Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

الفصل الخامس

مسألة المهديّ بين السلبيّات والإيجابيّات

 

لقد حاول البعض الإيحاء ببطلان أحاديث المهديّ المنتظر بطرق شتّى:
فمن ناحية تضعيف أسانيدها، تارة. وهذا ما لم يفلح فيه، لما عرفت من اتّفاق أهل الحديث من العلمأ كافّةً على صحّة قسم منها، بحيث لا يقبل الإنكار.

فلجأ إلى النغمة القديمة التي ضرب على وترها المستشرقون الحاقدون على الإسلام المحمّدي، وتبعهم أذنابهم المستغربون من أمثال أحمد أمين المصري، وهي: (اتّهام الشيعة بوضع أحاديث المهديّ المنتظر) وسيأتي منّا كلام حول تفنيد هذه المزعومة الباطلة.

فاعتمد على عنصرين هما بيت القصيد في بحثه:
الأوّل: عدم معقولية مجموعة من الأحاديث المنقولة في شأن المهديّ، وهو ما يسمّيه بالنقد العقلي للحديث.
الثاني: استغلال مجموعة من أهل الدنيا والمشعوذين والخلفاء، لفكرة المهديّ المنتظر، لادّعائهم المهدوية، والتحايل على الناس بذلك، ممّا لا تخفى أضراره وأخطاره على الدين والأُمّة، ماضيا، ومستقبلا. وقد ركّز في خلال ذلك على سلبيّات للقضيّة.

فنقول:
أمّا الأمر الثاني: فممّا لا ريب فيه أنّ مسألة المهديّ قد استغلّت من قبل الكثيرين في طول تاريخنا المديد، وحتى هذه الأيّام.

فادّعاها بعض المشعوذين ممّن يحاول السيطرة على عقول الناس وأفكارهم باستخدام هذا الاسم المقدّس الذي يأمل الناس في صاحبه: الهدى والخير والعدل. كما قد أُلصقتْ صفة <المهديّ> ببعض الثوّار المصلحين، من قبل أنصارهم تفاؤلا بأن يكون هو الموعود به على لسان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .

إلاّ أنّ هذا الاستغلال، ليس مَدعاةً لإنكار أصل حقيقة المهديّ الذي هو من الثوابت عند المسلمين على طول التاريخ. ووجود الخطأ في التطبيق، أو سو النوايا في بعض الأحيان، وتعمّد البعض للدجل، لا تؤدّي إلى إنكار الحقيقة الثابتة.

وبهذا الصدد أجاب الشيخ محمّد الخضر حسين، فقال: وإذا أساء الناس فهم حديث نبويّ، أو لم يُحسنوا تطبيقه على وجهه الصحيح، حتى وقعت وراء ذلك مفاسد، فلا ينبغي أن يكون داعيا إلى الشكّ في صحّة الحديث، والمبادرة إلى إنكاره.

فإنّ النبوّة حقيقة واقعة بلا شبهة، وقد ادّعاها أُناس كِذبا وافتراءا، وأضلّوا بدعواهم كثيرا من الناس، مثل ما تفعله طائفة القاديانية المشقة من اهل السنة، اليوم.

فليس من الصواب إنكار الحقّ من أجل ما لصق به من باطل[ نظرة في أحاديث المهديّ المنشور في مجلّة <التمدّن الإسلامي> الدمشقيّة ]. وكذلك الخلافة عن الرسول، منصب حقّ، لكن لا يمكن إنكارها باعتبار استيلاء مجموعة من الجهلة والقتلة والظلمة والفسقة، على أريكتها، وتسمية الواحد منهم نفسه <أمير المؤمنين>.

وقال السلفي ناصر الدين الألباني: إنّ كثيرا من الأُمور الحقّة يستغلّها مَنْ ليس أهلا لها. فالعلم - مثلا - يدّعيه بعض الأدعياء، وهو في الواقع من الجهلاء. فهل يليق بعاقلٍ أن ينكر العلم بسبب هذا الاستغلال?

فكذلك فلنعالج عقيدة المهديّ، فنؤمن بها كما جاءت في الأحاديث الصحيحة، ونُبعد عنها ما أُلصق بها بسبب أحاديث ضعيفة [أو أعمال أُناس جاهلين أو مغرضين].

وبذلك نكون قد جمعنا بين إثبات ما ورد به الشرع وبين الإذعان لما يعترف به العقل السليم [ مقال حول المهديّ، في مجلّة التمدّن الإسلامي - الدمشقيّة] . وقال العبّاد: إنّ وجود مُتَمَهْدِين من المجانين وأشباه المجانين، يخرجون في بعض الأزمان، ويحصل بسببهم على المسلمين أضرار كثيرة، لا يؤثّر في التصديق بمَنْ عناه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الأحاديث الصحيحة، وهو <المهديّ الذي يصلّي عيسى بن مريم عليه السلام خلفه>.

وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجب التصديق به، ويجب القضأ على كلّ مُتَمَهْدٍ، أو غير مُتَمَهْدٍ يُريد أن يشقّ عصا المسلمين ويفرّق جماعتهم.

والواجب قبول الحقّ وردّ الباطل، لا أن يُردَ الحقّ ويُكذَبَ بالنصوص، من أجل أنّه ادّعى مقتضاها مدّعون مُبطلون دجّالون[ الردّ على من أنكر المهديّ، المنشور في مجلّة الجامعة الإسلاميّة - المدينة المنوّرة، العدد 45].

وها هم المسلمون - كافّة - يتصدّون لكلّ ادّعأ مزيّف بالمهدويّة من قبل الدجّالين. وها هم الشيعة الإماميّة، وهم أكثر الطوائف دعوةً ودعاءاً للمهديّ المنتظر باعتباره إماما لهم، وينادون باسمه علنا، يقفون ضدّ كلّ دعاوي المهدوية بالباطل، مثل موقفهم المشرّف ضدّ البابية التي تزعّمها <علي محمّد الشيرازي> في القرن الماضي. وقد أفتى علماؤهم بوجوب قتله، فأُعدم.

وكذلك هم بالمرصاد لكلّ من تُسوّل له نفسه مثل تلك الدعوى من المبطلين !
وهم، مثل سائر المسلمين، ينتظرون المهديّ الموعود الذي <يملؤ الأرض عدلا بعدما مُلئت ظلما وجورا> ويميّزونه بما ثبت عندهم من علامات الظهور، ووضوح برهان ذلك النور.

وأوّل كلّ أدلّته وعلاماته إجماع المسلمين على قبوله، واستقبال دعوته والدخول في رايته وحزبه. وأمّا دعوى عدم معقوليّة ما جاء في أحاديث المهديّ: فإنّما مثّل لذلك ببعض الأحاديث المشتملة على تفاصيل الحديث عن شؤون المهديّ.

وسواء كان المعترض محقّا في دعواه عدم المعقولية، أم كان مبطلا? فإنّ تلك الأحاديث، إنّما هي آحاد جاءت من طريق الأفراد فهي - صحّت أو ضعفت - لا تشكّل حجّة شرعيّة، وليست هي معتمد العلماء، ولا تدخل في البحث عندهم، لأنّها لا تفيد علما، ولا عملا. وليست هي إلاّ كسائر الأحاديث الواردة في قصص الأنبياء الماضين، وأحاديث سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة، وأخبار التاريخ وحوادثه، وغير ذلك من الأُمور التي يعتمد اعتبارها والالتزام بها على عرضها ومقارنتها وغربلتها وتمييزها سندا، ومتنا، ثمّ الترجيح بينها، واختيار الأوفق للأدلّة منها.

فليس ما عرض في هذا المجال خاصّا بأحاديث تتحدّث عن المستقبل فقط، بل أحاديث الماضي - وحتى الحال - تحتاج إلى مثل هذا النقد، المستلهَم أساسا من مزاولات العرف، وقرائن الحال والمقال.

والملاك في الجميع - الماضي والحال والمستقبل - واحد، وهو كونها جميعا من <الغيب> الذي لا يُعلم إلاّ عن طريق المخبر الصادق، والعارف. وبما أنّه من المنقول ويعتمد على السماع، فالملجأ الوحيد هي الأخبار والأحاديث الراوية لذلك، لا غير. ولكنّ الأمر بالنسبة إلى المؤمنين بالنصوص الدينيّة مختلف، فلو جاء القرآن الكريم، الذي هو <الوحي المعجز> أو جاء به الحديث الشريف، الذي هو <وحي غير معجز> فإنّهم يؤمنون بذلك اعتمادا على الإيمان بالله والرسول.

والسرّ في ذلك: أنّ الله تبارك وتعالى، وإن كلّفنا بالاستمداد من العقل وتحكيمه، إلاّ أنّ ذلك متصوّر فيما طريقه العقل فقط، وأمّا ما لا طريق للعقل في الحكم فيه فإنّه تعالى كلّفنا باتّباع الرسل، والأخذ منهم، والاعتماد على ما ينقلونه من أخبار الشرع وغيره، واتّباعهم فيما يفعلونه والتزام ما يقرّرونه. فالشرائع السماوية تعتمد على عنصر <التبليغ> ويتقرّر الواجب على المسلم عند <البلوغ>. ومهمّة الرسل هو إيصال الأحكام والحقائق والمعارف إلى البشر، وإتمام حجّة البلوغ عليهم.

أمّا المؤمنون فهم مكلّفون بالتزام ما وصل إليهم وبلغهم من كلام الرسل. قال الله تعالى: (وما آتاكم الرسولُ فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا)[سورة الحشر 59 : 7 ]

ولمّا كانت الشريعة الإسلامية تعتمد عنصر النقل والبلوغ، فقد قرّر علماء الدراية والمصطلح، قواعد محكمة متينة لضبط أُمور الرواية والنقل، وهي قواعد لم تسبقهم الأُمم في كلّ الحضارات إلى ذلك، سواء في ذلك الإلهيّة أم غيرها.

وقد أصبح النصّ الإسلامي على أثر ذلك من أحكم النصوص المعتمدة على أُسس من العرف والوجدان والعقل، في تحديد الطرق المأمونة في <توثيق النصوص>.

وهذا من فضل الله على هذه الأُمّة المحمّدية، إذ وُفق علماؤهم لبذل الجهود الكريمة لحفظ هذا الدين وهذا التراث، وصيانة أُصوله وفروعه من التحريف والتصحيف، والحمد لله ربّ العالمين.

ومن هنا، فإنّ الحديث الشريف إذا صدر من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وثبت نقله، وصحّ طريقه، وسلم متنه، وبلغ الإنسان نصّه، فهو مُلزم باعتقاد صدقه تصديقا للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، والتزاما بالقواعد المقرّرة، والأُصول المقبولة. وإذا كان مضمون الحديث ممّا لا يُعرف إلاّ من الغيب، كأُمور الماضي وحوادثه، والمستقبل وتوقّعاته، فإنّ طريق معرفته ليس إلاّ النقل والسماع والأخبار.

فإن أمكن العقل إدراك ذلك، بأدلّته وأساليبه وأدواته، كان النقل مؤكّدا، والمنقول مرشدا إلى المعقول. ولو تخالف المنقول مع المعقول، لزم تأويل المنقول ليوافق ما يقوله العقل ويؤكّده، وإلاّ ضرب به عرض الجدار، إلاّ أنّ مثل هذا شاذّ في الأخبار، لا يعمل به. وأمّا ما لا يدخل في مجال درك العقل، وتقف أدواته وأدلّته دونه، فلا معنى للاستناد إلى عدم فهم العقل له للردّ عليه وإنكاره.

وفي خصوص هذا المورد يجب على المؤمن أن يصدّق بما يصله بالطرق المأمونة، ويستفيد من متنه حسب الموازين المتعارفة بين أهل اللغة، وحسب المقدور من الأعمال، وبما لا يخالف دليلا آخر من أدلّة الشرع المسلّمة.

وأحاديث المهديّ المنتظر، من هذا القبيل: فإنّها من أخبار المستقبل الغيبيّة، وليست ممّا للعقل إلى نفيه أو إثباته سبيل، إذ هو أمر خاصّ، والعقل إنّما يحكم في الكلّيّات ويدركها، وليس في الالتزام بما تدلّ عليه الأحاديث ما يؤدّي إلى المحالات العقلية، أو مخالفة للمسلَمات العقلية.

بل العقل إنّما يذر هذا الأمر في بُقعة الإمكان، ما لم يقع على امتناعه برهان، وليس على الله بمستبعد أن يدّخر لهذه الأُمّة المؤمنة المجاهدة شخصا مهديّا يهديهم إلى الفلاح وهو يقول: (والّذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا) [ سورة العنكبوت 29 : 69 ]

وقد صحّت الأحاديث والروايات التي بلّغ فيها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هذا الوعد إلى الأُمّة، بأنّ الله سيبعث في آخر الزمان رجلا من أهل البيت اسمه <المهديّ>.
فما المانع من تصديقها?
وأيّ دليل عقليّ يمنعه?

وأمّا الجزئيّات والتفاصيل، فقد أكّدنا مرارا على أنّها ليست بمثابة <الأصل المذكور> في التواتر والثبوت، وإنّما جاءت بها الأخبار الاَحاد المتفرّقة، ولم تتمّ بها الحجّة القاطعة.

ولو صحّ طريقها وسندها: فلو عارضها دليل آخر، من نقل مقطوع، أو عقل جازم ولم يمكن تأويلها بما يوافق ذلك، لزم رفضها، وعدم الالتزام بها.
لكن ذلك لا يعني - إطلاقا - إنكار أصل مسألة المهديّ المنتظر، الثابت بالأخبار الكثيرة، والمجمع عليه بين طوائف المسلمين.

وقد ذكر العبّاد في ردّه على بعض منكري المهديّ ما نصّه: إنّ خروج المهديّ في آخر الزمان من الأُمور الغيبيّة التي يتوقّف التصديق بها على ثبوت النصّ فيها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد ثبتت النصوصُ في خروج المهديّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر الزمان، وأنّ عيسى بن مريم عليه السلام يصلّي خلفه.

والّذين قالوا بثبوتها هم العلماء المحقّقون وجهابذة النقّاد من أهل الحديث.
والواجب تصديق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما يُخبر به من أخبار،
سواء كانت عن أُمور ماضية، أو مستقبلة، أو موجودة غائبة عنّا [ الردّ على من أنكر أحاديث المهديّ، المنشور في مجلّة الجامعة الإسلاميّة - المدينة المنوّرة، العدد 45، سنة 1400 ]

وأمّا إيجابيّات مسألة المهديّ:
إنّ فكرة المهديّ الموعود، وبالصورة المشتركة بين الأحاديث، لها جوانب إيجابية، تتوافق عليها أدلّة العقل والعرف، والتدبير، حتى ولو أغفلها مثل عقل المنكر بل تصوّرها من السلبيّات.

<فانتظار الفرج> الذي هو تعبير شائع عن رفض اليأس، وعن عدم القنوط من الرحمة الإلهيّة، هو أمر جدّ مهمٍ لمن تحوطه المشاكل ويصبح في مأزق منها، وتكاد تقضي عليه، لولا رجاء رحمة الله وقد عُدَ <انتظار الفرج عبادة> من الأحاديث الواردة بطرق عند الشيعة والسُنّة، في غير قضيّة المهديّ الموعود.

<والمهديّ> هو تطبيق عملي وعينيّ لفكرة <الانتظار> للفرج عند الشدّة، وذلك عندما يعمّ الدنيا الظلمُ والجور، ويخيّم اليأس على الجميع، ويخمد صوت العدالة، فيكون <المهديّ> فَرَجا عامّا، يملؤ الدنيا عدلا، ورحمة، وخيرا.

وقد اضطرّ المنكر إلى أن يعترف بهذه الحقيقة، فهو يقول:
شيوع هذه الفكرة وانتشارها بين المظلومين شي طبيعيّ، فهي بؤرة الضوء في ظلام دامس، وواحة الأمل والأمان في دنيا الإنسان المقهور[ تراثنا وموازين النقد (ص185)].

فإذا كان هذا شيئا طبيعيا، فهو سُنّة الله في الخلق.
ولكنّ الكاتب ينسى هذه الحقيقة عندما ينحاز إلى التأكيد على السلبيّات، فيقول: إنّ الاستسلام للظلم، إلى أن يخرج مبعوث إلهيّ ليزيله يُعتبر عبثا، وتخديرا للناس، انتظارا لأمل لن يتحقّق، ودفعا للشعوب الإسلاميّة إلى أن ترجو الخلاص بطريق يُخالف سُنّة الله في الكون [ تراثنا وموازين النقد (ص212-213)].

فالذي يظهر لنا في ردّه:
أوّلا: إنّ الأمل في نفسه مدعاة لعدم الاستسلام، وإلاّ لم يُسَمّ أملا، وليس أمر تحقّقه وعدم تحقّقه بعد ذلك أمرا مؤثّرا في كونه أملا، وفي كونه مانعا عن اليأس وضدّ تأثيره.

ولذلك قد يكون الأمل خائبا، وقد لا يخيب بل يتحقّق، وإذا كان الأمل بالله، وبوعده بالخلاص على يد المهديّ الموعود، فهل يحقّ لمؤمن أن يقول: إنّه لن يتحقّق?

وإذا قطعنا النظر عن الإيمان بالمهديّ: فمن أين عرف هذا القائل أنّ هذا الأمل لن يتحقّق، حتى يجزم به? أليس هذا رجما بالغيب، الذي لا يعترف به? وهل هذا منطق البحث العلمي الرصين?

وثانيا: إنّ أحاديث المهديّ ليس فيها ما يدلّ أو يشير أدنى إشارة إلى أنّ المسلمين لا نهضة لهم، ولا عزّ، قبل خروج المهديّ.

وهذا ما ذكره ناصر الدين الألباني، وأضاف: فإذا وجد في بعض جهلة المسلمين مَنْ يفهم ذلك منها، فطريق معالجة جهله أن يُعلّم ويُفهّم، لا أن تردّ الأحاديث الصحيحة بسبب سوء فهمه [ مجلّة التمدّن الإسلامي - الدمشقيّة، العدد 22 ]

أقول: وهذه النغمة مأخوذة من أحمد أمين [ ضحى الإسلام، لأحمد أمين المصري، 3 /244] ومن تبعه. وقد ردّ عليه العبّاد بقوله: خروج المهديّ في آخر الزمان متّفق مع سُنّة الله في خلقه، فإنّ سُنّة الله تعالى أنّ الحقّ في صراع دائم مع الباطل، والله تعالى يُهيى لهذا الدين في كلّ زمان مَنْ يقوم بنصرته، ولا تخلو الأرض - في أيّ وقت - من قائم لله بحجّته، والمهدي فرد من أُمّة محمّدصلى الله عليه وآله وسلم ، ينصر الله به دينه في الزمن الذي يخرج فيه الدجّال، وينزل فيه عيسى بن مريم عليه السلام من السماء، كما صحّت الأخبار بذلك عن النبي الذي (لا ينطق عن الهوى إنْ هُوَ إلاّ وحي يُوحى) [ الردّ على من أنكر أحاديث المهديّ، مجلّة الجامعة الإسلاميّة - المدينة المنوّرة، العدد 45، السنة 12]

وثالثا: أين ومتى كان <انتظار المهديّ> سببا للاستسلام? وكيف يحقّ للقائل أن يدّعي هذه السلبيّة? وهؤلاء الشيعةُ، وهم من أشدّ الناس تمسّكا بعقيدة المهديّ المنتظر، ويتوقّعون ظهوره وخروجه، بفارغ الصبر وبكلّ إلحاح، تصديقا لإخبار النبيّ الصادق محمّد صلى الله عليه وآله وسلم .

وهم مستهدَفُون من أجل عقيدتهم هذه بشتّى أنواع التهم والقذف والتسخيف، حتى من قِبَل بعض إخوانهم، الّذين يُشاركونهم في الإسلام.

فبالرغم منالتزامهمالأكيد والقويّ بانتظارالمهديّ حتى أصبحت ميزةً لهم خاصّة، وكأنّهم وحدهم أُمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم الذي أخبر بظهور المهديّ ووعد به وأمر بانتظاره والائتمام به .

فمع كلّ ذلك، ها هم الشيعة اليوم، يقفون في الصفّ الأوّل في كلّ الحركات الثورية على الظلمة والمعتدين، وهم يمهّدون للمهديّ ودولته بكلّ ما أُوتوا من حَوْل وطَوْل، ويُعِدون ما استطاعوا من قوّة ومن رباط الخيل، يُرهبون به عدوّ الله، وأعدأهم الكافرين من اليهود والنصارى وأذنابهم من السلفية والعلمانية والبعثية، وأتباع الحكومات المستسلمة اسما، والمستعمرة فكرا وعملا. وهم يعتقدون أنّ ما يقومون به هو <تمهيد> لسلطان المهديّ، وزعزعة للثقة عن قلوب الطغاة والظلمة، وهم الرافضون لكلّ أشكال التعنّت في الحكم، ما مضى منه وما هو قائم باسم الإسلام، ويرفضون كلّ تعنّت وفساد واعوجاج في العقائد والعمل، ويلتزمون - ما أمكنهم - بتطبيق أحكام الإسلام وتحكيم قوانينه على الأرض. ولقد أصبح الشيعة رمزا لكلّ ثائر مؤمنٍ متطلّعٍ إلى الحقّ والعدل، في كلّ الأرض الإسلاميّة، وحتى غير الإسلاميّة.

وأصبحت الحكومات الجائرة، إسلاميّة وغيرها، تتّهم كلّ مُطالب بالحريّة، ورافضٍ للظلم والجور، بأنّه شيعيّ، أو مرتبط بدولة الشيعة، أو مُتعاطف مع الشيعة، أو يستمدّ منهم مالا وسلاحا، وغير ذلك من التهم، التي لا واقع لها فإنّ في المتحرّكين مَنْ لا يعترف بالشيعة ولا بدولة الشيعة .

إنّ هذا الواقع، أدلّ دليلٍ على بُطلان ما يدّعيه القائل بسلبيّة عقيدة المهديّ المنتظر، بأنّها تؤدّي إلى الاستسلام للظلم.

وأمّا فلسفة الانتظار الذي تبتنى عليه فكرة <المهديّ المنتظر> فقد شرحها واحد من كبار علماء الشيعة الإماميّة في القرن الرابع الهجريّ، وهو عليّ بن الحسين بن موسى، ابن بابَوَيْه، أبو الحسن، القُميّ (ت329) في مقدّمة كتاب <الإمامة والتبصرة من الحَيْرة> الذي ألّفه لمعالجة هذا الأمر بالخصوص، فإنّه ذكر عِللا خمسا <للانتظار> هي من إيجابيّات <المهديّ المنتظر> فلنقرأها:

قال:
ولكنّ الله - جلّ اسمه - جعله أمرا <منتظَرا> في كلّ حين وحالا <مرجوّةً>
عند كلّ أهل عصر:
1 - لئلاّ تَقْسُوَ - بطول أجلٍ يضربه الله - قلوب.
2 - ولا تُسْتَبْطَأَ - في استعمال سيّئة وفاحشةٍ - موعدةُ عقاب.
3 - وليكون كل عاملٍ على أُهْبَةٍ.
4 - ويكون من وراءعمال الخيرات أُمنيّة، ومن ورأ أهل الخطايا
والسيّئات خشية وردعة.
5 - وليدفع الله بعضا ببعض.
[ الإمامة والتبصرة من الحيرة، لابن بابويه القمي (ت329) تحقيق السيّد محمّد رضا الحسينيّ الجلاليّ، ص143-144، نشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - بيروت 1408 ه ].

وقد وفّقني الله للعثور على ذلك الكتاب وتحقيقه منذ سنوات، وقد شرحت هذه القطعة من كلامه بما يُناسب إيراده هنا، فقلتُ:

هذه خمس عللٍ ذكرها المؤلّف <للغَيْبة> وهي أسرار <الانتظار> يمكننا أن نقف لشرحها على صفحات كثيرة، لكنّنا نشير في هذا المجال إلى مختصر من القول:

الأمر الأوّل: أشار به إلى <الأمل> الذي تبعثه الغَيْبة في نفوس المستضعفين، وأنّ <الانتظار> لا يزرع في قلوبهم: القسوةَ، والخمودَ، واليأسَ، بل: يخلق في نفوسهم: النشاطَ، والوثبةَ، والبأسَ. لأنّهم بالإيمان بالغَيْبة لا يجهلون المصير، كما يتخيّلُ المبطلون، بل هم على موعدٍ إلهيّ، واثقون من التحرّر بقيادة حكيمةٍ مدعومةٍ بالنصر الإلهي.

والأمر الثاني: يُشير به إلى حساب الطواغيت المسيطرين على رقاب الناس، فإنّ الغيبة تبعثُ في أعماقهم رُعْبا لا يهدأ، لأنّهم لا يعلمون متى يأتي وعْدُ الله بعذابهم? <فإنّه آتيهم من حيث لا يشعرون>. إنّ جهلهم بالمصير، يُرْبكهم، ويجعلهم في ريبٍ ممّا يقومون به من الظلم والفحش، لأنّهم: (يحسبون كلّ صيحة عليهم).

والأمر الثالث: - وهو أهمّ الأُمور - : أنّ الغيبة تجعل الإنسان المؤمن، العامل في سبيل الله، في حالة الإنذار القصوى، دائما، وعلى استعداد تام، لكي يقوم بدوره في كلّ حين. يَعُد الأيام، بل الساعات، ليحين الحين، لكي ينطلق نحو الهدف. إنّه لا بُدَ أن يهيّى حاله بكامل العُدَة من الصلاح، والسلاح. إنّ <الانتظار> على هذا يعني عملية استنفار مستمرّة لجُند حزب الله، العاملين. فما أعظم ذلك من حكمةٍ !!

والأمر الرابع: أنّ الوعد والوعيد، والتبشير والإنذار، لَمِمّا اعتادت النفوس على الاهتمام بهما، والاعتماد عليهما في الحياة، بل إنّ مبنى الناس في إقدامهم أو إحجامهم، على الأمانيّ والاَمال بما يبشّرهم، أو على أساس الخوف والفزع ممّا يُنذرهم. لهذا، فإنّ <الانتظار> يكون لعامل الخير أُمنيّةً يرجوها ويأملها، فيستمرّ على عمل الخير. ويكون لعامل الشرّ خوفا كامنا يتبعه، ووحشة تلاحقُه، فتردعه عن شرّه، وتكفّه عن اتّباع سريرته الشِرّيرة السيّئة .

والأمر الخامس: إشارة إلى سُنّة الحياة، في التنازع على البقاءوأن تبقى بعض الأُمور مجهولة، كي تستمرّ عجلة الحياة في السير، ولا تخمد جمرة الوجود عن الإثارة، ولكي يبقى للإنسان الخيارُ في أن يختار الأفضل.

ولو كانت الحقائق - كلّها - واضحة مكشوفة، لَما كان في اختيار الحقّ ميزة للمحقّين، ولم يكن ابتعاد الإنسان عن الشرّ مدعاةً للفرح والسرور. كما إنّ في ذلك إتماما للحُجّة على المعاندين، ممّن اختاروا طريق الفساد، والظلم، ولشرّ، بينما الأخيار إلى جنبهم -أيضا - يعيشون في هذه الحياة ولكن (لولا دَفْعُ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعضٍ لَهُدمتْ صوامعُ وبِيَع وصلوات ومساجدُ يُذكر فيها اسمُ الله). [ الإمامة والتبصرة من الحيرة، بتحقيقنا، المقدّمة، ص112-114]

إنّ <إيجابيّات الانتظار> هذه التي ذكرها القُمّي في القرن الرابع الهجري، هي مستلهَمة من واقع الحياة، وسُنّة الله في خلقه، وهي منطبقة على كلّ حالات <الانتظار> التي كانت من قبل، ومن بعد، إلى عصرنا الحاضر.

وها هم المظلومون في كلّ بُقعةٍ من الأرض، والمؤمنون في الأرض الإسلاميّة، تنطلق جموعهم المصدّقة بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأخباره بخروج المهديّ ودعوته للتمهيد له، وكلّهم في فوران وتوقّع لحكم كلمة الله، يثورون ضدّ الحكومات الجائرة، والحكّام الطغاة الفاسدين من الملوك، والرؤساء والأُمراء والوزراء، وكلّ دجّال لئيم، يتّكى على أريكة الحكم والسلطة، بالباطل والزور، مُتقنّعا باسم الإسلام !؟

والمسلمون - أجمعون - ينتظرون خروج المهديّ الموعود ليحقّق النصر الإلهيّ بتمكين المستضعفين في الأرض، بمنّه وكرمه.