الفصل الثالث
أحاديث المهديّ بين الصحّة والضَعْف
إنّ بعضهم يصف أحاديث المهديّ بأنّها <موضوعة> ويكرّر نسبة <الوضع> لها إلى الشيعة ولكن من المسلَم به عند دارسي علوم الحديث - كافّة - أنّ مثل أحاديث المهديّ، المثبتة في الكتب المعتمدة ومنها الصحاح والمسانيد والسنن، ممّا له طرق عديدة وأسانيد متعدّدة، إن لم تكن صحيحة، فهي لا توصف كلّها بالوضع، وإنّما أسوأ ما يجرؤ عليه أحد هو أن يعبّر عنها بالضعف.
والواقع الملموس: أنّ أسانيد أحاديث المهديّ فيها الصحيح المتّفق عليه، وفيها الحسن، وفيها الضعيف، وقد يكون فيها الموضوع, ولم يعبر أحد عنها كلّها بالوضع، ولم يصفها بأنّها كلّها موضوعة إلاّ ثلّة من المتأخّرين، ممّن لا خبرة لهم بالحديث ومصطلحاته، وتبعهم الكاتب في التعبير [وقد عدّدهم الشيخ العبّاد، وفنّد مزاعمهم في الرقم 40 من ردّه على ابن محمود القطري: أوّلهم رشيد رضا، وأحمد أمين، وتبعهم ابن محمود، والكاتب ومن على وتيرتهم ] .
فالحاكم بوضع أحاديث المهدي قد جانب الإنصاف في أمرين:
الأوّل: أنّه وَصَفَ الأحاديث بأنّها موضوعة، من دون أن يعرف معنى <الوضع> ولا أن يفرّق بينه وبين <الضعف>.
وهذا ممّن يدّعي الاجتهاد في نقد الحديث أمر بعيد إلاّ أن نحمله على اعتماد التقليد في هذه التسمية لمن لا خبرة له في المصطلح كأحمد أمين، وابن محمود القطريّ، وأضرابهما.الثاني: أنّه نقل - عن بعض من سبقه - الحكم بضعف أحاديث المهديّ، كابن خلدون، وابن حجر، وغيرهما. ولم يُشر - لا من قريب ولا بعيد - إلى أنّ هناك جمعا غفيرا من المحدّثين قد صحّحوا أحاديث المهديّ.
أهذا التصرّف يصدر ممّن يحاول <نقد الحديث> بالطرق العلميّة الرصينة?
ومهما يكن، فلماذا يُحاول عبثا أن يهوّن أمر تصحيح أسانيده، بينما هو يصرّ على تضعيفها، وينقل تضعيف ابن خلدون لها، وبعد أن ينقل مقطعا من كلامه حول أحاديث المهديّ، يقول: <وقد تتّبع ابن خلدون هذه الأحاديث بالنقد وضعّفها حديثا حديثا> [ تراثنا وموازين النقد (ص187)] .
ثمّ ينسب إلى ابن حجر أنّه أحصى الأحاديث المرويّة في المهديّ فوجدها نحو <الخمسين> وقال: إنّها لم تثبت صحّتها عنده [نقل عن: المهديّ والمهدويّة لأحمد أمين، ص108، دار المعارف - مصر، سلسلة إقرأ.]
أما كان من حقّ البحث العلميّ الرصين أن ينقل عن بعض الأعلام الّذين صحّحوا بعض أحاديث المهديّ ممّن سبق ابن خلدون، أو عاصره، أو لحقه?
والأفضل أن نذكر هنا أسمأ المحدّثين والعلمأ الّذين أثبتوا أحاديث المهديّ في كتبهم، وننقل ما ذكروه حولها من النقد [اعتمدنا في هذا المجال على كتاب <الإمام المهديّ عند أهل السُنّة> تأليف الشيخ مهدي الفقيه، المطبوع في دار التعارف - بيروت، طبعة ثانية سنة 1402 ] . تكميلا لأطراف البحث ,وأمّا القادحون في الأحاديث فأوّلهم ابن خلدون، وقد نقلنا بعض كلامه، وسيجي ذكر من قلّده في ذلك من المتأخّرين من أمثال محمّد رشيد رضا المصري الشامي، وأحمد أمين المصري، وابن محمود القطري، وآخرين.
1 - أخرجها عبد الرزّاق (ت211) في المصنّف، الجزء 11، الأحاديث 20769-20779 من طبعة حبيب الرحمن الأعظميّ، منشورات المجلس العلمي الهند. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 7 / 315في بعض أحاديثه: إنّ رجاله رجال الصحيح.
2 - أخرجها ابن ماجة (ت273) في السنن 2/ 22-24، الأحاديث 4082-4088 من طبعة محمّد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب، عيسى البابي، مصر. والحديث 4084 إسناده صحيح، رجاله ثقات، وقال الحاكم فيه: صحيح على شرط الشيخين - البخاري ومسلم - .
3 - وأخرجها أبو داود (ت275) في السنن 4/ 106 -109، كتاب المهديّ، الأرقام 4279-4290 من طبعة محمّد محيي الدين عبد الحميد - دار إحياء السُنّة النبوية - مصر.
4 - وأخرجها الترمذي (ت297) في الجامع الصحيح المسمّى بالسنن، ج4، الأحاديث 2230-2232 من طبعة إبراهيم عطوة عوض - شركة مصطفى البابي، مصر. قال في اثنين من أحاديثه: حسن صحيح.
5 - وأخرجها الطبراني (ت360) في المعجم الكبير، الجز 10، الأحاديث 1213-1231 في مسند عبد الله ابن مسعود من طبعة حمدي السلفي - مطبعة الوطن العربي - بغداد.
6 - وأخرجها الحاكم (ت405) في المستدرك على الصحيحين 4/464 و 4/557. ومنها حديث: <... إذا رأيتموه فبايعوه، ولو حَبْوا على الثلج، فإنّه خليفة الله المهديّ>. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي على ذلك في ذيله.
7 - أخرجها البغويّ (ت510) في مصابيح السُنّة ( 1/ 192)من طبعة محمّد علي صبيح - القاهرة) وعدّ بعضها <من الصحاح> وبعضها <من الحسان>.
8 - ابن تيميّة (ت728) قال في منهاج السُنّة 4/211 (دار إحياء السُنّة النبوية): إنّ الأحاديث التي يحتجّ بها على خروج المهديّ أحاديث صحيحة، رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم [وأورد بعضها]وأضاف : وهذه الأحاديث غلطَ فيهاطوائف أنكروها !!
9 - الذهبي (ت748) في تلخيص المستدرك للحاكم صحّح بعض الأحاديث، في ذيل ذكر الحاكم لها. وقال العبّاد: أمّا الذهبي فقد صحّح أحاديث كثيرة من أحاديث المهديّ في تلخيص المستدرك. ذكر ذلك في الفقرة 19 من مقاله المنشور في مجلّة الجامعة الإسلامية -المدينة المنوّرة - عدد 45، في الردّ على ابن محمود القطري المنكِر للمهديّ.
10 - ابن قيّم الجوزيّة (ت751) في المنار المنيف في الصحيح والضعيف، فصل 45، ص129-143، ح 325 فما بعد، تحقيق أحمد عبد الشافي، ط. دار الكتب العلمية - بيروت لبنان 1408 هج . أورد فيه الأحاديث 326-339 وقال: وهذه الأحاديث أربعة أقسام: صحاح، وحسان، وغرائب، وموضوعة.
11 - ابن كثير الشامي (ت774) في كتابه النهاية 1/ 24-32، تحقيق طه محمّد الزيني - دار الكتب الحديثة - مصر. أورد قسما من أحاديث المهديّ وصحّحها.
12 - الهيثمي (ت807) في مجمع الزوائد 7/ 313 - 318باب ما جاء في المهديّ، نشر مكتبة القدسي - 1353 ه ، وصحّح بعض أحاديثه.
13 - البرزنجي المدني (ت1103) في كتاب <الإشاعة لأشراط الساعة> ص87-121، فصل الحديث عن المهديّ، وصحّح كثيرا من الروايات الواردة فيه.
14 - محمّد صدّيق حسن خان القنوجي (ت1307) في كتاب <الإذاعة لِما كان وما يكون بين يدي الساعة> طبع مطبعة المدني - القاهرة. قال في ص112-113: الأحاديث الواردة فيه - على اختلاف رواياتها - كثيرة جدّا، وتبلغ حدّ التواتر.
وأحاديث المهديّ عند الترمذي، وأبي داود، وابن ماجة، والحاكم، والطبراني، وأبي يعلى الموصلي، وأسندوها إلى جماعة من الصحابة.
فتعرضُ المنكِرين لها ليس كما ينبغي.
والحديث يشدّ بعضُه بعضا، ويتقوّى أمره بالشواهد والمتابعات، وأحاديث المهديّ بعضُها صحيح، وبعضها حسن، وبعضها ضعيف، وأمره مشهور بين الكافّة من أهل الإسلام، على ممرّ الأعصار.
ونقل عن الشوكاني في <التوضيح في تواتر ما جاء في المهديّ والمسيح> قوله: الأحاديث الواردة في المهديّ التي أمكن الوقوف عليها منها <خمسون> حديثا، فيها الصحيح، والحسن، والضعيف المنجبر، وهي <متواترة> بلا شك ولا شبهةٍ.
بل يصدق وصف <التواتر> على ما هو دونها، على جميع الاصطلاحات المحرّرة في الأُصول.
وأمّا الاَثار عن الصحابة المصرحة بالمهديّ، فهي كثيرة - أيضا - لها حكم الرفع، إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك. انتهى المنقول عن الشوكاني.
وقال صدّيق حسن خان في <الإذاعة>: ص145، في ردّه على ابن خلدون: لا شكّ أنّ المهديّ يخرج في آخر الزمان من غير تعيين لشهر وعام، لما <تواتر> في الأخبار في الباب، واتّفق عليه جمهور الأُمّة سلفا عن خلف، إلاّ من لا يعتدّ بخلافه.
وإنّماقال به أهل العلم، لورود الأحاديث الجمّة في ذلك.
فلا معنى للريب في أمر ذلك <الفاطمي الموعود المنتظر> المدلول عليه بالأدلّة. بل إنكار ذلك جرأة عظيمة في مقابلة النصوص المستفيضة المشهورة، البالغة حدّ التواتر.
ونقل صدّيق حسن خان في الإذاعة، ص146، عن السفاريني الحنبلي في <لوامع الأنوار> قوله: قد روي عمّن ذكر من الصحابة، وغير من ذكر منهم، بروايات متعدّدة، وعن التابعين ومَن بعدهم، ما يفيد مجموعه العلم القطعي.
فالإيمان بخروج المهديّ واجب، كما هو مقرّر عند أهل العلم، ومدوّن في عقائد أهل السُنّة والجماعة. انتهى كلام السفاريني.15 - العظيم آبادي الهندي (ولد 1273) في عون المعبود شرح سنن أبي داود 11/ 361، تحقيق عبد الرحمن محمّد عثمان، نشر محمّد عبد المحسن، المدينة المنوّرة. قال في ص361، في شرح الحديث 4259، في بداية كتاب المهديّ: اعلم أنّ المشهور بين الكافّة من أهل الإسلام على ممرّ الأعصار أنّه لا بُدّ في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيّد الدين ... وخرّج أحاديث المهديّ جماعة من الأئمّة ... وإسناد حديث هؤلاء بين صحيح، وحسن، وضعيف.
وقد بالغ الإمام !المؤرّخ عبد الرحمن ابن خلدون المغربي في تاريخه في تضعيف أحاديث المهديّ كلّها، فلم يُصِبْ، بل أخطأ.16 - محمّد بن جعفر الكتّاني (ت1345) في نظم المتناثر من الحديث المتواتر، الطبعة الأُولى: المطبعة المولوية بفاس المغرب، سنة 1328، والطبعة الثانية، دار الكتب السلفية - مصر. في الحديث رقم 298، أحاديث خروج المهديّ الموعود المنتظر الفاطمي. فذكر رواية (20 ) من الصحابة ومخرّجيها، ثمّ قال: وقد نقل غير واحد عن الحافظ السخاوي: أنّها <متواترة> والسخاوي ذكر ذلك في <فتح المغيث> ونقله عن أبي الحسين الاَبري.
وفي تأليفٍ لأبي العلاء إدريس بن محمّد بن إدريس الحسيني العراقي في المهديّ هذا: إنّ أحاديثه متواترة، أو كادت، وجزم بالأوّل [أي التواتر] غير واحد من الحفّاظ.
وفي شرح الرسالة للشيخ جسوس ما نصّه: ورد خبر المهديّ في أحاديث، ذكر السخاوي: إنّها وصلت إلى حدّ التواتر.
وفي <شرح المواهب> نقلا عن أبي الحسن الاَبري في <مناقب الشافعي> قال: تواترت الأخبار أنّ المهديّ من هذه الأُمّة.
وفي <مغاني الوفا بمعاني الاكتفا> نقل كلام الاَبري ونصّه: قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بمجئ المهديّ، وأنّه سيملك سبع سنين، وأنّه يملؤ الأرض عدلا.
وفي شرح عقيدة السفاريني محمّد بن أحمد الحنبلي ما نصّه: قد كثرت بخروجه الروايات حتى بلغت حدّ التواتر المعنويّ، وشاع ذلك بين علماء السُنّة، حتى عدّ من معتقداتهم.
ثمّ نقل عبارة السفاريني كما أوردها صدّيق حسن خان في <الإذاعة> وعقّبها بذكر كلام حسن خان في ردّ ابن خلدون كما نقلناه.17 - المباركفوري (ت1353) في تحفة الأحوذي 6/ 484 ، رقم 2331، تحقيق عبد الرحمن محمّد عثمان، مطبعة الفجالة، مصر، نشر المكتبة السلفية الحديثة.
18 - الشيخ محمّد الخضر حسين المصري (ت1377) في مقال <نظرة في أحاديث المهديّ> المنشورة في مجلّة <التمدّن الإسلامي> التي تصدرها جمعيّة التمدّن الإسلامي - بدمشق - سوريا، في المجلّد 16، العددين 35 و 36، الصادرين سنة 1370.
فقد ردّ فيه ردّا حاسما على منكري أحاديث المهديّ، وممّا قال: اعترف ابن خلدون <بأنّ بعض الأحاديث خلص من النقد، إذ قال: فهذه جملة الأحاديث التي خرّجها الأئمّة في شأن المهديّ وخروجه آخر الزمان، وكما
رأيت: لم يخلص منها من النقد إلاّ القليل والأقلّ>.
قال الخضر حسين: ونحن نقول: متى ثبت حديث واحد من هذه الأحاديث وسلم من النقد كفى في العلم بما تضمّنه من ظهور رجلٍ في آخر الزمان.
إذ أنّ مسألة المهديّ لم تكن من قبيل العقائد التي لا تثبت إلاّ بالأدلّة القاطعة. والصحابة الّذين رويت من طرقهم أحاديث المهديّ نحو( 27) صحابيا.
والواقع أنّ أحاديث المهديّ، بعد تنقيتها من الموضوع والضعيف القريب منه، فإنّ الباقي منها لا يستطيع العالِمُ الباحثُ على بصيرة أن يصرف عنها نظره.
وقال في خلاصة كلامه: إنّ في أحاديث المهديّ ما يُعدّ في الحديث الصحيح، وبما أنّي درستُ علم الحديث، ووقفت على ما يُميَز به الطيّب من الخبيث، أراني مُلجَأً إلى أن أقول - كما قال رجال الحديث من قبلي - : إنّ قضيّة المهديّ ليست قضيّة متصنّعة.19 - الشيخ منصور علي ناصف، في التاج الجامع للأُصول 5/341 -344، وقال في شرح غاية المأمول في ذيله: الباب السابع في الخليفة المهديّ رضي الله عنه: اشتهر بين العلماء - سلفا وخلفا - أنّه في آخر الزمان لا بُدّ من ظهور رجل من أهل البيت يُسمّى <المهديّ> وقد روى أحاديث المهديّ جماعة من خيار الصحابة، وخرّجها أكابر المحدّثين.
ولقد أخطأ من ضعّف أحاديث المهديّ كلّها كابن خلدون وغيره.20 - الشريف أحمد بن محمّد بن الصدّيق أبو الفيض الغماري الحسيني المغربي (ت1380) في كتابه القيّم: إبراز الوهم المكنون في كلام ابن خلدون، الذي وضعه للردّ على شبهات ابن خلدون وترّهاته التي لفّقها حول أحاديث المهديّ المنتظر.
طبع الكتاب في مطبعة الترقّي في دمشق الشام عام 1347 ه .
قال الصدّيق في مقدّمته: ظهور الخليفة الأكبر ... محمّد ابن عبد الله المنتظر، قد تواترت بكونه من أعلام الساعة وأشراطها الأخبارُ، وصحّت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الاَثار، وشاع ذكره وانتشر خبره بين الكافّة من أهل الإسلام على ممرّ الدهور والأعصار.
فالإيمان بخروجه واجب، واعتقاد ظهوره - تصديقا لخبر الرسول - محتّم لازم.ثمّ نقل الصدّيقُ الأقوال بتواتر حديث المهديّ، عن علماء الأُمّة ومؤلّفاتهم، منهم: الاَبري صاحب مناقب الشافعي، والسخاوي صاحب فتح المغيث، والسيوطي في الفوائد المتكاثرة في الأحاديث المتواترة، وفي اختصاره:
الأزهار المتناثرة وغيرهما من كتبه، وابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة، وغيره من مصنّفاته، والزرقاني في المواهب اللدنيّة، وجمّ غفير من الحفّاظ النقّاد للحديث، والمحدّثين المتقنين لفنون الأثر.ثمّ نقل كلمات القنوجي في الإذاعة، والسفاريني في الدرّة المضيّة في عقيدة الفرقة المرضيّة، وشرحه المسمّى: لوامع الأنوار، حيث قال: وقد كثرت بخروجه الروايات حتى بلغت حدّ التواتر المعنوي، وشاع ذلك بين علماء
السُنّة حتى عُدَ ذلك من معتقداتهم. وقد روى عمّن ذُكر من الصحابة وغير من ذُكر منهم، روايات متعدّدة، وعن التابعين من بعدهم، ممّا يُفيد مجموعهُ <العلم القطعيّ>. ثمّ عقد الصدّيق فصلا في البحث عن <التواتر> وتعريفه،
واختلاف الناس فيه، وهو الفصل الأوّل.ثمّ ذكر رواة أحاديث المهديّ على كثرتهم، وقال في نهاية الفصل: المراد بالتواتر المعنويّ: أنّ القدر المشترك هو المتواتر.
فقال: فكلّ قضيّة منها باعتبار إسناده لم يتواتر، ولكن <القدر المشترك> فيها، وهو <وجود الخليفة المهديّ آخر الزمان> تواتر باعتبار المجموع.
ثمّ تصدّى لابن خلدون - الذي أصبح مرجعا للمنكرين - فنقل كلامه المذكور في فصل من مقدّمته بعنوان: <أمر الفاطميّ، وما يذهب إليه الناس من شأنه، وكشف الغطاء عن ذلك>[ مقدّمة ابن خلدون، ص311، طبع المكتبة التجارية - مصر ] .حيث قال: إعلم أنّ المشهور بين الكافّة من أهل الإسلام على ممرّ الأعصار: أنّه لا بُدّ في آخر الزمان من ظهور رجلٍ من أهل البيت، يؤيّد الدين، ويُظهر العدل، ويتّبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية، ويُسمّى بالمهديّ، ويحتجّون في الباب بأحاديث خرّجها الأئمّة ... إلى آخر كلامه .. حيث ذكر الأحاديث ونقدها حديثا حديثا، وضعّف أكثرها.
فبدأ الصدّيق الغماري بنقض كلامه حرفا حرفا، وكشف الغطأ عن أهدافه كشفا، وأبرز أوهامه إبرازا، وناقش تضعيفاته للأحاديث، وأثبت خطأه في نقده. إلى أن نقل قول ابن خلدون: فهذه جملة الأحادي التي خرّجها الأئمّة في شأن المهديّ وخروجه آخر الزمان.
فقال الصدّيق رادّا عليه: إنّ جميع ما ذكره من الأحاديث <ثمانية وعشرون> حديثا، لكنّ الوارد في الباب أضعاف أضعاف ذلك.
وها أنا مورد من أخبار ما أُكمل به المائة من المرفوعات والموقوفات، دون المقطوعات، إذ لو تتّبعتها، خصوصا الوارد عن أهل البيت، لأتيتُ منها بعدد كبير، وقدر غير يسير.ثمّ أورد الحديث <التاسع والعشرين> إلى <المائة>، ثمّ قال في آخر الفصل: ولنقتصر على هذا القدر من الوارد في المهديّ، فإنّه لا محالةَ مُبطل لدعوى الطاعن .[ابن خلدون] وإلاّ، فالأخبار في الباب كثيرة جدّا، ولو جمع منها الوارد عن خصوص أئمّة أهل البيت لكان مجلّدا حافلا. انتهى كلام الصدّيق الغماري .
يقول الجلالي: ومن هنا فإنّ الاعتماد على (28) حديثا فقط، ونقدها، يُعتبر عملا ناقصا، حتى لو توصّل إلى ضعفها جميعا، لفرض وجود أحاديث كثيرة أُخرى لم ينقدها ولم يفحص أسانيدها.
فكيف يدّعي عدم صحّة الأحاديث كلّها، وكيف يطمئنّ إلى النتيجة المعتمدة على الاستقراء الناقص?
مع أنّ ابن خلدون نفسه لم يدّع ضعف الأحاديث كلّها، بل اعترف بوجود الصحيح - ولو قليلا - فيها، حيث قال عن أحاديث المهديّ التي نقدها ما نصّه: وهي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلاّ القليل أو الأقلّ.ولَنِعم ما قال الصدّيق في ردّه:
وقد عرفت استنقاذنا - بالحقّ - لها عن نقده - بالباطل - ، وأنّ نقده لم يبق
موجّها إلاّ في القليل أو الأقلّ، عكس ما قال.
وعلى فرض تسليم دعواه، وأنّه لم يسلم منها إلاّ القليل أو الأقلّ منه: فما
الشبهة - عنده - في دفع ذلك القليل السالم من النقد?
وما الاعتذار عن عدم قبول ذلك الأقلّ الذي اعترف بصحّته? وأقرّ بخلاصه من النقد وسلامته? إنّما هو عناد ظاهر، واختفأ عن الحقّ واضح، وتكبّر عن الإذعان لِما لم يوافق الهوى والمزاج. فكم رأيناه يحتجّ بأحاديث أفراد،
ليس لها إلاّ مخرج واحد، وفي ذلك المخرج - أيضا - مقال نعم، تلك لا ضررَ فيها على الناصبة.وهذه الأحاديث المتواترة ، غير موافقة لأُصول مذهب النواصب والخوارج.
فلذلك انتقد منها ما وجد له سبيلا ولو في غير محلّه ...
يقول الجلالي: والحقّ أنّ الشريف أحمد الصدّيق الغماريّ قد أحفى القول في إثبات الحقّ في المسألة والردّ على باطل المنكرين للمهديّ، بما لا مزيد عليه، وأبدى بطولة في العلم والمعرفة بعلوم الحديث، مع أدب جمّ وباع طويل وصدر رحب، بما يجب أن يشكر عليه، جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا.
ويا حسرةً على الذي يقول لمثل هذا العالم المخلص: إنّه <من أنصار القديم لِقدمه>21 - ناصر الدين الألباني الشامي (معاصر) نشر بعنوان <حول المهديّ> بحثا في حقل <من القرّأ وإليهم> من مجلّة <التمدّن الإسلامي> الدمشقيّة، في الجزأين 27و28، الصفحة 642، للسنة 22.
قال فيه: فليعلم أنّ في خروج المهديّ أحاديث كثيرة صحيحة، قسم كبير منها له أسانيد صحيحة.
ثمّ أورد قسما منها، ونقل كلام صدّيق حسن خان في <الإذاعة> وقال بعنوان: <شُبهات حول أحاديث المهديّ>: إنّ السيّد رشيد رضا وغيره لم يتتّبعوا ما ورد في المهديّ من الأحاديث حديثا حديثا، ولا توسّعوا في طلب ما لكلّ حديثٍ منها من الأسانيد.ولو فعلوا، لوجدوا فيها ما تقوم به <الحجّة> حتى في الأُمور الغيبيّة التي يزعم البعضُ أنّها لا تثبتُ إلاّ بحديث متواتر.
وممّا يدلّك على ذلك: أنّ السيّد رشيد ادّعى أنّ أسانيدها لا تخلو من شيعيّ مع أنّ الأمر ليس كذلك على إطلاقه، فالأحاديث الأربعة التي أوردها ليس فيها رجل معروف بالتشيّع.
إلى أن يقول الألبانيّ: وخلاصة القول: إنّ عقيدة خروج المهديّ عقيدة ثابتة متواترة عنه صلى الله عليه وآله وسلم ، يجب الإيمان بها، لأنّها من أُمور الغيب، والإيمان بها من صفات المتّقين، كما قال تعالى: (الَم ذلك الكتاب لا ريب فيه هُدىً للمتّقين الّذين يؤمنون بالغيب).
وإنّ إنكاره لا يصدر إلاّ من جاهلٍ أو مُكابرٍ.22 - الشيخ عبد المحسن بن حمد العبّاد المدني، عضو هيئة التدريس في الجامعة الإسلاميّة، بالمدينة المنوّرة (المعاصر) في محاضرة <عقيدة أهل السُنّة والأثر في المهديّ المنتظر> ألقاها في الجامعة المذكورة، ونشرت في مجلّة الجامعة الإسلاميّة، العدد الثالث، من السنة الأُولى، لشهر ذي القعدة سنة 1388 ه . وقد احتوت على عناصر عشرة، هي:
الأوّل: ذكر أسمأ الصحابة الّذين رووا أحاديث المهديّ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعددهم - عنده - ستّة وعشرون.الثاني: ذكر أسمأ الأئمّة الّذين خرّجوا الأحاديث في كتبهم، وعددهم ثمانية وثلاثون، منهم: أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والنسائي، وأحمد، وابن حبّان، والحاكم، وابن أبي شيبة، وأبو نعيم الأصفهاني، والطبراني، والدارقطني، وأبو يعلى الموصلي، والبزّار، والخطيب، وابن عساكر، والديلمي، والبيهقي، وغيرهم من الأئمّة والمحدّثين والعلماء.
الثالث: ذكر الّذين أفردوا مسألة المهديّ بالتأليف، وهم: أبو خيثمة، وأبو نعيم، والسيوطي، وابن كثير، وابن حجر المكّي الهيتمي، والمتّقي الهندي، والملاّ علي القاري، والشوكاني، والأمير الصنعاني، وغيرهم.
الرابع: ذكر الّذين حكوا تواتر أحاديث المهديّ.
الخامس: ذكر بعض ما ورد في الصحيحين [ البخاري ومسلم ]من الأحاديثالتي تبشّربالمهديّ، ولهاتعلّق بشأنه.
السادس: ذكر بعض الأحاديث بشأن المهديّ.
السابع: ذكر بعض العلماء الّذين احتجّوا بأحاديث المهديّ.
الثامن: ذكر من حكي عنه إنكار أحاديث المهديّ. مع مناقشة كلامه.
التاسع: ذكر ما يُظنّ تعارضه مع الأحاديث الواردة في المهديّ.
العاشر: كلمة ختاميّة.وقال في آخر الفصل السابع: وليعلم أنّ الأحاديث في المهديّ قد تلقّتها الأُمّة من أهل السُنّة والأشاعرة بالقبول.
وردّ على كلام ابن خلدون مفصّلا.
وقال في الكلمة الختاميّة: إنّ أحاديث المهديّ الكثيرة - التي ألّف فيها المؤلّفون وحكى تواترها جماعة، واعتقد موجبها أهل السُنّة والجماعة وغيرهم - تدلّ على حقيقة ثابتة بلا شكّ من حصول مقتضاها في آخر الزمان ... وقال: فلاعبرة بقول من قفا ماليس له به علم فقال: إنّ الأحاديث في المهديّ لا تصحّ نسبتُها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنها
من وضع الشيعة وإذن، فإنّ أحاديث المهديّ على كثرتها وتعدّد طرقها وإثباتها في دواوين أهل السُنّة، يصعب كثيرا القول بأنّه لا حقيقة لمقتضاها، إلاّ على جاهل، أو مكابر، أو مَنْ لم يُمعن النظرَ في طرقها وأسانيدها، ولم يقف على كلام أهل العلم المعتدَ بهم فيها.
والتصديق بها داخل في الإيمان بأنّ محمّدا رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنّ من الإيمان به صلى الله عليه وآله وسلم تصديقه فيما أخبر به، وداخل في الإيمان بالغيب الذي امتدح الله المؤمنين به، بقوله: (الَم ذلك الكتاب لا ريب فيه هُدىً للمتّقين الّذين يؤمنون بالغيب).23 - عبد العزيز بن باز السعوديّ الوهابيّ (معاصر) رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنوّرة، في تعليق له على محاضرة الشيخ عبد المحسن العبّاد، التي ذكرناها آنفا، نشر في مجلّة الجامعة نفسها، العدد 3، السنة الأُولى 1388، في ذيل المحاضرة ذاتها.
قال فيه: أمر المهديّ معلوم، والأحاديث فيه مستفيضة، بل <متواترة> وقد حكى غيرُ واحد من أهل العلم تواترها. وهي متواترة تواترا معنويا،
لكثرة طرقها، واختلاف مخارجها، وصحابتها، ورواتها، وألفاظها، فهي
- بحق - تدلّ على أنّ هذا الشخص الموعود به أمره ثابت، وخروجه حقّ.
وقال: وقد رأينا أهل العلم أثبتوا أشيأ كثيرة بأقلّ من ذلك.
والحقّ أنّ جمهور أهل العلم، بل هو الاتّفاق: على ثبوت أمر المهديّ، وأنّه حقّ، وأنّه سيخرج في آخر الزمان. وأمّا من شذّ من أهل العلم - في هذا الباب - فلا يُلتفتُ إلى كلامه في ذلك.24 - وللشيخ عبد المحسن بن حمد العبّاد - أيضا - مقال بعنوان <الردّ على من كذّب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهديّ> نشر في مجلّة الجامعة الإسلاميّة، العددين و 46، الأوّل والثاني من السنة 12.
ردّ فيه بحزم وتفصيل على القاضي ابن محمود القطريّ رئيس المحاكم في دولة قطر، فيما كتبه في رسالة سمّاها <لا مهديّ يُنتظر بعد الرسول خير البشر>.
وهو ردّ قويّ، ومتين، ومستوعب لجميع ما عرضه ذلك الكاتب وغيره من البحوث، وأجاب عن اعتراضاته وسلبيّات ما نسبه إلى قضيّة المهديّ.
والنتيجة: أنّنا - وإن أطلنا الموقف مع هذه القائمة لأسماء من صحّح أحاديث المهديّ - فإنّ الذي قصدناه من هذه الإطالة:
1 - أن يطّلع القرّاء الكرام على وجهات نظر المصحّحين للحديث، من دون الاقتصار على ذكر المضعفين له.
2 - أن ندلّ على عدم موضوعيّة من تعمّد إخفاء هذه التصحيحات، وعدم ذكر شي منها، مع أنّه يدعو إلى البحث العلميّ الرصين
مع أنّ إكمال البحث غير ممكن إذا أغفلنا هذه المجموعة من الاَراء وخاصّة ما في كتب المتأخّرين من المعلومات القيّمة.
<فإنْ كانَ> المتعمّد للإخفاء <لا يَدْري> عن هذه المعلومات شيئا <فتلك مصيبة> على علمية البحث الذي يُقدم عليه ورصانته.
<وإنْ كان يَدْري> بها، ولكنّه تغافل ولم يذكرها في بحثه <فالمصيبةُ أعظمُ> على صدق نيّته وإخلاصه وأمانته