الأضداد[1]
مسألة [اتفاق اللفظين واختلاف
المعنيين]
تقدم أن الأقسام أربعة : اختلاف اللفظين لاختلاف
المعنيين , وهو القياس الذي يجب أن تكون عليه الألفاظ , لأن بذلك تنفصل
المعاني ولا تلتبس , واختلاف اللفظين والمعنى واحد وهو الترادف , وعكسه <
411 > الاشتراك , وبقي قسم آخر أهمله الأصوليون , وهو اتفاق اللفظين
واختلاف المعنيين , وهو باب الأضداد .
قال أبو
محمد بن الخشاب في بعض مؤلفاته : الضد معناه : الملء , يقال : ضددت
الإناء أضده ضدا : إذا ملأته , فإن كل واحد من الضدين يشغله الحيز عن الآخر قد
ملئ دونه , قال : وقد صنف اللغويون فيها كتبا كالأصمعي وغيره , وأحسن من جاء
بعده أبو بكر بن محمد بن القاسم الأنباري , وممن أنكره أحمد بن يحيى بن ثعلب ,
ولم يوافقه الأكثرون على مذهبه .
قال الفارسي
: ولا خلاف في أن اللفظة الواحدة تقع للشيء وخلافه , كوجدت استعمل بمعنى
غضبت , وبمعنى حزنت , فإذا جاز ذلك جاز وقوعها للشيء وضده , لكون الضد ضربا
من الخلاف . انتهى . هكذا نسب ابن الخشاب الجواز للأكثرين .
وقال أبو
إسحاق الزجاج في كتاب " ((( إفساد الأضداد))) " : ذهب الخليل
وسيبويه وجميع النحويين الموثوق بعلمهم . والذي كان عليه شيخا البصريين
والكوفيين محمد بن يزيد المبرد وأحمد بن يحيى بن ثعلب دفع أن تكون العرب وضعت اسما
واحدا للشيء وضده إلا ما وضعت من أسماء الأجناس نحو " لون " فإنه
لمعنى ينطلق على السواد والبياض , وكذلك الفعل يطلق على القيام والقعود .
وقال أبو
الفتح بن جني : إن الأضداد واقعة في اللغة , لكن تتداخل اللغات لا أنها
اجتمعت على وضعها قبيلة واحدة في وقت واحد , بل قبائل ثم فشت اللغات , وتداخلت
بالملاقاة والمجاورة , فنقلت إلى كل لغة صاحبه .
وحاول بعضهم ما جاء من ذلك على التواطؤ , فيقول في
" الصريم " : إنما سمي الليل والنهار صريما لانصرام كل واحد منهما
عن صاحبه , والضوء < 412 > والظلمة إنما سميا " سدفة "
من قولك : أنا في سدفك أي مستتر بك , وهذا في الظلمة واضح , وفي الضوء لأنها
تقال في الظلمة التي يخالطها مقدمة ضوء . وتقول في مثل " الجلل "
: إنه العظيم بحق الإثبات وعلى الصغير بالسلب , كقولهم : ب , ونائم ,
وأعجمت الكتاب , ورجل مبطن أي خميص البطن , فعلى هذا القول يكون اجتماع الأضداد
في الشعر إيطاء .
وقال ابن
الحاج الإشبيلي تلميذ الشلوبين : الحق أن التضاد في اللغة موجود على ما
صورته من التداخل , ولعمري لقد كان يمكن دون تداخل , ولكن بتواضع واحد ,
ولكن بحسب قصدين أو وقتين وإنما المحال أن يقصد الواضع وضع لفظ لمعنيين ضدين أو
غيرين ملتبسا لذلك غير مبين له , فإن ذلك يقتضي وضع اللغة ويبطل حكمة المخاطبة
.
وقال ابن
سيده في " المخصص " : أما في اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين
فينبغي أن لا يكون قصدا في الوضع ولا أصلا , لكنه من تداخل اللغات , أو يكون
لفظه يستعمل لمعنى , ثم يستعار لشيء , فيكثر ويغلب فيصير بمنزلة الأصل .
قال الفارسي
: وكان أحد شيوخنا ينكر الأضداد التي حكاها أهل اللغة , وأن تكون لفظة
لشيء وضده , والقول في ذلك أنه لا يخلو إنكاره لذلك من حجة سماعا أو قياسا ,
فلا حجة له من جهة السماع , بل الحجة من هذه الجهة في المراد عليه , لأن أهل
اللغة كأبي زيد وغيره وأبي عبيدة والأصمعي ومن بعدهم قد حكوا ذلك وصنفوا فيه الكتب
, فإن قال : الحجة من الجهة الأخرى , وهي أن الضد بخلاف ضده , فإذا
اشتركتا في لفظة واحدة , ولم يخص كل واحد منها بلفظ يتميز به ألبس وأشكل ,
فصار الضد شكلا والشكل ضدا , وهذا إلباس . قيل له : هل يجوز عندك أن <
413 > يجيء في اللغة لفظان متفقان لمعنيين مختلفين ؟ فإن منع ذلك فقد منع
ما ثبت جوازه , وقول العلماء له فإذا لم يكن سبيل إلى منع هذا ثبت جواز اللفظة
الواحدة للشيء وخلافه , وإذا جاز وقوعها للشيء وخلافه جاز وقوعها للشيء وضده .
إذ الضد ضرب من الخلاف , وإن لم يكن خلاف ضدا .
قال : ويدل على جواز وقوع اللفظة الواحدة لمعنيين
مختلفين قوله تعالى في وصف أهل الجنة : { لم يدخلوها وهم يطمعون } فلا يكون
الطمع هذا إلا بمعنى اليقين , ولا يجوز أن يكون من الذي يطمع فيه , ويقع خلافه
, لأنه ليس في الآخرة شك , وكذا قوله تعالى حكاية عن إبراهيم : { والذي
أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } فهذا لا يكون إلا بمعنى العلم , لأن
إبراهيم لا يشك في المغفرة . انتهى .