Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

الفصل الرابع

أحاديث المهديّ بين الأصل والتفاصيل

 

إنّ من الواضح لدى أهل العلم: أنّ أصلَ أمرٍ ما قد يكون ثابتا ومتيقّنا، لكن تكون خصوصيّاته مشكوكةً ومختلَفا فيها.

ولا يختلف الأمر في ذلك بين أن يكون من المنقولات أو المعقولات. فقد يتّفق الناقلون على مجي زيد - مثلا - لكن يختلفون في مجيئه راكبا، أو ماشيا. فيتركّب كلّ خبر من عنصرين: <أصل الشيء> و <حالة الشيء>، والأوّل ربّما يكون متّفَقا عليه، والثاني يكون مشكوكا فيه.

وإذا ترتّب حكم من تكليف أو اعتقاد، أو أثر، على الأصل، التزم به، لعدم الخلاف فيه، وأمّا الحالة فلا دليل على ثبوتها، ولا يترتّب عليها أحكام الأصل، كما أنّ اختلافها لا يؤثّر في ثبوت الأصل. ومثل هذا واقع في كثير من الملتزَمات الدينيّة، سواء العمليّة، أم الاعتقادية.

فالحجّ مثلا، واجب شرعيّ، ولا خلاف في أصل وجوبه ومهمّات أعماله كالإحرام والطواف والسعي، بين الأُمّة الإسلاميّة، لكنّ الخلاف في جزئيات كلّ ذلك واقع لا محالة، من دون أن يؤثّر في أصل الوجوب. وفي مقام العمل يلتزم العامل بما يترجّح عنده من أوجه العمل، أو يتخيّر بين الأفعال والوجوه المتعدّدة.

ومن المعلوم أنّ الخلاف الواسع بين الفقهأ في المذاهب المختلفة، وحتى فقهأ المذهب الواحد، غير مؤثّر في أحكام أُصول الواجبات والمحرّمات، المسلَمة، ولا يسري التشكيك من الجزئيّات والتفاصيل، إلى الكلّيّات والمسلَمات.

وكذلك في المعتقدات: فإنّ من أُصول الدين الإسلاميّ وأُسسه الاعتقاد بالمعاد، وبما فيه من الحساب والميزان والصراط والجنّة والنار، لقيام الأدلّة على أنّ كلّ ذلك حقّ لا ريب فيه، جأت بذلك الاَيات والأحاديث المتواترة، حتى أصبح من ضروريات الدين الإسلاميّ.

مع أنّ الخلاف واسع في تفاصيل كلّ ذلك، وليست الجزئيّات التي ورد بها بعض الروايات بتلك المثابة من الوضوح والمسلَميّة والثبوت. لكنّ الخلاف في الجزئيّات غير مؤثّر في اليقين بالكلّيّات، والاتّفاق عليها إلى حدّ عدّها من الضروريات.

وكذلك مسألة المهديّ المنتظر، فإنّ أصل خبرها يقينيّ أجمع المسلمون على الالتزام به، لورود الأخبار المتضافرة به، أمّا تفاصيلها وخصوصيّات أحوال المهديّ وشؤون مجيئه، ومدّة بقائه، وكيفيّة حكمه، وحتى شؤونه الشخصيّة من اسمه، وحليته، وغير ذلك، فإنّ كلّ ذلك ليس بمنزلة الأصل، ولم ترد بها إلاّ أخبار آحاد، فيُبنى الاعتماد فيها على حجّيّة الأخبار المنقولة تلك، وهي قابلة للنقد حسب المناهج المختلفة، إن سندا، أو متنا، أو قياسا إلى الأدلّة الأُخرى، وبالمقارنة بسائر الأخبار، والترجيح بينها، أو عقلا للتأمّل في مدلولاتها ومضامينها.

وإذا أدّى النقد إلى عدم اعتبار شي من التفاصيل، فإنّ ذلك لا يؤثّر في ثبوت أصل حديث المهديّ، وخبره المجمع عليه بين المسلمين، والذي جاءت به الأخبار الصحيحة، وتواترت به، وهو <مجي رجلٍ من أهل بيت الرسول يُسمّى المهديّ، في آخر الزمان ليجدّد الدين، ويملأ الدنيا عدلا> فهذا أمر لم يختلف فيه اثنان من المسلمين، وهذا الأصل هو المعنى المدّعى <تواتره> وثبوته، من مجموع الأخبار والأحاديث الواردة في باب <المهديّ>.

فمهما كانت التفاصيل باطلةً أو فاسدةً وغير ثابتة، فإنّ ذلك لا يمسّ ثبوت <أصل حديث المهديّ> بشيء. ألم يكن من الأفضل أن يفرّق العاقل في سطر واحد بين الأصل والتفاصيل فيقول: إنّ وجود إمام باسم المهديّ وردت بخروجه في آخر الزمان أخبار وروايات كثيرة، وكتبت من أجله آلاف الصحائف، ورويت حوله عشراتُ الروايات بمئات الأسانيد هو حقيقة ثابتة، وعليها اتّفاق جمهور المسلمين على اختلاف طوائفهم.

فلو كانت تفاصيلها غير قابلة للقبول، حسب عقل أحَدٍ أو ضعيفة السند، لم تقم الحجّةُ به، أو غير متّفق عليها حسب المعروف من مذاهب المسلمين فهذا هو الذي ينبغي أن يكون منشأً للبحث والجدل?

أمّا عرض بعض التفاصيل، غير المقبولة، حسب عقل شخص واحد، وجعلها ملاكا للحكم على كلّ القضيّة وحتى أصلها الثابت، ووصفها بالوضع والبطلان، وجعل ذلك دليلا للتهجّم على أصل الحديث، فهذا خارج عن مناهج نقد الحديث، بل خارج عن أبسط قواعد المنطق، وهو قياس مع أكثر من فارق وقد صرّح المحدث الصدّيق الغماريّ بما قلناه، وجعل المراد بالتواتر المعنويّ: القدر المشترك من مجموع الأحاديث، وقال: كلّ قضيّة منها باعتبار إسنادها لم يتواتر، والقدر المشترك فيها وهو <وجود الخليفة المهديّ آخر الزمان> تواتر باعتبار المجموع[ إبراز الوهم المكنون، للصدّيق، الفصل الأوّل] .

والأجنبيّ عن علوم الحديث لم يفهم هذا الاصطلاح، يقف ليتساءل مستنكرا:
ما هو معنى التواتر? هذه الأحاديث لا تتّفق على شيء !
أقول: كيف لاتتّفق على شي، وقد اتّفقت على القدر المشترك وهو <وجود شخص من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يظهر في آخر الزمان>?
أليس هذا المعنى، قد أجمعت عليه أحاديث المهديّ?
لكن الجاهل يحاول تسفيه <التواتر> ويقول - بسخريّة الجُهّال - : إنّ المؤمنين بصحة السند فقط، لا تعنيهم هذه الأسئلة?

إنّه خروج عن حدود الأدب اللاّزم توفّره في من يرتبط بالكتب، والقلم، وليس مقبولا في المحاضرات العلميّة.
وهو أُسلوب استفزازيّ، يثير النفوس.
فهل العلماء والجهابذة الّذين نقلنا أقوالهم واعترافاتهم بتواتر أحاديث المهديّ في <الأصل المشترك> منها بالخصوص، يُخاطَبُون بمثل هذا الكلام السخيف? مع أنّ الأحاديث المشتملة على الشؤون الخاصّة، لم تدخل في دعوى التواتر المعنويّ، حتى يُستدلّ ببطلانها على بُطلان أصل القضيّة .