النقد، فيشرح عللها، ويراجع كلمات علماء الرجال في شأن رواتها، ويحاول المقارنة بين مدلولاتها، ويوافق على ما يعقله، ويسمّيه صحيحاً، ويحكم بالضعف بل الوضع على ما لا يدركه بعقله، ويميّز بين الحديث الصحيح وبين غيره حسب رأيه. وبهذا يريد أن يُساير أهل الاجتهاد.

وتارةً أُخرى: يلجأ إلى كتب القدمأ ممّا أسموها <الصحاح> ليستشهد بعملهم، وإيرادهم للحديث على صحّة حديث مّا، وبعدم وجود الحديث فيها على تضعيفه، بل الحكم بوضعه. وبهذا يكون من أهل التقليد ومن هؤلاء كتّاب جدد، دخلوا غمار هذا العلم الشريف، بلا عدّة، ولا تجربة.

فحاولوا من خلال هذا إثبات ضرورة النقد العقلي للحديث، إضافة إلى النقد السَنَدي، ضمن مسائل فيها من الدعاوي العريضة ما لا يخلو من مناقشات ومناقضات واضحة.

ومنهم من مثّل لنتيجة رأيه بأحاديث <المهديّ المنتظر> الذي قال عنه: إنّه <كُتبت من أجله آلاف الصحائف، ورُويت مئات الأسانيد، وأثّر في تاريخ أُمّتنا أبلغ الأثر> على حدّ تعبيره هو [ كما جاء في مقال : تراثنا وموازين النقد (ص181) بقلم الأستاذ السائح علي حسين، نشر بمجلة <كلية الدعوة الإسلامية> ليبيا، العدد العاشر، لسنة 1993م ].

وحاول هؤلاء الإيحاء لنفي الصحّة عن تلك الأحاديث بتكرار ما قاله أحمد أمين المصري من اتّهام الشيعة بخلق فكرة المهديّ. ثمّ تقليد ابن خلدون في إنكار أحاديثه وصحّتها، وتزييف دعوى تواترها.

وأهمّ ما اعتمدوه في بحثهم محاولة النقد العقلي لما نُقل من أحاديث في أُمور ترتبط بالمهديّ من النسب والسيرة في الحكم. باعتبار عدم موافقتها لعقولهم، ووضوح فساد ما نقل عندهم وبالتالي التركيز على السلبيّات تصوّروها فيما يرتبط بقضيّة المهديّ من أحاديث وتاريخ ودعاوى بالمهدوية.

كلّ ذلك بدعوى كونهم من أنصار البحث العلمي الرصين وجعلوا كلّ ذلك دليلا على إنكار <المهدي المنتظر> ونسبة أحاديثه إلى الوضع، وتسخيف عقول من يخالف آرأهم باعتبارها <العقول المتحجّرة> وقد حاولتُ الردّ على أمثال هذه المزاعم والاتّهامات والمخالفات للمناهج المتّبعة في البحث العلميّ تحت عناوين الفصول التالية: