Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

الفصل السادس

العقل ونقد الحديث

 

يمكن أن يعتبر العمود الفقري في مناقشات المنكرين لحقيقة المهديّ هو مسألة نقد ما جاء فيه من الحديث عقليا، وخلاصة ذلك: أنّ اعتماد العلماء إنّما هو على منهج نقد الأسانيد، دون المتون، وهذا لا يغني عن البحث عن المتن مطلقا، لأنّ المحدّثين أنفسهم وضعوا قاعدة مهمّة مفادها <صحّة السند لا تقتضي صحّة المتن>.

ولهذا أكّد بعضهم على لزوم نقد المتن، وذكر مصادر لذلك، وذكر ضوابطه التي أنهاها إلى 18 ضابطة. وركّز في النهاية على لزوم اعتماد العقل في نقد المتن، مدّعيا إغفالهم له، فقال: إنّ إغفالَ الجانب العقليّ، والاعتماد على صحّة السند - فقط - قد يجرّد الإسلام من أعظم ما فيه، وهو عدم مناقضته للعقل السليم والنظر الصحيح.

وقد نقل عن ابن الجوزي قوله: فكلّ حديثٍ رأيته يُخالف المعقول أو يُناقض الأُصول، فاعلم أنّه موضوع، فلا تتكلّف اعتباره. ونقل عن أحمد بن حنبل وابن الجوزيّ قولهما بعدم الاعتماد على أخبار الملاحم، وما أخبر عن أمر مستقبل.

وطبّق هذا على <المهديّ المنتظر> باعتباره من أخبار الملاحم، ومن أُمور المستقبل، وبما وجده - حسب عقله الشاذ - من مخالفات في أخبار المهديّ ولا نريد أن ندخل في نقاش الجزئيّات، ولكن نذكّر بأُمور كلّيّة فقط:

1 - إنّ مصبّ النقد العقليّ لأحاديث المهديّ إنّما هو ذكر التفاصيل، دون أصل الفكرة، كما تدلّ عليه جميع الأمثلة التي ناقشها المنكرون وقد عرفتَ في الفصل الرابع أنّ هناك فرقا واسعا بين الأصل، والتفاصيل، في أحاديث المهديّ.

2 - وقد ذكّرنا أيضا بأنّ العقل إنّما يدرك أحكاما وقضايا عامّة وكلّيّة، ولا دخل له في الأُمور والحوادث الخاصّة. وقضيّة المهديّ، الموعود، ليست إلاّ أمرا شخصيّا وغيبيّا مستقبلا، فلا مجال لتدخّل العقل فيه، لا إثباتا ولا نفيا. فإقحام العقل وحكمه في أمره، من قلّة المعرفة بالشؤون العقلية ومدى فعّاليّتها. كما سبق أن ذكّرنا بأنّ ثبوت المهديّ وانتظاره وخروجه لا يخالف قضيةً من قضايا العقل وأحكامه الثابتة، ولا يخالف أصلا شرعيا، ولا فرعا محقّقا.

بل هو من الأُمور الخارجية، المحكومة عقلا بالإمكان الخاصّ: فإن اقتضى شي ثبوته، والالتزام به، ثبت ولزم، وإلاّ فلم يقم دليل على امتناعه واستحالته، حتى يقال: إنّه مرفوض عقلا. هذا في أصل قضيّة المهديّ.

وأمّا التفاصيل: فلو كان شي منها معارضا لأصل عقليّ أو شرعيّ أو حتى فرع شرعيّ مجمَع عليه، فهو مرفوض.

وإلاّ، فإنْ لم يصحّ سنده لم يجز نسبته إلى الشارع المقدّس، وإن صحَ فهو خبر عاديّ، مثل سائر الأخبار غير الملزِمة علما ولا عملا، وإذا لم تضرّ، لم يمنع مانع من الالتزام بها، وإن ضرّت لزمها حكم الضرر.

ثمّ إنّ الملاك في رفض العقل لشي، أن تتّفق العقول -للمجموعة البشرية - على رفضه، لا عقل شخص واحد فلو أقدم شخص على الحكم على الأحاديث بالبطلان، لمجرّد استبعاده الشخصيّ لها، واعتباره الخاصّ بأنّها لا تُعقل، فهو استبداد بالعقل وإن صدق في دعواه عدم إدراكه لأمر ما من هذا النوع من التفاصيل، فهو معذور، لقصوره.

ولكون أمر التفاصيل ليس من أركان الدين ولا ضروراته، فلا يحكم عليه من أجل إنكاره لها بالكفر. وأمّا ابن خلدون: فإنّما تعرّض لأحاديث المهديّ بالنقد من جهتين:

الأُولى: المناقشاتُ السَنَدية، بتضعيف أسانيد ما أورده منها، وقد عرفت أنّه أورد (28) حديثا فقط، وحكم بصحّة <القليل أو الأقلّ منها>. وعلى فرض تضعيفها كلّها، فإنّها لا تمثّل إلاّ بعض الأحاديث الواردة في المهديّ، ومن المعلوم أنّ نقد البعض لا يدلّ على ما حكم به من ضعف الكلّ وإبطال أصل القضيّة وقد عرفنا وجه الخلل في مواقف ابن خلدون من أحاديث المهديّ سابقا.

ولا بُدّ من الإشارة إلى أهمّ نقطة في هذا المجال وهي: أنّ تبجّح أحدٍ بفعل ابن خلدون لا منشأ صحيح له، سوى الهوى.

فإنّ ابن خلدون ليس من أهل هذا الميدان، والحقّ الرجوع في كلّ فن إلى أربابه - كما يقول السيّد الكتّاني -[ نظم المتناثر، للكتّاني، ص146، آخر الحديث 289 ] لأنّ فنّ ابن خلدون وتخصّصه هو علم التاريخ، دون الحديث الشريف رجاله، والحديث إنّما طريقه النقل، والخبرأ فيه إنّما هم المحدّثون الّذين يقصدون طلبه، ويتحمّلون المشاقّ في سبيل تحصيله، وهم العارفون بقواعده وأُصوله.

وقال السيّد الصدّيق الغماريّ: إنّ ابن خلدون ليس له في هذه الرحاب الواسعة مكان، ولا ضُرِبَ له بنصيبٍ ولا سهم في هذا الشان، ولا استوفى منه بمكيال ولا ميزان. فكيف يُعتمد فيه عليه، ويرجع في تحقيق مسائله إليه?[ إبراز الوهم المكنون، لأحمد الصدّيق الغماري] .

وقال الشيخ المحدّث النقّاد أحمد شاكر في بعض تخريجاته لأحاديث مسند أحمد: ابن خلدون قد قفا ما ليس له به علم، والله يقول: (ولا تقفُ ما ليس لك به علم) واقتحم قُحَما لم يكن من رجالها, إنّه تهافتَ في الفصل الذي عقده في مقدّمته [ لذكر أحاديث المهدي ] تهافتا عجيبا، وغلط أغلاطا واضحة.

إنّ ابن خلدون لم يُحسِن فهم قول المحدّثين، ولو اطّلع على أقوالهم، وفقهها ما قالَ شيئا ممّا قال [ نقله العبّاد في مجلّة الجامعة الإسلاميّة - المدينة المنوّرة، العدد 45، من مقال <الردّ على مَنْ كذّب أحاديث المهديّ>] .

وقال العبّاد في ردّه على ابن محمود المقلّد لابن خلدون في نقد أحاديث المهديّ: إنّ ابن خلدون مؤرّخ، وليس من رجال الحديث، فلا يُعتدَ به في التصحيح والتضعيف، وإنّما الاعتماد بذلك بمثل البيهقيّ، والعقيلي، والخطّابي، والذهبيّ، وابن تيميّة، وابن القيّم، وغيرهم من أهل الرواية والدراية الّذين قالوا بصحّة الكثير من أحاديث المهديّ [مجلّة الجامعة الإسلاميّة، المدينة المنوّرة، العدد 45 ]فكيف يُركن إلى ابن خلدون في مثل هذا العمل المهزوز علميّا، في تضعيف أحاديث المهديّ? والجهة الثانية التي اعتمدها ابن خلدون في نقده الأحاديث المهديّ، هي: قاعدته الاجتماعية المبنيّة على أنّ العصبيّة هي دعامة الانتصار في كلّ دعوة إلى الدين أو المُلك، ولا تتمّ بدونها دعوة، وهي لا توجد عند المهديّ.

فهو يقول في نهاية الفصل الذي عقده لذكر المهديّ: الحقّ الذي ينبغي أن يتقرّر لديك: أنّه لا تتمّ دعوة من الدين والمُلك إلاّ بوجود شوكةٍ وعصبيّة تظهره وتدافع عنه مَنْ يدفعه، حتى يتمّ أمر الله فيه.

وعصبيّة الفاطميّين، بل وقريش أجمع، قد تلاشت من جميع الاَفاق، ووُجد أُمم آخرون قد استعلت عصبيّتهم على عصبيّة قريش إلاّ ما بقي بالحجاز في مكّة وينبع بالمدينة من الطالبيّين من بني حسن وبني حسين وبني جعفر، وهم منتشرون في تلك البلاد، وغالبون عليها، وهم عصائب بدوية متفرّقون في مواطنهم وإماراتهم وآرائهم، يبلغون آلافا من الكثرة.

فإن صحّ ظهور هذا المهديّ فلا وجه لظهور دعوته إلاّ بأن يكون منهم، ويؤلّف الله بين قلوبهم في اتّباعه، حتى تتمّ له شوكة وعصبيّة وافية بإظهار كلمته، وحمل الناس عليها.

وأمّا على غير هذا الوجه، مثل أن يدعو فاطمي منهم إلى مثل هذا الأمر في أُفق من الاَفاق، من غير عصبيّة ولا شوكة، إلاّ مجرّد نسبةٍ في أهل البيت، فلا يتمّ ذلك، ولا يُمكن[ مقدّمة ابن خلدون، 327-328 ]وبهذا المنطق يريد ابن خلدون أن ينفي الأحاديث الصحيحة التي وردت ووعدت بالمهديّ المنتظر، ولكنّه منطق هزيل أمام النصّ والواقع:

فأوّلا: حصره الأساس للانتصار في عصبيّة النسب، أمر لا يوافق المنطق الإسلامي الرافض لكلّ أشكال العصبيّات والعنصريات، والداعي إلى الأُخوّة الإسلاميّة.

وثانيا: بطلان دعواه بالنسبة إلى الديانات والحركات الدينيّة التي قامت على الأرض ولا تزال، ممّا لا تعتمد على العصبيّة، بل تضادّها أحيانا كثيرة:

فهذه ثورة الإسلام التي قام بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وليس معه من قومه إلاّ القلائل، وأمّا الأكثرية فكانوا ضدّه بل هم من أشدّ الناس عليه، ولكنّه غلبهم ودحرهم بإذن الله.

وهذه الثورة الإسلاميّة في إيران، قادها رجل علويّ وهو الإمام الخميني، من دون أن ينتمي إلى عَصَبة وشوكة سوى العُلقة الربّانية التي كانت تربط مقلديه في الفتوى به وقد نصره الله على <الشاه> الأعجمي الحسب والنسب، والذي كان يدعو إلى القوميّة الفارسيّة بأقوى الأساليب وبشكل منهجي ومدروس، لكنّ الشعب المسلم المؤمن وقف مع الإمام العلويّ، إلى حدّ الانتصار.

وثالثا: إنّ المهديّ المنتظر، له ممهّدون، يمهّدون له سلطانه، ويهيّؤن له أُموره، وإن لم يكونوا من عصبته، كما دلّت عليه أخبار متّفق عليها بين المسلمين، فلا ينحصر وجه ظهوره في أن يخرج في عصبته من الطالبيّين فقط.

ورابعا: لو صحّت الأحاديث بخروج المهديّ، فالمتّبع هو ما ورد في متونها، وهي تدلّ على <ظهور رجل من أهل البيت يدعو إلى الرشد والهدى، ويحكّم كلمة الله على سطح الكرة الأرضية>. وأمّا أنّه <يخرج في الطالبيّين> خاصّة، كما يراه ابن خلدون، فليس بحجّة، ولم يتضمّنه حديث، ودليله عليه عليل، فلا يجب علينا الالتزام برأيه.

بل هو إن كان مؤمنا بالله والرسول، فالواجب عليه رفع يده عن نظريّته الهزيلة، والتزام ما وردت به الأحاديث الصحيحة.