سحر الرملاوي
بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم

 سحر محمد مصباح الرملاوي     

أديبة وكاتبة صحفية معاصرة

sahar@alriyadh-np.com

فلسطينية الجنسية . من  مواليد 1/5/1968م. تحمــل ليسانس آداب،قسم إعلام من جمهورية مصر العربية عام 1989م.وتعمل محررة صحفية بجريدة الرياض، وكاتبة قصة قصيرة ولها مجموعة في الأسواق بعنوان " صور مقروءة" حازت على المركز الأول في مجال القصص القصيرة في مسابقة ملتقى أبها الثقافي لعام 1417هـ .ولها مجموعة قصصية تحت الطبع بعنوان "أسرار " ، و رواية طويلة تحت الطبع بعنوان " لاجئة ".

وتكتب مسلسلات و تمثليات تلفزيونية وإذاعية ، وتم إنتاج و بث ثلاث تمثليات إذاعية سباعية درامية عبر إذاعة الرياض .ويجري إنتاج مسلسل تلفزيوني من إعدادها عن الأساطير الشعبية للجهيمان .

وتصدر لها قصة شهرية على موقع عربيات على الإنترنت  www.arabiyat.com  تحت عنوان ثابت في عربيات الأدبية هو "صور مقرؤة " .

 

ويمكن التواصل معها عبر بريدها الإلكتروني: sahar@alriyadh-np.com

 

·             نماذج قصصية للكاتبة سحر الرملاوي

[1] ماذا لو تغيرت البداية؟

 

" داخل كل امرأة بقايا أميرة كانت هناك "

تثاءبت أميرة الأحلام في القصة القديمة ، أوشكت أن تأخذها غفوة صغيرة ، إلا أنها أسرعت وهزت رأسها بقوة تنفض عن نفسها النوم القسري الذي بدأ يزحف إلى جفونها ، ولما وجدت أنها لا محالة نائمة قررت أمرا غريبا ، نهضت وقررت أن تتربص قليلا و لكن هذه المرة خارج سطور القصة !!

-             تأخر كثيرا ذاك الغول القبيح ..

همست متأففة و دفعت غلاف القصة بكتفها ..

-             لماذا علي أن انتظره ليخطفني في كل مرة ؟

تساءلت وهي تسمع خشخشة الورق القديم ينبعث عاليا إلى مسامعها و هي تفتح الغلاف على مصراعيه .

-             انتظر الغول ليخطفني ، ثم انتظر الأمير لينقذني منه ، أي ملل !!

صفعت خدودها المرفهة رياح باردة، وهي تواجه العالم الخارجي للمرة الأولى ، تطلعت برأسها بفضول تتفرس ملامح العالم الذي لا تعرف، ثم مدت ساقها وتحسست بقدمها الصغيرة الأرض تحت القصة ولما وجدتها صلبة تشجعت ونزلت من الصفحات الأولى بلا تردد و أغلقت الغلاف وراءها بعنف .

-             تبا ليتني لا أعود ..

اكتنفها ظلام المكتبة لبضع لحظات أوشكت خلالها أن تعود مجددا ، إلا ان بصيص نور صغير لاح لها من بعيد ، شدت صدرها و تنفست بعمق و سارت باتجاه الضوء …

-             أيا ما كان هذا الضوء ، فإنه افضل من الانتظار بلا هدف ..

***

في ذلك الوقت استيقظ الغول الشرير ، ذو الملامح المرعبة ، الذي يعيش في قصره الكبير ، مد يده الضخمة إلى السهل أمام قصره و انتزع ثورا ضخما كان يرعى بجوار القصر ، و ازدرده بسرعة و هو يزأر و يصيح :

-             اليوم أخطف أميرة أحلامي ..

لا أحد يعرف على وجه الدقة ماذا يفعل وحش يزدرد ثورا على الريق بأميرة بشرية لا يزيد حجمها عن قلامة ظفره ..

-             أنا أحبها و لن يتمكن أحد من أخذها مني .

ثم إن الغول الشرير نهض يتربص و يسير وسط السهول ، و قد قرر أن يختطفها بينما هي تتأرجح على أرجوحتها الوردية و تغني بانتظار فارس أحلامها الجميل ، إلا انه تطلع بدهشة إلى الأرجوحة الخالية و حك رأسه مفكرا ..

-             أين ذهبت أميرتي الحلوة ؟ ماذا أفعل الآن ؟ كيف تكتمل الفصول إذا لم تكن الأميرة في قصري ، ماذا افعل ؟

ثم ان الوحش لم تعد ملامحه شريرة بل على العكس لانت نظرته و ملأها الغباء و اشتعلت الحيرة فيها و بعد قليل نهض مجددا إلى قصره ، و لاحظت العصافير أن الغول حزين فسألته :

-             ماذا بك أيها الغول العظيم ؟

نظر إليهم و لم يجد في نفسه حتى الرغبة في ان يقول شيئا ، أشاح بيده و أكمل طريقه .

***

كان الأمير الجميل يتمرس على الرماية ، و الفروسية ، كان يلعب المصارعة و الكاراتيه ، و يتدرب على فنون الجودو و التايكندو و عندما لمس في نفسه القوة الكافية استعد للذهاب للبحث عن حبيبته التي لابد أنها الآن – وفقا للقصة القديمة – قد خطفها الغول الشرير و لابد أن ينقذها من براثنه و يتزوجها هو ، و لقد امتطى الأمير حصانه السريع و حمل قوسه و رمحه و زادا يتبلغ به حتى يصل إليها ، لا يهم كم تمضي من السنين حتى يصل ، و غير مهم على الإطلاق من يخلفه على إمارة منطقته حتى يعود ، فالشعب لديه لا يعاني من غلاء المعيشة ، و لا يتطلع لما هو افضل ، كل ما ينتظره شعب القصة القديمة أن يفرح مع أميره عندما يعود ظافرا يحمل أميرته الجميلة على حصانه السريع ، لذا فقد اتفق أن خرج كل الشعب لتوديع الأمير الجميل و قال الحكماء :

-             هذا أمير شجاع .

و بعد رحلة مضنية لاقى فيها الأمير الأهوال و تغلب على عشرات المصاعب استطاع أخيرا أن يصل إلى القصر الكبير للغول المخيف و دخل القصر فأدهشه أنه رأى الغول جالسا في البهو يدخن الأرجيلة

-             هل جئت أخيرا ؟

نظر إليه الأمير و قال بتحد لكل المفاجآت القادمة :

-    ماذا تفعل هنا ؟ كان ينبغي أن تكون نائما الآن حتى أتفاهم مع الأميرة على الطريقة التي سأنقذها بها ، أنت تفسد كل شئ ..

أطلق الغول بعض الدخان في الفضاء و همس بلا مبالاة :

-             الأميرة ليست هنا ..

-             لا؟

-             نعم ، ذهبت لاختطافها منذ سنة كالعادة فلم أجدها ..

-             و أين ذهبت ؟

هز الغول كتفيه و عاد يدخن أرجيلته .

لم يقتنع الأمير بما قاله الغول وأسرع يفتش عن الأميرة في كل أرجاء القصر و ينادي عليها ، لكن صوتا لم يجبه ، فعاد إلى الغول مجددا ، و لاحظ كآبته فجلس على كرسي بجواره و قال :

-             معك حق ، إنها ليست هنا ؟ هل اختطفها غول آخر ؟

-             لا .. لقد اتصلت بكل زملائي من الغيلان و الوحوش و الخطافين و جميعهم يشكون من أن أميراتهم غير موجودات .

همس الأمير الجميل :

-             غير معقول ، و أين ذهبن ؟

هز الغول كتفيه و قال :

-             لست ادري .

اسقط الأمير الجميل قوسه و رمحه أرضا و قال :

-             و ماذا نفعل الآن ؟

-             لا شئ …. ننتظر .

***

في هذه الأثناء كانت الأميرة الجميلة تغذ السير باتجاه الضوء و لاحظت بكثير من الغبطة أن عددا كبيرا من الأميرات و الجميلات قدمن من كل الاتجاهات و يسرن جميعهن باتجاه الضوء ..

فيما بعد و بينما كان هناك تجمهر كبير من الأمراء و الشطار والأبطال يبحثون عن أميراتهم بمساعدة كبيرة  من الغيلان و الوحوش و الخطافين ، دخلت سوزي ترتدي بنطالها ( الجينز والتيشيرت) الأحمر إلى حجرة المكتبة الباردة ، و مدت يدها باتجاه إحدى القصص القديمة لتقرأها و قبل أن تكتشف فراغ القصة من ابطالها انتبهت لنفير سيارة حديثة أسفل منزلها ، فاتجهت إلى النافذة ، كان بالسيارة عدد من السيدات تحمل وجوههن ملامح الأميرات و الجميلات القديمات ، إلا أنهن كن يرتدين ملابس عصرية و كن أيضا متوترات ، مرهقات ، لوحن لسوزي لكي تنزل إليهن و قالت إحداهن :

-             هيا يا سوزي لدينا الكثير من العمل و لا وقت لدينا لنضيعه ..

ابتسمت سوزي و عادت إلى المكتبة تضع فيها القصة القديمة برفق و همست :

-             كنت أريد بعض الرومانسية ، و لكن يبدو الا وقت لدي لأضيعه …

تمت

 

[2] الحنين..

كيف يمكن أن نعرف الحنين ؟

هل له في لغتنا مرادف يشبهه ؟

عشرات الكتب حولي أبحث فيها عن معنى قريب للحنين ..

كنت قد ألقيتها في لا مكان حين مزجنا الزمان و المكان معا و لبسناهما

و اليوم أستعيدها من مكان قصي ..

مكان لا يرتبط بالزمان ، لذا فهو مكان خارج أسطورتنا ..

ذات يوم ملبد بالغيوم و البرد قلت لي انك تشعر بالحنين حين ابتعد عنك ..

فالتمعت ابتسامة الشمس و صبت فوق هامتينا الدفء ..

و من يومها ارتبط الحنين عندي بابتسامة الشمس ..

ليس في هذه الكتب شيئا يربط الشمس بالحنين ..

و عندما كنت أفتش في عقلي عن معنى للحب دق قلبي فعرفت أني أخطأت طريقي و فتشت في مكان لا علاقة له بالحب ..

قلت لي ذات مساء و نحن نطارد فراشات خيالنا الفضية :

مغرمة أنت بالبحث عن مترادفات الكلمات ..

قلت لي :

 أنا احبك .. فلماذا تبحثين عن معنى للحب إذا كان حبي لك يشبه الأسطورة ..

قلت و كنت تضحك :

لن تجدي في كل كتب اللغة أن الحب أسطورة ..

تفسيري الوحيد لكل شئ هو ما أشعر به .. حين نحبس المشاعر في سطور الكتب نكون كمن يعبئ شعاع الشمس في أجولة ..

مستحيل يا حبيبتي .. مستحيل كالمستحيل .. هل للمستحيل معنى في قواميس اللغة يشبه أن نفترق ؟

ليس في كل هذه الكتب شيئا واحدا يجمع في معناه ضدين .. فكيف جمع المستحيل فراقنا و بقاءنا معا ؟

عقله و عقول الآخرين كانوا دوما بالمرصاد لعلاقة  قالوا و قال أنها المستحيل ..

لكن المستحيل في عرف من ؟

كان المستحيل عرف العقل .. فلماذا تركنا لهذا الذي يتربص بنا أن يتحكم في شئ لا يملك ان يتحكم فيه و لا ينبغي له ..

- لكننا لسنا وحدنا ..

هذا ما قلته و أنت تهز كتف ساقطة مخذولة .. هكذا قلت و جبهتك معقودة على ألم بلا معنى ، ألم من استجاب لحكم قاض لا يقبل النقض أو الاستئناف

لماذا قبلت بحكم العقل بحكم كل العقول الجامدة ؟ لماذا قبلت أن تمنح عيدنا البهي كبش ذهبي من آهات قلوبنا الملتاعة ؟

لا لم يكن أبدا من حقك .. لم يكن ينبغي لك و لا ينبغي لهم ..

لكنك رغم كل اعتراضات الكون التي سجلتها بين يديك عيوني ..

 رغم كل صرخات الرفض الملتاعة نفذت الحكم ..

قلت لي لابد من أن نحكم العقل ..

تبا لك و تبا للعقل لماذا أدخلته في قضيتنا .. لم يكن أبدا طرفا فيها .. لم يكن له علينا أية سلطة .. كنا الجنون - إن شاءوا أن يطلقوا هذا اللقب الفخم على علاقتنا - كنا الجنون .. الجنون الجنون

لا مكان لعقل في بحر من جنون ..

فمتى تسلل هذا العقل إلى علاقتنا ؟

متى دق الباب و من فتح له ؟

 وأين كنت أنا حين فعلها ؟

 أين كان العقل حين نسجنا ..

و جدلنا

و بنينا ..

و مزجنا

 و خلطنا

و غرزنا في النخاع علاقتنا .. ؟

أين كان العقل حين تركنا البذرة تنمو ، و تركنا الوليد يغدو يافعا قويا ؟

كيف هان عليك ولدنا الجميل .. كيف استطعت ان تنزع الشجرة العزيزة من جذورها لتلقي بها في أتون النار ..

 أوصال من كنت تدفئ ببعضنا ؟

حب مستحيل

ما أغباها من كلمة .. ما العنها من كلمة .. من ذا الذي يملك أن يومئ إلى النجمة و يرمي علاقتها بالسماء بالمستحيل ؟

 أو يملك أن يقبض على القمر بتهمة التلصص على الكون و الناس نيام ..

كنت جبانا أيها الحبيب البعيد .. كنت جبانا و لم اكن يوما كذلك ..

وقفت أمام الدنيا أحمي حبي ، كنت احميه منهم و نسيت ان احميه منك ..

كنت أغلف ضعفك بالأعذار حتى لا يموت الحب .. لقد صالحت الدنيا أيها الغبي حين أحببتك .. صالحتها ، أحببتها .. اقتربت منها و جعلت منها أخت وصديقة ..

لم يكن فيها ما يثير حفيظتي .. كنت أعتقد أنني وأنا المحبة قد ملئت قلبي حتى فاض فلم يعد هنالك من مكان لأية تفاصيل غبية ..

آه .

آه.

آه.

و ألف آه أطلقها في عتمة ذات شهود

أتدري ؟ لقد خاصمت عقلي بعد فراقنا ..

لم اعد اعترف بوجوده .. أتسلى بعناده .. أتسلى بعصيان أوامره ..

لكن خصمي عنيد .. انه يسكنني .. يحرك قوى الرفض داخلي .. يؤلب علي الدنيا .. يؤلب علي نفسي

يغلبني في كل يوم عشرات المرات .. يسيرني رغم جنوني ..

الوخز في رأسي إحدى حيله لفصمي عن ذاتي .. لخلعك من قلبي ..

و قلبي .. ذاك الصغير الذي يعيشني .. كم يعذبني .. كم يؤلمني بكاؤه .. لم تفلح معه الهدهدة .. لا و لا المدارة .. اربت عليه في كل ليلة .. و اسقيه دواء النوم السحري .. فلا ينام .. يظل يدق صدري و يركله و يقف للنوم بالمرصاد رغم ضعفه .. رغم جرحه .. الا انه مازال قويا .. أقوى مني .. أقوى من إرادتي ، لا املك أبدا ان أسكته ..

أيها الغبي .. لماذا تركتني ؟

و أنت أيتها الكتب الغبية الا تملكين مرادفا مقنعا للحنين ؟

تمت

[3 ] من ثقب الباب

"كم هي مريرة و موجعة الحقيقة التي نراها صدفة من ثقب الباب"

 

        عندما دقت الساعة معلنة السابعة مساء ، تركزت كل الأعصاب البصرية في عينيه السوداوين ، و اتجهت مستفزة إلى حيث تجلس سيدة البيت الكبير ، كانت بدورها مشغولة بمتابعة برنامج فضائي يستهويها و لا تسمح لأحد بأن يقاطع استمتاعها به ، إلا أنها لم تنس في خضم المتابعة الشغوفة أن تنظر إلى خادمتها السريلانكية نظرتها المعتادة في مثل هذا الوقت من كل يوم ، و تشير بها إليه ، بعد ذلك يحدث كل شيء بهدوء شديد ، و كالمعتاد ….

فيما بعد و عبر الباب المغلق كانت تصله أصواتهن ، كن يثرثرن كثيرا و يبدين آراءهن فيما لا يفهمن ، كان لكل مشكلة في العالم حل ما تراه صاحبته قطعيا :

- آه لو فقط يسمعون كلامي ، آه لو فقط يأخذون برأيي …

لاحظ في جلسته هذه المرة شيئا مختلفا ، فلأول مرة يستطيع أن يتابع ما يحدث خلف الباب المغلق صوتا و صورة ، لقد لاحظ بكثير من الغبطة أن ثقب الباب القريب جدا منه لدواعي العجلة يعطي صورة قطعية لما يجري أمامه ، صحيح أن الصورة غير مكتملة ، لكنها أفضل بكثير من مجرد سماع الأصوات التي قد تصل واضحة كل الوضوح ، و قد تصله على شكل همهمات فقط لا يستطيع تفسيرها ، الآن بمقدوره أن يفسر ، أن يسمع ، و أن يرى أيضا …

أمال عنقه أكثر ناحية اليسار ليتسع مجال الرؤية الجديدة ، استخدم أصابع خمسة أمامه في رصد عدد الحاضرات :

-    إذا كان هذا الشيء البرتقالي هو ظهر إحداهن فإن العدد يصبح ثلاثة بكل تأكيد ، واحدة ترتدي اللون البرتقالي الفاقع و أخرى ترتدي مهرجانا و الثالثة ترتدي اللون الأسود ، كم هي جميلة ، و رقيقة و ناعمة ذات الرداء الأسود … و لكن أين سيدة البيت الكبير ؟

رائحة شهية تسللت إلى أنفه عبر الباب المغلق أنبأته عن مكان سيدة البيت الكبير ، إنها فطائر السبانخ التي لا يتناول منها أكثر من واحدة في كل مرة يصنعنها فيها ، و لا أحد يسأله إن كان يريد أخرى ، سمع ضوضاء بقرب الباب و لم يعرف كنهها إلا عندما التفتت ذات الرداء البرتقالي بملامح زاعقة الزينة و صاحت بشفاه دموية :

-             أيها الشيطان …. ماذا تفعل ؟

تراجع برأسه إلى الخلف متسائلا عما إذا كانت هذه البدينة قد اكتشفت تلصصه عليهن ، إلا أن ركضا خفيفا لطفل في الرابعة من عمره باتجاهها فسر له الأمر ، و أيضا أعطاه دليلا آخر على نعمة الرؤية من ثقب الباب ، و لمح الصغير يشد أمه من ثوبها و يشير بإصرار باتجاه باب غرفته المغلق ، إلا أنها لم تستجب لإشارته و أكملت حديثا كانت قد بدأته قبل أن تزجر طفلها الصغير :

-    نعم كما أقول لكن ، لا يوجد تفسير آخر ، و إلا فلماذا وقعوا معاهدة السلام ؟ إن كل ما حدث يذكرني بابنة خالتي التي قبلت مكرهة بزوجة ثانية لزوجها و قالت إنها هي من أجبرته على ذلك … أجلس أيها الشيطان …

ابتسمت ذات الرداء الأسود و همست بحنان :

-             ربما هو جائع ، فرائحة الفطائر تثير الشهية …

أشاحت مهرجانية الزي بيديها و هي تقول :

-    أية فطائر هذه التي تثير الشهية ؟ على العكس إن ما يصنعونه هنا يشبه في أحسن الأحوال الفطائر المجلدة التي يشتريها عامة الناس دون الالتفات إلى دقة صناعتها ، أو في أبسط الأحوال تاريخ صلاحيتها .

همت سوداء الزي أن تتحدث عندما بادرت برتقالية الثياب بالموافقة على ما أبدته صديقتها مؤكدة :

-             بل هي بالفعل فطائر مجلدة تثير التقزز ، أهدأ أيها الشيطان ، ماذا تريد ؟

عاد الطفل مجددا يشير إلى غرفته و هذه المرة التفتت السيدة البدينة ناحية بابه المغلق و قالت :

-             ماذا تريد بالضبط ؟

هم أن يهز رأسه نافيا أنه يريد شيئا عندما فطن إلى أن الحديث موجه إلى الطفل الصغير و ليس له هو شخصيا ، ابتسم و نظر باتجاه ذات الرداء الأسود برجاء أن تتكلم فاستجابت لرجائه المحجوب و قالت :

-             عفوا صديقتي ، لكنني أخالفكما الرأي فيما يتعلق بصناعة سيدة هذا المنزل ، فقد تميزت دوما بالمذاق الحسن …

-             ليست هي الطاهية على أية حال …

لا يدري لماذا تصر مهرجانية الزي و كرنفالية الزينة على انتقاص صناعة المنزل ، ما الذي يجبرهما على الحضور و الأكل من طعامها اذا كن لا يعجبن بشيء مما تصنع سيدة المنزل ..

و لكن أين ذهب الطفل الصغير ، لماذا اختفى عن مدى رؤيته المحدود ؟

لم تستمر حيرته طويلا فقد جاءت الإجابة بشكل عملي للغاية عندما بدأ مقبض الباب الذهبي يتحرك لأعلى ولأسفل في محاولة دؤوبة لفتح الباب ، كما أن المشهد الخارجي برمته كان قد اختفى الآن ، دفع برأسه إلى الخلف وراقب المحاولات الصغيرة لفتح الباب و تساءل ، في الواقع تمنى :

-             هل يمكن أن ينفتح الباب ؟

سمع خطوات مسرعة و ثقيلة تتحرك باتجاهه ، وأخذت مشاهد الخارج تأتي و تروح هنيهة قبل أن تنجح الأم في سحب طفلها العنيد إلى حيث تجلس ، و جاءت سيدة المنزل الكبير و ابتسامتها القلقة تصافح وجوه ضيفاتها و تنزلق مسرعة ناحية الباب المغلق …

-             اعذريني حبيبتي فهذا الشيطان الصغير لا يهدأ أبدا ..

-             لا تبالي ، هكذا هم الأطفال …

و استأذنت مجددا لتشرف على شكل المائدة الذي يشكل حجر الأساس في حفلة الاستقبال هذه …

-             يالها من امرأة ، كيف تصم ولدي بالشقاوة ؟….

همت ذات الرداء الأسود أن ترد ، إلا أن مهرجانية الثوب تلقفت الحديث فورا و علقت :

-             لا يمكن أن يشعر بالأطفال إلا من له طفل ، لا تنسي (هي) بلا أطفال …

غامت الدنيا أمام العينين السوداوين و تقلصت عضلات فكيه و حاول أن يقبض أصابع يديه ، فأخرج لسانه ، و لما أعيته الحيل سمح لدمعة متسللة أن تزحف بهدوء على خدوده ، و تعمد أن تلقفها شفاهه المتعبة و فكر بأن ملوحتها تشكل تضامنا سريا مع الآخرين الذين يرغبون جدا في إيذائه و لا يدري لأي ذنب ، فتفلها بقوة إلا أنها بقيت عالقة في سقف فمه ، تطلع إلى سقف الحجرة ، و بدت له الثريا خافتة الضوء ، كحجر كبير يكاد يسقط فوق رأسه ، إنه يتوقع سقوطها في كل لحظة ، لكنها تظل تخيفه بظلالها القاتمة و لا تسقط …

-             هل رأيتم الموقف الأخير الذي حدث لبطلة مسلسلة السادسة و النصف ؟ كم هي تعيسة تلك الجميلة …

-              لا يحزنك أمرها ، ففي النهاية لابد أن يعود إليها حبيبها …

-             لقد بكيت كثيرا عندما مات قطها الأبيض في ذلك الحادث المروع …

-              كم أنت إنسانة !!

علقت ذات الرداء الأسود ..

لا يدري لماذا تنهمر دموعه ، تضايقه هذه الدموع ، يضايقه أكثر عدم قدرته على الصراخ ، و أكثر ما يزعجه أن لا أحد يشعر به ، و أن تلك الدموع التي تحرق بملوحتها سقف فمه ستظل هناك رغما عنه ، حتى خيوط الماء الحار التي بدأت في الانسياب من فتحتي أنفه تدخل تلقائيا إلى فمه المفتوح و لا يملك إبعادها رغم الغصة التي يعانيها و التي بدأت تتحول إلى اختناق ….

تسلل الصبي الصغير تاركا أمه تلتهم فطيرة السبانخ الخامسة و معها عدد لا بأس به من الشطائر متنوعة الحشوات و سار باتجاه الباب المغلق في الصالة ، عاود محاولة فتحه ، إلا أن الباب لم يستجب له كما حدث في المرة الأولى ، دق الباب ، ثم ركله بقدمه ، أحضر منديلا ورقيا و مال بكل جسده و تطلع من تحت الباب ، دفع المنديل إلى الداخل ، و انبطح تماما ليرى أين ذهب .

كان الشعور المبدئي بالاختناق لديه قد بدأ يتحول إلى ألم حاد في العنق ، و توالت الدموع المنهمرة تسقط بلا هوادة ، و اليد الخامدة لا تسعفه في صرفها عن الفم المفتوح ، و شكل الصالة الخالية من البشر يفزعه ، كأن البيت صار بلا سكان ، ماذا لو مات الآن ، حرك رأسه بكل ما أوتي من قوة فأسقطها على صدره و لاحظ سقوط قطرات الدمع فوق ملابسه ، ثم لاحظ المنديل الورقي بجوار الباب المغلق ، و لمح أصبعا صغيرا متطفلا يحاول الإمساك بطرف المنديل ، كان هو ايضا بحاجة إلى المنديل، حاول أن يحرك نفسه ، أن يتقدم بكرسيه المتحرك و لو قليلا إلا أن حالته لم تسعفه ، أخرج من فمه صوتا غاضبا و حرك يده ما استطاع و رفعها بكل قوة فلطمت وجهه، فعاود الحركة و عاودت اليد تلطمه ، بدأ يحتج على العنف الموجه ضده من يد ، بصرخات أقرب إلى الحشرجة ، فزع الطفل و حاول سحب إصبعه العابث ، فانحشرت بين الباب و الأرض ، صرخ بشدة فانتبهت الأم ، و نهضت بسرعة حاملة اللقمة الأخيرة من فطيرتها السابعة و قالت للأخريات و رذاذ الطعام يختلط بالكلام :

-             لا تنزعجن ، لابد أن شيئا ما أفزعه ، سأذهب إليه ...

رفعت سيدة البيت الكبير رأسها و انتبهت إلى ضيفتها برتقالية الزي و هي تسير باتجاه الصالة فألقت ما بيدها و نهضت مسرعة و اتجهت وراءها إلى الصالة تستطلع الأمر و لحقت بها الضيفتان ...

كانت كرنفالية الزينة قد خلصت إصبع صغيرها ، و تطلعت بدافع الفضول من ثقب الباب المغلق ، و عندما التفتت خلفها تحمل ملامحها كل الذهول ، همست للعيون المتطلعة ، ووجهت كلامها إلى عينين تتواريان خجلا و ألما :

-             لديك أبن معوق ؟ !!

تلعثمت سيدة البيت الكبير قبل أن تصرخ ذات الزي البرتقالي :

-             أنقذيه إنه يموت ...

عندما اندفعت " أمه " سيدة البيت الكبير إلى الغرفة المغلقة ، نظرت البدينة إلى كرنفالية الزي و قالت بشماته :

-             لديها ابن معوق ....

تمت

[4] جثة عصفور احمر

صفعته هذه المرة كانت قوية..

قاومت رغبة عنيفة في البكاء، أو حتى في رفع يدي أتلمس مكان الصفعة و أبرده ، ظلت عيوني تحمل تلك النظرة الجوفاء الباردة ، أقابل بها عيونه الثرثارة و أنفاسه الطائشة و شفتيه المرتجفتين غيظا و غضبا ، شعرت بالدماء تتجمع فوق خدي لترسم بمهارة أصابعه القوية عليه ، بقيت فترة أراقبه ، هو أيضا كان يراقبني ، خفتت أنفاسه ، تطلع إلى يده و همس و هو يستدير :

-               آلمتك كثيرا هذه المرة أليس كذلك ؟

لم يكن يريد مني إجابة ، فلم اجبه ، بقيت صامتة كلوح ثلج أدمن المطارق ...

أمسك برسغه و اعتصره ، كان كالعادة يتألم ... أشفقت عليه من ألمه ...

استدار نحوي بسرعة غير متوقعة فاقتنص نظرة تجاوب و إشفاق في عيوني لم أتتمكن من إسدال ستار البرود عليها ، اقترب مني و همس و هو يتحسس خدي :

-               سامحيني ..

حملت عيوني البرود و غامت …

لم اعد أراه …

 منذ سنوات لم اعد أراه ، صار وجوده في حياتي أمرا يشبه الهواء نحتاجه و لكننا لا نراه ، حتى صفعاته المتكررة و لمساته الحانية التي مازالت تحملها خدودي لا أشعر بها ، كلماته الغاضبة ، الراضية ، المتضرعة أحيانا لا أسمعها ، جولاته الليلية و صولا ته لا تعنيني ، استطعت منذ سنين التخلص منه ، قتلته و استرحت …

قتلته يوم رسمت الدماء صورة أصابعه على بشرة خدي لأول مرة ، يوم خرجت أرتال القباحة من شفتيه لتدحر بكل قوة قاموس عشق كنت اعتقد إنني اقتنيته يوم تزوجنا ، قتلته يوم كور صفحات الحب بقسوة و ألقاها ببساطة في نفايات أحلامي ، قتلته يوم أصبحت ملامحه بشعة ، اقترف إثما كلما طالعتها و أتساءل بحرقة :

-               هل حقا أحببت هذا الوجه يوما ؟

قتلته يوم اكتشفت إنني أعيش مع رجل آخر لا صلة له بالرجل الذي أحببت …

يشبهه و يحمل اسمه و لكنه لا يعنيني …

و منذ قتلته لم اعد ألومه ، فقدت الدهشة ، الاستنكار ، الرفض ـو القبول ، فقدت الإحساس بالحياة …

كيف اشعر بالحياة و أنا أعيش مع جثة من أحببت يوما …

فقدت إحساسي به ، لكنني مازلت أعيش معه ، سنوات تمر أسمع صدى خطواتها ضحكات من عهد مضى ..

قوية في البداية ، عالية تحمل شمسا و فيئا ، ثم تبدأ بعد قليل – قليل جدا – في الحشرجة ، و تنقلب منكرة ساخرة ، مفجعة ، و بعد قليل – قليل جدا – تصبح بكاء، نشيجا حارا يدمي قلبي …

أفيق فزعة من نومي ، فاسمع أنفاسه الرتيبة و ألمح وجها أليفا كنت أعرفه يوما ، أمد يدي ، أتحسسه ، اثقب في الظلام الرابض ثقبا صغيرا أطالع من خلاله كما صندوق الدنيا زمنا كنت أحيا فيه ، ووجها كنت احبه …

تعرفنا بطريقة غريبة ..

كنت احمل عصفورا صغيرا احمر في قفص ابيض كثير النقوش ، اشتريته للتو ، كنت سعيدة به ، بل اكثر من سعيدة ، كان قلبي يتجاوب مع ألحانه فيرقص بين ضلوعي ، و أمام مدخل عمارتنا رأيته للمرة الأولى ، شدني بقامته الطويلة ، و أناقته المفرطة و رموشه الكثيفة ، سألني بأدب شديد إن كنت اعرف رقم الشقة التي يريد ، أجبت بمرح إنني اعرفها فهي فوق شقتنا التي بالدور السابع ، شكرني بلطف و توجه للمصعد ، و بغير تعمد مني صعدت أنا السلالم ، كنت أريد أن أناغي عصفوري الجديد أطول فترة ممكنة قبل أن يتجمع اخوتي الصغار حوله و يعابثوه فلا يتركوا لي وقتا اقضيه معه ، و رغم طول السلم و إرهاق الصعود عليه ، إلا أنني كنت سعيدة ، و كان قلبي يرقص …

في الدور الثالث كان ينتظرني ، تعجبت لرؤيته واقفا أمام السلم و أخبرته أن الشقة التي يقصدها مازالت في الدور الثامن ، اخبرني و هو يبتسم إنه يؤثر الصعود إليها بالسلم …

فصعدنا معا ..

في الدور الرابع كنت قد عرفت أنه جاء خاطبا لابنة الجيران …

في الدور الخامس عرف أنني لست مرتبطة و أنني احب الحياة و احب عصفوري الجديد ..

في الدور السادس عرفت انه كل ما قد تتمناه فتاة في زوج المستقبل …

و في الدور السابع كان يلهث متعبا و يسألني إن كان بوسعه أن يستريح لدينا و يشرب فنجان قهوة مع والدي ..

اخبرني انه يتفاءل بالرقم سبعة أكثر من الرقم ثمانية .. فتزوجنا …

في الشهر الأول بسط لي أجنحة حب لا مرئية فطرت بها في كل الاتجاهات ..

في الشهر الثاني حول الأجنحة إلى قدمين حافيتين تجولان كل الأمكنة بلا قيود فركلنا الرمال معا ..

و في الشهر الثالث حصر القدمين في حذاء الممنوعات و لم يعد يقول حبيبتي ..

في الشهر الرابع أيقظني من النوم بهزة عنيفة و ادعى أنني لا أعرف معنى المسئولية …

في الشهر الخامس صفعني لأول مرة ، بكيت ، ضمني إليه لأنني كنت حاملا …

في الشهر السادس لم يعد يحضر لي المجلات التي احبها ، قال أن الميزانية لا تسمح …

و في الشهر السابع مات العصفور الأحمر ، بكيت عليه ، صفع تفاهتي ، فقتلته …

و منذ ذلك الحين أعيش مع جثة …

و لم اعد ابكي …

تمت بحمد الله تعإلى

عودة إلى نساء عربيات

 

Email: farraj17@hotmail.com