Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

 

العودة إلى الصفحة الأولى

 

فقه اللغة (2)

د. سالم سليمان الخماش

جامعة الملك عبد العزيز بجدة / كلية الآداب

 

وسائل الاتصال غير الكلامية

برغم أن اللغة الصوتية هي الوسيلة الإنسانية الشائعة بين الأمم إلى حد أنه لم يثبت وجود شعب لا يستعمل اللغة الصوتية في الاتصال، إلا أن الإنسان يستخدم بجانب ذلك وسائل اتصالية غير كلامية، بعضها قد يصاحب الكلام وبعضها الآخر مستقل عنه.

(أ) الملابس والأزياء: وهي تستخدم للتعبير عن الأحوال النفسية كلبس الملابس البراقة والجديدة في الأعياد ومناسبات الزواج والفرح. وتُرتدى الملابس السوداء للتعبير عن الحزن على موت قريب أو صديق. وقد ترتدى ملابس خاصة في مناسبات دينية كارتداء الإزار والرداء في الحج. والملابس لها قيمة اجتماعية تنبيء عن انتماء الفرد إلى مجتمعه وتقاليده، وهي رمز للمحافظة، والتساهل فيها قد يكون مؤشرا للتمرد الاجتماعي. والملابس قد تنبئ عن وظيفة الفرد أو نوع نشاطه واهتماماته، فهناك ملابس خاصة للملوك والعسكر، وخدم المطاعم والفنادق، الأطباء والممرضين، وعمال الصيانة وغيرهم.

(ب) الرسوم والصور: لقد استخدم الإنسان الصور والرسم منذ عصور بعيدة جداً وقد وجدت على جدران الكهوف التي عاش فيها الإنسان القديم ودلت هذه الصور أنها لم تكن جمالية بحته وإنما كانت للاتصال وتبادل الرسائل مع أفراد جنسه. وفي عصرنا الحاضر أصبحت الصور لا غنى عنها في التعليم والإعلام. لذا يندر أن تخلو صحيفة أو مجلة منها. وأصبحت الصور التلفزيونية وخاصة الحية أقوى تعبيرا من الكلمة.

(جـ) الإشارات والإيماءات: قيل إن الإنسان يستطيع أن يصنع آلاف الإشارات عن طريق استعماله لكافة حواسه و أطرافة، حتى إن Paget ذهب إلى القول بأن اللغة الإنسانية بدأت بحركات إشارية ثم تطورت إلى صيحات تطورت إلى كلمات تصاحب تلك الحركات، ثم أصبح الإنسان بعد ذلك يعتمد على الصوت أكثر من الإشارات. واللغة الإشارية تبدأ منذ مراحل الطفولة الأولى، فصغير البشر يقرأ الغضب في وجه أبيه والاستحسان في وجه أمه قبل أن يفقه كلمة واحدة. والإشارة ضرورية لإيضاح الاتصال الكلامي. إن الكلمات المكتوبة لا تنقل إلا 7% من شعور الإنسان وموقفه، أما النطق فيرتفع فيه المردود إلى 38%، في حين أن تعبيرات الجسم تقفز بالرقم إلى 55%[1]. وقد وجد أولئك الذين حرموا نعمة السمع في اللغة الإشارية وسيلة تمكنهم من التعبير عن مشاعرهم وآرائهم. وقد أصبحت لغة الإشارة معترفا بها في كثير من دول العالم، يُنظر إليها على أنها اللغة الطبيعية الأم للأصم، بل لقد أصبح لدى المبدعين من الصم القدرة على إبداع قصائد شعرية ومقطوعات أدبية ، وترجمة الشعر الشفوي إلى هذه اللغة التي تعتمد على الإيقاع الحركي للجسد ولا سيما اليدين، فاليد وسيله رائعة للتعبير بالأصابع وتكويناتها، يمكنه أن يضحك ويبكي ، أن يفرح ويغضب ، كما يمكنه الغناء والتمثيل باليد ، بدلا من الغناء والتمثيل الكلامي ، وقد أطلق أحدهم شعار "عينان للسماع."[2]

(د) النار والدخان: استخدمت النار وسيلة للاتصال في المجتمعات القديمة، فالعربي يشعل النار ليبدي استعداده لاستقبال الضيوف، وقوة النار دليل على صدق كرم صاحبها وضعف النار أمارة على ضعف الجود والمروءة ، قال الشاعر يهجو:

قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم     قالوا لأمهم بولي على النار

 وقد استخدم اليونان النار وسيلة للاتصال السريع أثناء الحروب، حتى قيل إن أخبار سقوط طروادة نقلت من بلاد الأناضول إلى أثينا عن طريق إشعال سلاسل من النيران. والدخان أيضاً يستخدم إشارة لطلب النجدة أو للإعلام بمواقع التائهين في الجبال أو الغابات. ويستخدمه الهنود الحمر للاتصال.

(هـ) الطبول: يقال "دقت طبول الحرب" لأنها كانت تستخدم بعضهم استخدمها وسائل للإنذار من عدو داهم أو للدعوة لحشد الجنود والجيوش والناس للحرب والغزو. وتستخدم الطبول أيضا لإشهار الزواج والفرح. و فرق الموسيقى في الجيوش الحديثة تعطى إشارات معينة باستخدام الطبل وبعض الآلات المزمارية والنحاسية لتنفيذ تشكيلات معينة أثناء الاستعراضات العسكرية.

(و) البوق والصفارات والأجراس: يستخدم اليهود البوق للدعوة إلى صلواتهم، وتدق الكنائس أجراسها لدعوة أتباعها. والبوق أيضا أداة للإنذار قال تعالى (فإذا نفخ في الصور )، ونحن اليوم نستخدمه في السيارات لتنبيه المارة أو تنبيه قائدي السيارات الأخرى إلى تجاوزاتهم المرورية. والجيوش الحديثة تستخدم الأبواق لإصدار إشارات عسكرية تتعلق ببعض التشكيلات والتحركات الميدانية، ويذكر أن الجيش الأمريكي يستخدم 40 نوعاً من أصوات البوق كل منها له دلالة معينة. والصفارات أيضا تستخدم للاتصال عبر مسافات طويلة. ففي قرية Kusnoy كسنوي التركية يتبادل الناس الرسائل بواسطة الصفير بشكل ملفت للنظر، إلى درجة أنهم يتبادلون الشتائم والسباب في شكل أنواع من الصفير. وسكان  Gomeraغوميرا في جزر الكناري عرفوا بإسرافهم في استخدام الصفير وسيلة للاتصال بينهم عبر مسافة بعيدة. والصفارة يستخدمها العسس للإنذار والإشعار بوجودهم. ويستخدمها رجال المرور لتنظيم حركة السيارات في مناطق الاختناقات وتقاطع الشوارع. وحكام الرياضة ومدربوها يستخدمونها لتنظيم بداية الألعاب ونهايتها أو للتنبيه إلى الأخطاء التي يرتكبها المشاركون في هذه الألعاب.

(ز) أصوات غير لغوية: هذه الأصوات تستخدم لزجر الحيوانات أو حثها. منها مثلا: ده، جَه، لزجر الإبل، إسّ، هِسّ هج لزجر الغنم، وكخ لزجر الطفل. وقد تستخدم هذه الأصوات للتعبير عن الألم، مثل أح، أخ، أو الحزن والأسف أوّه آه ...الخ.

 

أنظمة الاتصال عند الحيوانات والحشرات

وسائل الاتصال عند الطيور:

تصدر الطيور أصواتاً مختلفة، منها ما تستخدمه لتحذير بعضها البعض، ومنها ما تعبر به عن مرحها ولعبها، وتصدر ذكور الطيور أصواتاً، تحذر بها غيرها من الذكور من الاقتراب من أعشاشها. كما تصدر أسراب الطيور أصواتاً معينة، عندما تهم بالهجرة، فيجتمع الآخرون لدى سماع تلك الأصوات للاستعداد للرحيل. أما العصافير، فهناك زقزقة النداء، التي يحدثها الذكر لاجتذاب الأنثى عند التزاوج، وزقزقة التحذير التي تحذر العصافير بها بعضها البعض، عند اقتراب الأعداء.

ومن أعجب أساليب التفاهم، هو أسلوب الحديث، بين الطائر الذي يسمى "الهادي إلى العسل"، والحيوان المعروف باسم "آكل العسل". فالأول منها يحب أكل يرقات النحل حين تكون كالدود، وآكل العسل مغرم بالعسل. فنرى الهادي إلى العسل، يطير مطوفاً في أنحاء الغابة، باحثاً عن شجرة فيها خلية نحل، ثم يرتد مسرعاً إلى "آكل العسل"، فيحوم فوق رأسه، صارخا: "سِرْ، سِرْ" ليقوم آكل العسل فيتبع أثر الطائر. ولما كان هذا الحيوان في حماية من جلده الكثيف الشعر، فلا يضره لسع النحل، فهو يهجم على الخلية، ويمزقها إرباً، ثم يجتمع هو والطائر على هذه المائدة الشهية .

وسائل الاتصال عند الحشرات:

لقد عكف العلماء، على دراسة ما وصفوه بلغة النحل، ولغة الحشرات، وكانت خلاصة مشاهداتهم، ورصدهم لها كالتالي:

لغة النحل

لما كان العمل الذي تؤديه النحلة محدوداً، ألا وهو صناعة العسل، وجمع المواد الأولية اللازمة له، وما يتبع ذلك من أعمال، فإنها لم تكن بحاجة في لغتها إلى ما يعبر عن أكثر من هذه المعاني، ولذلك فإن أهم ما يحتويه ما يمكن أن نسميه "قاموس لغة التفاهم" بين النحل، هو مفردات، تصلح للتشجيع على جلب الرحيق، والدلالة على مكان وجوده. وفيما عدا ذلك، فإن بقية الأعمال داخل الخلية، تتم بصورة آلية. أما إذا  ظهر عامل مفاجئ، كهجوم جسم غريب على الخلية، فتكفي الإشارة المعبرة عن ذلك. فالنحلة الجماعة للرحيق مثلاً، عندما تأتي إلى الخلية، وتفتح فمها، وتدلي لسانها على ذقنها، وتدفع نقطة الرحيق إلى قاعدة اللسان، بحيث تراها الشغالة، الصانعة للعسل؛ إنما تقف في وضع يغنيها عن الطلب من النحلات صانعة العسل، أن تأتي وتمتص الرحيق من فمها.

ولكن، كيف تكون اللغة بالنسبة للأمور التي هي أكثر تعقيداً؟ كالدلالة على بستان ممتلئ بالزهور، اكتشفته إحدى الشغالات؟ إن اللغة التي تستخدم هنا هي لغة الرقص، وهو نوعان:

أولاً : الرقص الدائري: إذا كانت المسافة التي تفصل مكان الرحيق، عن مكان الخلية لا تتجاوز خمسين مترا، فإن الشغالة تقف على أحد الأقراص الشمعية، وتقوم برقصات دائرية يميناً وشمالاً، ويراقبها باقي النحل، ثم يشاركها رقصاتها، ويدور معها حيث دارت، ثم يتجه الجميع مسرعين، لمغادرة الخلية والوصول إلى المكان الذي استمدت منه النحلة الأولى رحيقها. والشغالات يذهبن إلى المكان، وقد عرفنه جميعاً، دون أن يتبعن النحلة الأولى. والعجيب أن النحلة الراقصة لا تدل برقصها على المكان فحسب، بل إنها تعبر عن وفرة الرحيق، ومدى تركيز المواد السكرية فيه من خلال فترة الرقص، التي كلما ازدادت دل ذلك على زيادة كمية الرحيق، مما استدعى خروج عدد أوفر من الشغالات، يخرجن إلى ذلك النوع المحدد، ولا يضيعن الوقت في البحث بين الأنواع الأخرى.

ثانياً: الرقص الاهتزازي: عندما يكون مكان الرحيق أكثر من خمسين مترا، إلى 11 كم، تستخدم النحلة السارحة، الرقص الاهتزازي، وهو عبارة عن لفات تتناقص كلما بعدت المسافة، بحيث تكون سبع لفات عندما تكون المسافة 200 متر، وتكون 4.5 إذا كانت المسافة كيلومترا واحداً، بينما تكون لغتين إذا كانت المسافة 6 كم .

ولغة الرقص تحدد الاتجاه كذلك، فإذا كان رأس الشغالة إلى أعلى أثناء الرقص، فمعنى ذلك أن الرحيق في اتجاه الشمس، وإذا كان رأس الشغالة إلى أسفل فالاتجاه مضاد للشمس، وإذا كان مائلاً بزاوية 60ْ فمعنى ذلك أن الرحيق على زاوية 60ْ على يسار الشمس، وهكذا .

تعتمد الحشرات على حواس الشم، والرؤية، والسمع، في تفاهمها واتصالها، حسب البيئة والظروف التي تعيش فيها. فالجراد يعتمد على الرؤية أكثر من أي حاسة أخرى، بينما غيره من الحشرات يعتمد على السمع، أو الشم، ويعتبر الرعاش، من الحشرات التي تعتمد على الرؤية أكثر من أي حاسة أخرى، حتى أن البعض يطلق على الرعاشات، حشرات التجسس.

أمّا لغة الإشارات، والألوان، فهي شائعة في كثير من الحشرات، فمثلاً حشرة الصرصور المدغشقري العملاق، نجد الذكر منه يستخدم خمسة أنواع من الإشارات، للدلالة على العداء أو الصداقة أو التناسل، أو الجوع، أو العطش، وكل إشارة لها معناها الذي تفهمه بقية أفراد النوع. أما الفراشات، فتستخدم إناثها الألوان، وتوزيعها بطريقة معينة، حينما تلمحها الذكور تتجه إليها مباشرة. وتستخدم الحشرة النارية لغة الإضاءة، حيث تقبع الأنثى بين الأعشاب ليلاً، وترسل ومضات صوتية كل سبع وخمس ثوان، ويبادلها الذكر ومضات أخرى، ثم يتم اللقاء عقب ذلك، وكذلك الحال في الذبابة النارية .

وهناك اللغة الكيماوية، والتي تسمى في بعض الأحيان لغة الرائحة، وهي تعتمد على بث روائح معينة، أو فرز مواد معينة، أطلق عليها العلماء، اسم الفيرمونات، وهي شائعة بين النمل، والنحل، وعديد من الحشرات حرشفية الأجنحة، مثل الفراشات. وتستخدم الفيرمونات، ليتم التعارف بين الأنواع، حيث تنتشر الفيرمونات في الجو، أو على سطح الماء. وكل مستعمرة لها رائحة خاصة، وفي خلايا النحل، مثلاً، عندما يوجد عابر سبيل، أو جنود من مستعمرة أخرى، لها رائحة مختلفة، فإنهم يتعرضون للمقاومة الشرسة. كذلك عندما يقترب غريب من مستعمرة النحل، تلسعه إحدى الشغالات، ثم بعد فترة قصيرة، تنضم مجموعات أخرى من الشغالات، تشاركن في الهجوم عليه، وذلك لأن الشغالة الأولى، قامت بإفراز رائحة خاصة، دلت الأخريات على وجود غرباء وأنهن لابد أن يسارعن بالمشاركة في التصدي له .

وهناك لغة اللمس: حيث نجد كثيراً من الحشرات، مزودة بشعيرات خاصة تكتشف بها الظروف المحيطة بها، وحيوان الأرضة، يستخدم شعيرات اللمس، للتعرف على الأماكن، مثل إجراء بناء أماكن خاصة لها. ونجد الذكر في ذبابة الفاكهة، يتعرف على الأنثى عن طريق اللمس .

وسائل الاتصال عند الحيوان

أورد كثير من العلماء المتخصصين، في علوم الحيوان، صوراً من أساليب التفاهم بين الحيوانات والطيور، ونختار أمثلة لبيان تلك الأساليب التالية:

اللغة المرئية، وذلك بأن يأتي الحيوان بمجموعة حركات، لها معناها عند بقية الحيوانات من جنسه، كهز الذيل، وتحريك قرون الاستشعار. فمثلاً الفيلة، تُحيِّي بعضها البعض، عند لقائها في الغابة برفع الخرطوم إلى أعلى، وبعد التعارف وتجاذب أطراف الحديث يودع بعضهم بعضاً برفع إحدى الساقين الأماميتين، والانحناء إلى الأمام قليلاً، والخراف تلعب ،وتمرح، وتتفاهم، أثناء اللعب بهز أذيالها بحركات مختلفة، وكذلك الكلاب .

المحادثة الصامتة، أو اللغة الكيماوية، وذلك عن طريق إنتاج روائح خاصة وبثها في الهواء، فمثلاً. في حالة حيوان الأرضة، يقف الحراس عند باب مملكتهم، وعند دنو خطر ما من باب المستعمرة، يقوم هؤلاء الحراس، بإفراز مادة كيماوية، لها رائحة مميزة، فيقوم باقي الأفراد بالاستعداد للدفاع.

والذئب إذا زاد طعامه عن حاجته، دفن جزءاً منه في التراب، وخلف هناك شيئاً من رائحته، عالقاً بالمكان، فيفهم سائر الذئاب فحوى رسالته حق الفهم. والكلاب كذلك تدور بينها أحاديث لا تنقطع عن طريق الشم .

اللغة المسموعة، وذلك عن طريق موجات الصوت، التي تنتقل في الهواء، أو تحت الماء بين الأسماك، لتحذر بعضها البعض، عند حدوث الأخطار. فأسراب الأسماك في البحار والمحيطات، تقوم بإصدار تلك الأصوات، عن طريق مثانات هوائية، بداخل أجسامها، وتعمل هذه المثانات عمل الطبول. هذا إلى جانب حركات وإشارات، تعتمد عليها الأسماك خصوصاً في مواسم التزاوج.[3] والدلفين ينتج أنواعاً من النباح والصفير والطقطقه وأصوات فوق صوتية وتحت صوتية لا تستطيع الأذن الإنسانية سماعها.

والضفادع زودها الله بأكياس تحت ذقونها، تملؤها بالهواء، وعند مرور هذا الهواء، فإنه يصطدم بالحبال الصوتية، محدثاً "النقيق"، كأسلوب للتفاهم بين الضفادع.

وأمّا الحصان، فإن الأم تصدر صوتها، "الصهيل"، فنرى صغارها تسرع إليها على الفور.

والدببة كذلك، تتحدث فيما بينها، ونرى الدبة الأم عند دنو خطر ما، تأمر صغارها بالهرب، وتسلق الأشجار ليكونوا في مأمن من الأعداء، ثم إذا شعرت بالأمان، ضربت بكفها جذع الشجرة، فيسرع صغارها بالنزول. كما تصدر القردة أصواتاً متنوعة، ويجتمع أفرادها، يتجاذبون الحديث بهذه الأصوات .

هذا دفع عدداً من علماء النفس واللغة إلى محاولة تعليم اللغة الإنسانية لبعض الحيوانات وكان التركيز على الشمبانزي فقاموا بمحاولة تعليمة:

لقد حاولوا أن يعلموه ألفاظاً ينطقها لكن التقارير تقول إنه تعلم معاني عددا من الكلمات لكنه فشل في النطق بها لأن تركيب فكيه لا يسمح له بنطق أصوات إنسانية.

فعمدوا إلى تعليم قردة لغة الإشارة وذكر إنهم استطاعوا أن يعلموها ما يقارب مئة كلمة، وزعم أنها أصبحت تركب جملاً بسيطة من الإشارات، بل ذهبوا إلى القول بأنها اخترعت كلمات وإشارات من ذاتها.

وحاول آخرون أن يعلموا قردا كلمات عن طريق الأشكال ولاستبعاد عامل المحاكاة حاولوا أن لا تكون هناك علاقة محاكية بين الشكل والمعنى وزعموا أنه تعلم عدداً من الكلمات وأنتج عن طريقها عددا من التركيبات.

وقد شكك بعض العلماء) في هذه التجارب قائلين إنها تقوم لا تقوم بذلك طواعية بسبب التقليد أو الترغيب أو الرهبة.

الفرق بين اللغة الإنسانية ووسائل الاتصال عند الحيوان

ليس بين الحيوانات والحشرات من يظهر استخداما مقصودا وذكيا للرموز والإشارات كما نرى في النشاط اللغوي الإنساني. 

يقول كلاينبيرغ Klineberg إن الفرق الجوهري بين لغة الإنسان ووسائل الاتصال غير البشرية هو أن الحيوانات والحشرات لا تستطيع التعبير إلا عما هو حاضر وآني، لأنها تصدرها على أنها رد فعل لحالة انفعالية حاضرة ولا تفيد معان رمزية أو مجردة. لذا فالإنسان فريد في المملكة الحيوانية لامتلاكه لهذه الوسيلة التي استطاع بها أن يحرر نفسه من سجن الحاضر.

ويقول فندريس Vedryes: إن الحيوان لا يستخدم الصوت علامة لشئ آخر كما يستخدمه الإنسان، وإنما يستخدمه ردة فعل انعكاسية. وهناك فرق بين استخدام الصوت علامة وبين استخدامه ردة فعل لأن الأول يمكن التعبير به عن الأشياء في حال غيابها، وأما الثاني فتعبير مرتبط بالحاضر ويقابل حالات نفسية خاصة من فرح ورعب ورغبة.[4]

ويبين نوعام تشومسكي Noam Chomsky اللغوي والنحوي المشهور: إن هناك منطقة خاصة باللغة في مخ الإنسان وهي جزء من التركيبة الوراثية له، وهي كما يبدو وراء القدرة على استغلال مجموعة محدودة من القواعد لتأليف ما لنهاية له من الجمل، الأمر الذي لا نجده عند أي جنس من المخلوقات الأخرى. ويعتقد تشومسكي أن هذه الخاصية هي الأمر المهم عند المقارنة بين وسائل الاتصال عند الإنسان وتلك التي نجدها عند الحيوان.

 استخدام الصوت وسيلة للاتصال بدلاً من الإشارة وغيرها

يقول فخر الدين الرازي كان يمكن للناس أن يستعملوا غير الصوت للتعبير، كالحركات المخصوصة بأعضاء الجسم، ولكنهم وجدوا الأصوات المتقطعة أولى من غيرها لوجوه:

1- إدخال الصوت إلى الوجود أسهل من إدخال غيره لأنه يتولد في كيفية مخصوصة قي إخراج النفس وذلك أمر ضروري فصرف ذلك الضروري إلى وجه ينتفع به أولى من تكلف طريق آخر قد يشق على الإنسان الإتيان به.

2- الصوت كما يدخل في الوجود بسهولة بنقضي بمجرد استعماله وأما سائر الأمور الأخرى فإنها قد تبقى، وربما يطلع عليها من لا يراد إطلاعه عليها.

3- الصوت قابل للإشارة إلى المعدوم والغائب وغير المرئي وأما الإشارة فإنها قاصرة عن ذلك.

4- الصوت يمكن الإشارة به إلى المعاني المتعددة المرتبطة بشيء واحد، فيمكن الإشارة إلى لون التفاحة أو طعمها بينما يتعذر ذلك بالإشارة.

4- الصوت يمكن استعماله في الظلام ومن وراء حجاب بينما الإشارة لا يمكن استخدامها إلا مع وجود النور وإمكان الرؤية.

ويمكننا أن نضيف إلى ما تقدم بأن الإنسان القديم كان مهدداً بأنواع من المهالك والأخطار من حيوانات وحشرات التي كان أكثرها تدب في الليالي الحوالك وكان يحتاج إلى وسيله اتصال تمكنه من طلب النجدة والعون فلو كان لا يستخدم الصوت وهو في أمس الحاجة إلى الاتصال لانقرض النوع الإنساني منذ زمن بعيد، أي إن امتلاك اللغة الصوتية كان أحد أسباب استمراره وبقائه.

تعريف اللغة:

ابن جني: عُرف العرب في علومهم باهتمامهم بالتعريف والحد ولكننا لا نجد تعريفا للغة قبل القرن الرابع الهجري عندما عرفها ابن جني في خصائصه قائلا: هي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم .

وذكر أنها أصلها لغوة ككرة وقلة وثُبَة كلها لاماتها واوات لقولهم كروت بالكرة وقلوت بالقلة، وقيل منها لغِي يلغي اذا هذي ومصدره اللغا. وكذلك اللغو قال تعالى (وإذا مروا باللغو مروا كراما) أي بالباطل وفي الحديث من قال في الجمعة صه فقد لغا أي تكلم.

وعرفها ابن خلدون في مقدمته: " اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصودة."

وابن الحاجب: كل لفظ وضع لمعنى. وابن الحاجب هنا يساوي اللغة بمفردات اللغة.

وقد حاول تعريف اللغة مئات العلماء من اجتماعيين وفلاسفة ولغويين، ومن أفضل تعريفاتها تلك التي قدمها:

فندريس Vedryes: إن أعم  تعريف للغة هي "أنها نظام من العلامات." هذا التعريف يخرج الأصوات التي ينتجها الحيوان لأن الفارق بين لغة الإنسان والحيوان أن الحيوان لا يستخدم الصوت علامة، ولكن هذا تعريف عام لأنه ليس كل نظام من العلامات يعتبر لغة. فالإشارات المرورية الضوئية نظام ولكنها ليست بلغة، وكذلك الإشارات الموسيقية وما أشبهها، وقد أغفل من التعريف أهم سمات اللغة وهي مادتها الصوتية.

سابير Sapir: أنثربولوجي ولغوي معروف، وضع تعريفاً للغة على النحو التالي: "اللغة وسيلة إنسانية محضة وغير غريزية لإيصال الأفكار والعواطف والرغبات عن طريق نظام من الإشارات المقصودة". يخرج هذا التعريف أصوات الحيوانات والأصوات غير الكلامية التي يصدرها الإنسان، كالبكاء والسعال و"آه" و "أوّه" و"أف" وغيرها لأنها ليست أجزاء من نظام وبعضها غير مقصودة مثل الضحك والبكاء والسعال.

كاتز Katz: اللغة: "وسيلة للاتصال ذات عناصر مركبة نحوياً وموجدة صوتياً لنقل رسائل مفيدة من متكلم إلى آخر." هذا التعريف يأخذ في الاعتبار النظريات والآراء التي أصبحت متداولة في هذا الحقل وخاصة نظريات دي سوسير. فقد ميز أمرين مهمين في اللغة (1) النظام اللغوي وهو القواعد النحوية والصرفية والمعجمية الفطري منها والمكتسب المخزونة بالذاكرة، (2) استعمال هذه القواعد وهذا النظام لإنتاج رسائل مسموعة .


 

سمات وخصائص اللغة الإنسانية

للغة الإنسانية خصائص وسمات تميزها عن غيرها من وسائل الاتصال سواء الإنسانية الأخرى أو الحيوانية، وقد ذكر علماء اللغة منها:

1- الاصطلاحية: وتعني عدم وجود علاقة مفروضة بين الكلمة ومعناها. ربما يكون هناك محاكاة صوتية في بعض الكلمات ولكنها ليست إجبارية ولا نستفيد المعنى بناء على تلك المحاكاة. إن اللغة لها الحرية في وضع أي لفظ لأي معنى بشرط أن يصطلح عليه أهل اللغة. وهذه الخاصية لها تأثير كبير في إثراء اللغة ومرونتها ولو كانت علاقة المحاكاة مشروطة لأصبح الإنسان مقيداً واللغة مكبلة ولعجزنا عن وضع كلمات محاكية لمعان كثيرة. ولغة الحيوانات ليست اصطلاحية لأنها تولد وهي مزودة بنظام اتصال غريزي. لذا نظامها جامد وهذا يترتب عليه صغر النظام وجموده.

2- الازدواجية : (تعدد المستويات) نظام الاتصال عند الإنسان مكون من عدد من المستويات:

(أ) المستوى الأول، وهو المستوى الصوتي (في العربية 28 حرفا، و3 حركات قصيرة، و 3 حركات طويلة، ليصبح المجموع 34 صوتا.

(ب) المستوى الثاني وهو المستوى المعجمي والصرفي وهو الذي نستطيع به إيجاد مئات الآلاف من الكلمات المركبة من عناصر المستوى الأول.

(ج) المستوى الثالث، وهو المستوى النحوي، الذي يمكننا عن طريق استخدام عناصر المستوى السابق ووفق قواعد معينة إنتاج ما لانهاية له من العلامات في شكل جمل.

3- الإنتاجية: وهي أوضح سمات اللغة الإنسانية. هذه الخاصية هي التي تجعل الإنسان قادرا، بواسطة قواعد محدودة ومخزون ضخم من العلامات، على إنتاج عدد غير محدود من الجمل و فهم عدد لانهائي منها حتى وإن لم يكن قد سمعها من قبل. بينما الحيوان لا ينتج من الرسائل إلا ما هو موجود في نظامه الاتصالي. هذه الميزة جعلت اللغة الإنسانية متكيفة مع الظروف والأحوال، بعكس الحيوان فنظامه مغلق جامد غير متكيف ومما يثبت ذلك التجربة التي قام بها فريش الذي كان معجبا بنظام الاتصال عند النحل، ولكن تجربة معينة قام بها جعلته يكتشف أن نظام الاتصال عند النحل نظام لا يتمتع بالإنتاجية والابتكار ولا يستطيع التكيف مع الظروف والمتغيرات.

لقد قام الألماني  Frischفريش بوضع خلية نحل تحت برج للاتصالات وأخذ من هذه الخلية عشر نحلات أطلعها على رحيق وضعه في أعلى البرج ثم أطلقها لتعود تخبر بقية الخلية عن جهة الغذاء وبعد مسافته. عادت النحلات إلى الخلية. بعد ذلك رأى عجباً لقد انطلق النحل من الخلية وأصبح يدور حول البرج مدة أربع ساعات ولم تصعد نحلة واحدة إلى الرحيق فأستغرب ذلك ووصل به تحليله إلى أن نظام الاتصال عند النحل نظام جامد غير متكيف مع الأحوال، لأن هذا النظام ليس به علامات تشير إلى "فوق" و"تحت." فعجز أن يتخطى هذه العقبة ويطور هذا النظام كما يصنع الإنسان.

4- إمكانية الإشارة إلى البعيد: استخدام الإنسان للصوت علامة مكنه من الخروج من سجن الحاضر فأصبح يستطيع أن يشير إلى البعيد زمانا أو مكانا. فهو قادر على الإشارة إلى أشياء تبعد عنه آلاف الأميال كبرج أيفل ، سور الصين، الأهرام ، ومرتفعات الهملايا ...الخ، وأن يتحدث عن أمور حدثت منذ قرون كمعركة ذي قار وبدر وحطين وهي بعيدة زماناً ومكاناً. أما الحيوان فهو مسجون في الحاضر لا يستطيع التعبير إلا عما هو آني وواقع.

5- إمكانية المراجعة: بإمكان الإنسان أن يؤلف كلاماً من عنده وأن يراجع ويتفقد درجات وضوحه أو غموضه ويدقق فيها وأن يعدل فيه ويحسن من صورته وجماله بعكس الحيوان الذي لا يستطيع أن يفكر في رسائله الاتصالية لأنها جاهزة سلفا وجامدة وغير قابلة للتغيير.

6- التعبير عن اللاحسي، أي المجرد والمعنوي والوهمي والغيبي. فهناك كلمات تدل على الجنس لا الفرد مثل أسد، بقرة، كرسي، وهناك كلمات تدل على أمور معنوية نحو الصدق والكرم، وأخرى تدل على أمور غيبية كالملائكة والجنة وجهنم، أو وهمية نحو الرخ والغول وعروس البحر والسعلاة.

7- التوريث الثقافي لا التوريث النوعي : نحن نعلم صغارنا اللغة عن طريق التلقين والاحتكاك، وإن لم يعيشوا بيننا وعاشوا في مجتمعات لغوية أخرى نجدهم يتعلمون لغة تلك المجتمعات. هذا هو التوريث الثقافي. أما التوريث النوعي فهو ما نلمسه عند الحيوان، فصغاره تولد وهي مزودة بنظام الاتصال عند نوعها.

 

اللغة والكلام

يفرق علماء اللغة المحدثون بين طبيعتين للغة الإنسانية هما: اللغة (النظام اللغوي) language والكلام  .speechويعود الفضل في هذا التفريق بينهما إلى عالم اللغة السويسري دي سوسير ، الذي يقول للغة وجهان (أي وجهان لعملة واحدة ): هما 1- اللغة (النظام اللغوي) 2-الكلام، وبين الاثنين فروق:

 

اللغة (النظام اللغوي)

الكلام

1- نظام من الإشارات مخزون في الذاكرة .

1- استخدام تلك الإشارات لفهم رسالة أو لإنتاجها بواسطة شخص معين في مكان وزمان معينين.

2- اللغة موجودة في حالة من الإمكان أي وجود بالقوة لأنها غير متحققة على الواقع وإذا تحققت أصبحت كلاماً. والمخزون في الذاكرة هو انطباعات الأصوات الناتجة عن حركة أعضاء النطق أو اهتزاز طبلة الأذن. بالإضافة إلى قدرات فطرية وقواعد صرفية ونحوية ومخزون من المفردات.

2- الكلام إيجاد بالفعل.

3- اللغة تسمو فوق الفرد، إنها ملك للمجتمع الذي اختار هذا النظام للتفاهم بين أفراده. ولا يمكن أن تكون أداة اتصال إلا إذا كان يمتلكها جميع أفراد المجتمع الكلامي.

3- الكلام استخدام اللغة من قبل شخص معين، أي إنه فعل فردي.

4-اللغة يتلقاها الفرد بشكل سلبي منذ صغره وحتى شيخوخته ولا يملك من أمرها شيئاً ولا يستطيع أن يغير فيها شيئاً.

4- الفرد سيد كلامه، له الحق في الكلام أو السكوت. له الخيار في استخدام أساليب بلاغية في حدود قواعد اللغة وله الحق في تأليف الكلام حسب المقام ومقتضى الحال. ويمكنه الجهر بكلامه أو الهمس به. 

5- اللغة ثابتة ذات طبيعة جامدة لأنها قواعد محفوظة في الذاكرة بحسب طبيعتها العقلية السيكولوجية.

5- الكلام ذو طبيعة متلاشية فبمجرد انتهائك لفظ عبارة ما ينتهي الكلام بحكم طبيعته الفيزيائية غير الباقية.

6- اللغة ذات طبيعة سيكولوجية نفسية لأنها قواعد مخزونه في الذاكرة.

6- الكلام ذو طبيعة سيكولوجية (نفسية) لأنه علامات مرتبطة بمعان معينة، وذو طبيعة فيزيائية (طبيعية) لأنه صوت يستقبل بالحواس السمعية وله موجات يمكن أن تقاس.

 

الكفاية والأداء

 فرق تشومسكي اعتماداً على آراء دي سوسير في اللغة والكلام بين نوعين من القدرات اللغوية، هما الكفاية competence و الأداء performance والفرق بين تصوري الرجلين هو أن دي سوسير يرى الكفاية اللغوية مخزونة في العقل الجمعي وأما تشومسكي فيرى أنها مخزونة في عقل الفرد.

 

المقدرة اللغوية ( الكفاية )

الأداء اللغوي

الكفاية هي القواعد التي يمتلكها الشخص عن لغته وهي إما (1) قوالب وقدرات فطرية يولد الشخص مزودا بها أو (2) قواعد صوتية ونحوية اكتسبها من خلال احتكاكه بأفراد مجتمع كلامي معين.

استخدام القدرة اللغوية في موقف معين بواسطة متكلم معين. والأداء يتأثر بالظروف المصاحبة للكلام كالتعب والضوضاء والدواعي الأسلوبية والجمالية للكلام.

 

 

الفرق بين الجملة  والتعبير

التفريق بين الكفاية والأداء يؤدي إلى التمييز بين الجملة sentence المرتبطة بقواعد الكفاية و التعبير utterance  المتعلق بالأداء.

 

الجملة

التعبير

1) هي هيآت مجردة وقواعد مخزونه في الذاكرة.

2) جزء من النظام اللغوي

3) بعض الجمل قد لا يتحقق كتعبير مقبول نحو: "دارك تحترق مع أني لا أعتقد ذلك."

4) الجملة غير مرتبطة بزمن معين أو مكان أو ظرف محدد.

1- حدث كلامي معين.

 

2-جزء من الأداء.

3-التعبيرات المقبولة لا يعني بالضرورة أنها تحقق كامل للجمل النحوية الصحيحة.

4-مرتبط بزمان معين وشخص معين.

 

وظائف اللغة

ليس للغة وظيفة واحدة، فهناك وظائف كثيرة بعضها يمكن تمييزه وكثير ربما يكون غامضا، تبعا للقصد من الكلام والظروف التي قيل فيها. وهذه الوظائف ربما تكون أكثر وضوحاً عندما نربطها بكيفية نقل الرسالة من متكلم إلى آخر. فعند أي محادثة يوجد هناك دائماً عدد من العناصر المؤلفة لظروف الكلام .

1- المتكلم: وهو المرسل

2- المخاطب: وهو المتلقي وقد يكون معينا أو غير معين.

3- قناة: متخيلة أو حقيقية.

4- رسالة : ترسل عبر القناة وهذه الرسالة تحمل موضوعاً.

5- موضوع: تحمله الرسالة.

 

ووظائف اللغة ترتبط بهذه العناصر وتختلف باختلافها وقوة التركيز على أيّ منها دون الأخريات.

1-الوظيفة التعبيرية: هي استخدام اللغة للتعبير عن مشاعر المتكلم وعواطفه ومواقفه من الآخرين والحالات الراهنة. ويكون التركيز فيها على المرسل. تتميز اللغة هنا: (1) بالتعبير عن المشاعر والاعتماد على الكلمات التقييمية مثل: هذا أمر قبيح (القبح أمر نسبي)، فلان خائن، هو شهم. (2) استخدام الكلمات الإيحائية، مثلاً: وجب جهاد العدو الصهيوني. وقام مجموعة من المجاهدين الفلسطينيين باقتحام مركز للعدو الصهيوني في عملية استشهادية. فالكلمات التي تحتها خط تنبيء عن موقف المتكلم لقيمتها الإيحائية، ولكن لو قيل قام مجموعة من الشبان الفلسطينيين باقتحام مركز إسرائيلي في عملية هجومية فإن  هذه الجملة غير تعبيرية لأنها تخلو من التعبيرات التي توحي بموقف المتكلم.

وتستخدم الوظيفة التعبيرية في مواقف معينة مثل الشجب والاستنكار والاعتذار والشكر والمدح والتعزية والتعجب.

2- الوظيفة العملية: هي استخدم اللغة مقام الفعل، وهذا يظهر في عبارات إمضاء العقود والمعاملات والزواج والطلاق وإصدار الأحكام والتسمية. نحو قولك: زوجتك بنتي فلانة، أو: وهبتك هذه الدار، وأنت طالق. فهذه العبارات تقوم مقام الفعل ويترتب عليها أمور قضائية ودينية واحتماعية.

3- الوظيفة الاجتماعية: هي التي يراد منها فتح قنوات الاتصال بين الناس وتوثيق الصلات بينهم. هذه الوظيفة ليس الهدف منها نقل المعلومة بالدرجة الأولى بل توثيق الروابط الاجتماعية، فالإنسان مخلوق اجتماعي بطبعة يكره الصمت ويفضل التواصل، لذلك لا بد أن يستخدم هذه الوسيلة لتحقيق ذلك. وهذا يتأتى من خلال ثلاثة أمور:

1- فتح قنوات الاتصال بينه وبين الآخرين، ويكون ذلك عن طريق: (أ) عدد من أساليب التحية (ب) السؤال عن الطقس والأحوال المعيشية، (جـ) الكلام عن الظرف أو الحال الراهنة التي يوجد فيها مع غيره.

2- المحافظة على سلامة القناة الاجتماعية عن طريق تشجيع المتكلم على الحديث أو حثه على الاستماع.

3- إغلاق قناة الاتصال بطريقة مقبولة اجتماعياً مثل "سلم لي على والدك" أو "هل توصينا بخدمة،" أو "أستأذنك الآن،" "مع السلامة".

4- الوظيفة الإعلامية: وهي استخدام اللغة لنقل الحقائق ووصف الوقائع بطريقة موضوعية مجردة عن الرأي الشخصي والانفعالي للمتكلم، في مثل قولنا: (قام مجموعة من الشبان الفلسطينيين بمرمي مجموعة من الجنود الإسرائليين بالحجارة) فهذه الجملة يغلب عليها الطابع الموضوعي الحيادي. وكثيرا ما تبرز هذه الوظيفة في الأخبار الصحفية وفي الشهادات القضائية. وتظهر أيضا في اللغة الإرشادية ولغة العلوم والتاريخ والقانون.

5- الوظيفة الجمالية: تتضح هذه الوظيفة في الفنون الأدبية كالشعر والقصة والمسرحية. ففي هذه الفنون يكون الاحتفاء بشكل الرسالة وجمالها أكثر بروزا من موضوعها. ففي القصيدة مثلا يكون الاهتمام بالوزن والقافية والصور الشعرية والمحسنات البديعية إلى درجة قد تؤدي إلى التساهل في النواحي النحوية والصرفية.

6- الوظيفة التوجيهية (التأثيرية): هي استخدام اللغة للتأثير في سلوك الآخرين ومواقفهم وآرائهم. ومن أبسط مظاهر الوظيفة التوجيهية: الأمر والنهي والإغراء والتحضيض.

ولكن هناك طرق معقدة للتأثير نراها في الخطب الدينية والسياسية، وفي الدعاية والإعلان، حيث تستخدم جماليات اللغة وتستغل العواطف والغرائز للتأثير في المتلقين. وقد أصبح الإعلان صناعة معقدة تتظافر فيها جهود كثير من علماء الاجتماع والنفس واللغة لصنع إعلان واحد، انظر استخدام اللغة والأحوال النفسية في الأمثلة التالية:"نيسان على كل لسان"، وإعلان تويوتا: "معنا للحياة معنى،" و "ضماني في أماني"

 

بداية اللغة

التجارب الملكية:

لقد شغلت لغز بداية اللغة عقول المفكرين واللغويين وحتى الملوك والسلاطين، الذين حاولوا الوصول إلى جواب شاف لهذا السؤال المحير بسلوك أسهل الطرق في نظرهم فقاموا، بما خولوا من سلطان، بالقيام بتجارب غير إنسانية على الأطفال لمعرفة أي اللغات كانت هي الأصل. وهذه التجارب اصطلح عليها فيما بعد بالتجارب الملكية.

1- تجربة الملك الفرعوني Psammetichus (بيسماتيكوس): يروي المؤرخ اليوناني Herodotus هيرودوتس أن بيسماتيكوس أمر بعزل مجموعة من الأطفال حديثي الولادة في مكان بعيد عن العمران وأن لا يسمح لهم بالاختلاط بأي شخص وأن تمنع عنهم جميع الأصوات، وكان هدفه أن يعرف بأي لغة سيتكلم هؤلاء الأطفال وهل بوسعهم أن يتكلموا من ذات أنفسهم بهذه اللغة. ويقول الذين رووا التجربة أن الأطفال قد بدءوا الكلام وكانت الكلمة الأولى التي لفظوها هي bekos وقد كان الملك يتوقع أن يبدءوا الكلام باللغة الفرعونية ولكنه فوجئ بنطق كلمة غريبة، فسأل عن أصلها فأخبر بأنها فريجية، وهي لغة كانت منتشرة في بلاد الأناضول وأنها تعني "الخبز،" فاعتبر الملك أن الفريجية هي أصل اللغات كلها. لكننا لا نثق بهذه التجربة لأننا لا ندري هل عزل الأطفال تماماً وهل فعلا نطقوا كلمة bekos ، أو أن الأمر كان مجرد توهم، كذلك هناك احتمال أن الأطفال بدءوا لغة جديدة لا تشبه لغة سابقة وكان من مفرداتها هذه الكلمة التي ربما أشبهت بصورة أو بأخرى الفريجية ولكن هذا لا يعني أنهم نطقوها على أنها جزء من اللغة الفريجية.

2-تجربة فريدريك الثاني Frederick II في مطلع القرن الثاني عشر: في الواقع نحن لا ندري هل سمع عن التجربة الماضية أم لا، ولكن على أي حال أمر هذا الملك بعزل مجموعة من الأطفال في مكان بعيد ومنع المربين من محادثتهم ليرى هل سيتكلمون من ذات أنفسهم وبأي لغة سيتكلمون، ولكن هذه التجربة باءت بالفشل الذريع لأن الأطفال ماتوا قبل أن ينبسوا بكلمة .

3- تجربة جيمس الرابع James IV of Scotland: ملك اسكتلندا في القرن السادس عشر الميلادي (1473-1513) الذي أمر بعزل مجموعة من الأطفال ليعرف هل سيبدءون الكلام باللغة من ذات أنفسهم، وما هي تلك اللغة. وقد ادعى في نهاية التجربة أن هؤلاء الأطفال بدءوا الكلام فطرياً بلغة عبرية فصيحة. ولا شك أن هذه النتيجة كانت ملفقة لأنها بواعثها كانت أفكارا دينية مبيته، فهذا الملك أراد أن يثبت المقولة المسيحية التي تزعم بأن العبرية هي أم اللغات وهي لغة آدم ولغة أهل الجنة.

الحالات الموثقة

إن أقوى دليل للرد على مزاعم التجارب الملكية هو دراسة الحالات الحقيقية لأطفال وجدوا معزولين وحرموا من الاحتكاك بالبشر أو سماع لغاتهم، وقد بلغ عدد حالات الأطفال المتوحشين الذين حضنتهم الحيوانات 36 حالة لم يوجد بينها من يتكلم لغة إنسانية. ومن هذه الحالات الموثقة حالة:

1- فيكتور Victor الفرنسي: وُجد هذا الفتى في إحدى غابات فرنسا يعيش بين الحيوانات، وعند القبض عليه وجد أنه لا يمتلك أي لغة. وكان عمره 12 سنة، وأدخل مدرسة للصم مع أنه لم يكن أصما. وسماه الذين تعهدوا حضانته (فيكتور). وقد عُهد به إلى طبيب فرنسي Itard ليعلمه اللغة ولم يستطع أن يتعلم إلا جملا قليلة مختلة التراكيب. وبعد محاولات كثيرة  أعلن هذا الطبيب فشله، وتنصل من هذه المسؤولية، وتركة عند خادمته حتى مات.

2- الطفلة الأمريكية جيني Genie: وهي فتاة حبسها أبوها بعيداً عن الناس ولم تختلط بأحد من البشر حتى وصل عمرها 13سنة. وقد وصل خبرها إلى السلطات الأمريكية التي حجرتها من عزلتها. ووجد أنها لا تتكلم أي لغة. وقد وجد علماء اللغة والنفس فرصة لفحص الأفكار والنظريات اللغوية السائدة، وقد حاول كثيرون أن يعلموها اللغة الإنجليزية ولكنهم لم يستطيعوا أن يعلموها إلا ألفاظاً قليلة ولم تستطع أن تتقن تراكيب الجمل بشكل طبيعي. وقد تنقلت بين العلماء وبيوت الرعاية، وفي النهاية انقطعت أخبارها ولم تعد محط اهتمام الباحثين.

3- طفل صحراء حلوان: هذا غلام عثر عليه في صحراء حلوان بين قطيع من الغزلان، وسمع بعد أن قبض عليه يصيح بأصوات غير مفهومه. وقد ذكر إبراهيم أنيس أنه زاره في أحد الملاجئ بعد شهور من العثور عليه وظهر له أنه يتكلم بكلمات متقطعة غير مفهومة استمدها ولا شك ممن حوله، وكان يتعثر في النطق بها كأنه طفل في السنة الثانية من عمره.[5]

4- طفلا كوبنهاجن: يروي يسبيرسون أن طفلين نشأا في كوبنهاجن توأمين مع أمهما التي أهملتهما بشكل شائن، فشبا منعزلين عن الناس زمنا ما. ثم كان أن مرضت الأم وأودعت المستشفى تاركة طفليها في رعاية عمة لهما صماء بكماء. وقد سُمع هذا الطفلان يتكلمان لغة غريبة، وقد سمع يسبيرسون هذه اللغة ودرس مفرداتها ووجد أنها تتصل بلغة البيئة غير أنها كانت ممسوخة حذف منها أصوات وعوض عنها بأخرى، كما وجد أن بعض كلماتها مما يمكن أن يُعد صدى لأصوات الطبيعة.

القيمة العلمية لدراسة الحالات الموثقة:

قيمة هذه الحالات الموثقة هي أنها:

1- تبطل دعاوى التجارب الملكية لأن هؤلاء الأطفال في الحالات السابقة، رقم 1، 2، 3، وجدوا لا يمتلكون لغة إنسانية. وهذا يبدو عائد إلى كون الطفل وحيدا في كل من هذه الحالات فلم يكن هناك حاجة إلى إنتاج لغة.

2- أيدت هذه الحالات الرأي القائل بأن هناك فترة حرجة لتعلم اللغة التي إن تجاوزها الفرد وهو لم يتعلم لغة إنسانية خملت قدراته الفطرية اللغوية ولم يعد قادرا على إتقان اللغة.

3- يمكن القول بأن الحالة الرابعة، التي لم يكن الأطفال وحيدين، تعضد الرأي القائل بأن الأطفال المعزولين قادرون على إنتاج لغة جديدة تتمثل فيها خصائص اللغة الإنسانية لأنه قيل إن الطفلين كان يستخدمان كلمات محاكية.

 

نظريات بداية اللغة

كما قلنا من قبل إن موضوع أصل اللغة قد أرق كثيرا من المفكرين والفلاسفة ورجال الدين. فتعددت الآراء والنظريات حوله معتمدين تارة على النصوص الدينية وتارة على الحجج العقلية وأحيانا على ضروب من الحدس والتخمين. وقد ميز المطلعون على نتاج هذا الجدال ثلاث نظريات رئيسية: هي (1) نظرية الأصل الإلهي (2) النظرية الاصطلاحية، (3) النظرية الطبيعية. ونظريات أخرى حاولت الجمع بين اثنتين منهما.

1- نظرية الأصل الإلهي (التوقيفية)

(أ) عند المسلمين وقد اصطلح عليها بالنظرية التوقيفية ومن أشهر الذين قالوا بها من علماء اللغة بن فارس وأبو علي الفارسي ومن علماء الأصول والكلام الأشعري وابن فورك وابن حزم وقد احتجوا لذلك بحجج نقلية وعقلية:

الحجج النقلية (من القرآن الكريم):

1- قوله تعالى (وعلم آدم الأسماء كلها) دل هذا على أن الأسماء توقيفية وإذا ثبت ذلك في الأسماء ثبت أيضاً في الأفعال والحروف إذ لا قائل بالفرق ، وأيضاً الاسم إنما سمي اسماً لكونه علامة على مسماه والأفعال والحروف كذلك وتخصيص الاسم ببعض أنواع الكلام اصطلاح للنحاة.[6] وقد رد ابن جني على هذا بقوله: إن معنى (علم) لا يعني بالضرورة علمه الألفاظ والأسماء بل إنه وضع فيه قدرة تساعده على وضع الأسماء والتفاهم بها.

2- قوله تعالى ( إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباءكم ما أنزل الله بها من سلطان)، لقد ذم الله في هذه الآية قوماً على تسميتهم بعض الأشياء ببعض الأسماء بدون توقيف[7] فلو لم تكن اللغة توقيفية لما صح هذا الذم. ورُد هذا الاستدلال بأن المراد ما اخترعوه من الأسماء للأصنام من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ووجه الذم مخالفة ذلك لما شرعه الله.

3- قوله تعالى (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم) حيث جعل اختلاف اللغات من آياته. والمراد  هنا اختلاف اللغات لا اختلافات الجوارح التي لا يستغرب الاختلاف فيها لأن الاختلاف في اللغات أبلغ وأجمل.[8] وأجيب عن هذا الاستدلال بأن المراد التوقيف عليها بعد الوضع وإقرار الخلق على وضعها.

الحجج العقلية :

1- لو كانت اللغات اصطلاحية لاحتيج في التخاطب بوضعها إلى اصطلاح آخر من لغة أو كتابة، وهذه تحتاج إلى اصطلاح سابق، ويلزم من هذا الدور التسلسل وهو محال فلا بد من الانتهاء إلى التوقيف.

2- لو كانت اللغة اصطلاحية لجاز التغيير فيها لأنه لا حجر على الناس فيما اصطلحوا عليه وهذا غير جائز لأنه مؤدٍ إلى تبديل في اللغة وهذا بدوره مؤد إلى تغيير في الشرائع لأن معاني نصوصها قد تتغير بتغير الاصطلاح. نقول إن الواقع ينقض هذا الآن فاللغة تتغير ولكننا لا نشعر بهذا التغيير إلا بعد مئات السنين، وهذا واضح من وجود اللهجات المختلفة التي ظهرت بسبب تغيرات في النحو والأصوات والدلالة، والعربية الفصحى تطورت من لغة قديمة هي السامية القديمة وقبلها كان هناك لغة قديمة تجمع اللغات السامية الحامية.

(ب) عند أهل الكتاب:

كثير من علماء اليهود والنصارى يقولون بالأصل الإلهي للغة مستدلين أيضا بأدلة نقلية وعقلية:

أدلة نقلية: استدلوا بما ورد في التوراة في سفر التكوين، فصل 2، فقرة -19-20 (وَكَانَ الرَّبُّ الإِلَهُ قَدْ جَلَبَ مِنَ التُّرَابِ كُلَّ وُحُوشِ الْبَرِّيَّةِ وَطُيُورِ الْفَضَاءِ وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ لِيَرَى بِأَيِّ أَسْمَاءٍ يَدْعُوهَا، فَصَارَ كُلُّ اسْمٍ أَطْلَقَهُ آدَمُ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ حَيٍّ اسْماً لَهُ. وَهَكَذَا أَطْلَقَ آدَمُ أَسْمَاءً عَلَى كُلِّ الطُّيُورِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْبَهَائِمِ). وهذا النص لا يقوم دليلا على ما الأصل الإلهي لأنه يقول إن آدم هو الذي وضع الأسماء.

أدلة عقلية: كتب ساسميلك  Sussmilchمقالة عن أصل اللغة نشرت سنة 1767م بدأها بمقدمة أكد فيها أن اللغة وسيلة للمنطق والتفكير وبدونها لا يمكن للإنسان أن يقوم بعمليات عقلية أو منطقية أو تجريدية. ثم قال اللغة إما أن تكون في أصلها إنسانية أو إلهية، وإذا كانت إنسانية فإما أن تكون طبيعية أو اصطلاحية. ولكنها ليست طبيعية لأن الطبيعي ما نراه من لغات الحيوانات التي تكون متشابهة لدى النوع كله ولا تتغير تبعا للزمان أو المكان فصوت البقرة في الهند أو في أفريقيا أو أوربا واحد ولم يتغير منذ آلاف السنين.

إذن هل هي اصطلاحية ؟ إذا كانت اصطلاحية فلا بد أنها جاءت بطريق الصدفة أو بطريق القصد؟ ونستطيع أن نقول إنها لم تأت عن طريق الصدفة لأن الصدفة تعني عدم النظام والمتأمل في اللغة يجد أنها بنيت على نظام بالغ النظام والتركيب، ليس فقط في لغات الأمم المتحضرة وإنما حتى في لغات البدائيين.

إذن، هل جاءت بطريق القصد والتفكير والاختيار الحكيم ؟ هذا لا يمكن أن يقوم به الإنسان بدون رموز وكلمات أي بدون لغة، وهذا ينتهي بنا إلى القول باستحالة أن تكون اللغة من اختراع الإنسان. إن اللغة تعود إلى ذات أعلى وأذكى. إن الله هو مبدىء اللغة.

(ج) عند أمم أخرى: في إحدى محاورات أفلاطون، يتحيز أحد المتناظرين، ويُدعى كرايتليس، للرأي القائل بأن اللغة هبة منحتها السماء لبني الإنسان، وأن أسماء الأشياء ليست رموزاً مجردة، ولكنها جزء لا يتجزأ من جوهر المسمى.

وكذلك قال الفيلسوف اليوناني هيراكليلتوس Heraclitus الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد إن اللغة "وحي من السماء"،.[9]

وينسب الإسكندنافيون في أساطيرهم اللغة إلى الآلهة، وتعزوها الأساطير الهندية على الإله إندرا   Indra .

2- نظرية الاصطلاح

أصحاب هذه النظرية يقولون إن واضع اللغة هم البشر الذين اصطلحوا على أصوات معينة ليشيروا بها إلى الأشياء حين غيابها وهي تقوم مقام الإشارة باليد عندما تكون هذه الأشياء حاضرة. وقد استدل القائلون بالأصل الاصطلاحي من المسلمين بحجة نقلية وحجج عقلية:

الحجة النقلية:

احتج أهل الاصطلاح من القرآن بقوله سبحانه وتعالى :) وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه (أي بلغتهم فهذا يقتضي تقدم اللغة على بعثة الرسل ، فلو كانت اللغة توقيفية لم يتصور ذلك إلا بالإرسال فيلزم الدور لأن الآية تدل على سبق اللغات للإرسال والتوقيف يدل على سبق الإرسال لها. واعترض على هذا الاستدلال بأن آدم عليه السلام هو الذي عُلّمها كما دلت عليه الآية وهو بدوره عَلَمها لأقدم رسول.

حججهم العقلية:

1- لو كانت اللغات توقيفية فذلك إما بأن يخلق الله تعالى علما ضروريا في العاقل أنه وضع الفظ لكذا، وهذا باطل لأنه يلزم منه كون العاقل عالما بالله بالضرورة، لأنه إذا كان عالما بالضرورة بكون الله وضع لفظ كذا لكذا كان علمه بالله ضروريا، ولو كان كذلك لبطل التكليف.[10]

2- وقالوا أيضاً إن اللغة اصطلاحية بناءً على ما نراه مشاهداً من تعلم الأطفال لها حيث يتعلمون اللغة بالتلقين والإشارة وسماع من حولهم.

وقد اشتهر بالقول بالاصطلاح من المسلمين أبو هاشم أحد كبار المعتزلة وأتباعه، وقد ذهب إلى هذا في بعض أقواله ابن جني مبينا أن معنى (علّم) لا يعني بالضرورة علمه الألفاظ والأسماء وإنما وضع فيه قدرة تمكنه من وضعها والتفاهم بها. وذكر أن الغزالي وهو فيلسوف وأصولي معروف، قال في المنخول: اللغات كلها اصطلاحية إذ التوقيف يفهم بقول الرسول ولا يفهم قوله بدون سبق اللغة. ومن الذين قالوا بالاصطلاح الفيلسوف الفارابي. ويستنتج من قصة حي بن يقظان أن مؤلفها الفيلسوف ابن طفيل لا يعتقد بالتعليم الإلهي في القدرة اللغوية لأن الحكيم آسال عندما قابل حي بن يقظان، الذي عاش بين الحيوانات منعزلا عن البشر في جزيرة نائية،  وجده قد وصل إلى أرقى درجات المعرفة الإيمانية لكنه كان لا يتكلم لغة، فاضطر إلى تعليمه إياها عن طريق الإشارة إلى الأشياء باليد والنطق بالألفاظ.

وقال محمد حجازي: إن آدم يرمز إلى الإنسان الأول على الأرض والأسماء ترمز إلى القدرة على اللغة.

وقد أجاب عباس حسن عن الاستدلال بقوله تعالى (وعلم آدم الأسماء كلها) أنها لا تدل على تعليم اللغة إذ ما فائدة تعليم آدم ما ليس محيطاً به.

وقال الشيخ السكندري: العقل والاستقراء يرينا أن اللغات تعود إلى أمهات وتلك الأمهات تعود إلى جده واحدة وهي اللغة الأولى القديمة ، وهذه اللغة كانت تمتلك ألفاظاً قليلة معدودة يحتاج إليها الإنسان في التعامل مع أخيه الإنسان وهذه الكلمات جاء بعضها عن طريق المحاكاة وبعضها جاء عن طريق الاصطلاح.

وممن قال بنظرية الأصل الاصطلاحي للغة من غير المسلمين:

أرسطوا: كان يرى أن اللغة اصطلاحية ولا علاقة بين الاسم ومعناه وكان يرد على قول الطبيعيين ويقول هناك كلمات كثيرة لا توجد بينها وبين ما تشير إليه علاقة محاكاة، ولو كانت اللغة طبيعية لتشابهت اللغات. ويقال إن الفيلسوف اليوناني ديمقريطوس Democritus قد سبقه إلى هذا الرأي.

وقد استمر القول بهذا الرأي أيام الرومان القدماء، وإبان العصور الوسطى، وعصر النهضة، وحتى العصور الحديثة، وكان أشهر من قال به في القرن التاسع عشر الفيلسوف الإنجليزي آدم سميث Adam Smith، والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو Jean Jacques Rousseau الذي قال: إن الإنسان وضع اللغة بعد أن أصبح مخلوقا ذكياً وكوّن المجتمعات وطور الفنون. ولا ندري كيف قبل روسو فكرة أن ينشئ الإنسان المجتمعات ويطور الفنون بدون امتلاك لغة، ثم بعد ذلك يضع اللغة. وقد قيل إن روسو في النهاية رجع عن هذا الرأي.

الجمع بين الرأي التوقيفي والاصطلاحي: عندما رأى الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني تعارض مذهبي القائلين بالتوقيف والقائلين بالاصطلاح، ولا دليل قاطع في المسألة مع ضعف دليل أهل الاصطلاح لأنه يقتضي أن يسبق الاصطلاح على اللغة اصطلاح سابق وهكذا، رأى أن المخرج هو الجمع بين الرأيين والتوفيق بينهما للخروج من هذا المأزق فافتراض أن القدر من اللغة الذي مكن من الاصطلاح على اللغة لا بد أن يفترض فيه التوقيف، وأما باقي اللغة فاصطلاحي.

3- النظرية الطبيعية

هذه النظرية تقول إن اللغة بدأت بمحاكاة الأصوات المسموعات كدوي الريح وحنين الرعد وخرير الماء وشحيج الحمار ونعيق الغراب وصهيل الفرس ونزيب الظبي ونحو ذلك ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد.

وقد قال بهذا الرأي من المسلمين عباد بن سليمان الصيمري الذي يرى أن لا بد أن يكون بين الكلمة ومعناها علاقة طبيعية حملت الواضع أن يضع لفظ كذا لكذا وإلا كان اختصاص المعنى بلفظ من بين الألفاظ بلا مخصص.[11]

ومن الفلاسفة اليونان الذين قالوا بهذا الرأي أفلاطون الذي قيل إنه قال إن هناك علاقة طبيعية بين الكلمة وما تشير إليه.

وقد كان الفلاسفة اليونانيون المعروفون بالرواقيين Stoics يعتقدون بعلاقة طبيعية بين الكلمة وما تشير إليه، ويستدلون على ذلك بوجود الكلمات المحاكية onomatopoeia لمعناها في اللغات. وقال بذلك أيضا إبيقور Epicurus الذي علل وجود الكلمات غير المحاكية بأنها تعود إلى كونها نقلت من معانيها الأصلية إلى أخرى عن طريق الاستعارة والمجاز.

التوفيق بين الأصل الإلهـي والطبيعي  عند الغربيين: هناك نظرية حاولت التوفيق والجمع بين نظريتي الأصل الإلهي والطبيعي. أصحاب هذه النظرية يقولون: إن آدم عندما كان في الجنة كان إنساناً كاملاً يتمتع بمعرفة سماوية وافية، لذلك كانت أسماؤه التي أطلقها على الأشياء ذات علاقة طبيعية قوية وكانت تعبر في لفظها عن طبائع الأشياء وحقائقها وكان هناك انسجام تام بين الكلمة والشئ ,ولكنه بعد اقتراف الخطيئة وهبوطه إلى الأرض فقد تلك القدرات اللغوية السماوية ووجد نفسه وذريته مضطرين إلى إنشاء كلمات قائمة على التواضع والاصطلاح وضعيفة المحاكاة.

 

النظريات الطبيعية في العصر الحديث

شغل لغز بداية اللغة مفكري ولغويي القرن التاسع عشر فتعدت الآراء وتباينت الادعاءات وطغت النظريات الطبيعية على غيرها، ومن هذه النظريات الحديثة:

(أ) نظرية Bow-Wow: يرى أصحابها، أن اللغة نشأت من تقليد أصوات الطبيعة، وهي النظرية التي أشار إليها ابن جني بقوله: "وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها، إنما هو من الأصوات المسموعات، كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيج الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي، ونحو ذلك. ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد. وهذا عندي وجه صالح متقبل".

وترى هذه النظرية أن الإنسان الأول، عندما أراد أن يميز بين الكائنات، بأسماء ليتحدث عنها، أو يشير إليها في حين غيابها، أخذ في محاكاة أصواتها الطبيعية، فنباح الكلب، مثلاً، اتخذ رمزاً ليدل على هذا الحيوان، ومثل ذلك عواء الذئب، وزئير الأسد، ومواء القط، ومن ثم أصبحت هذه الأصوات الحيوانية المختلفة رموزاً، يشير بها الإنسان الأول إلى هذه الحيوانات، ومثل ذلك في حفيف الشجر، وزفير النار، وقصف الرعد، وخرير الماء وغيرها. ومن هذه الأصوات، تكونت مجموعة من الكلمات، هي أقدم الكلمات في لغات البشر، ثم تطورت هذه الأصوات، أو الكلمات من الدلالة على هذه المعاني الحسية المباشرة، إلى معان أخرى، أكثر تجريداً، ومن هذه الأصوات البدائية، تكونت اللغات فيما بعد على مدى قرون طويلة.[12]

وقد لاقت قبولاً كبيراً، في القرن التاسع عشر، والعشرين وأيدها علماء بارزون، مثل Jesperson جسبرسين ، و Herder هيردر، ومن العرب: إبراهيم أنيس، وعلي عبد الواحد وافي، ودافعوا عنها دفاعاً شديداً ووصفوها بأنها: "أدنى النظريات إلى الصحة، وأقربها إلى المعقول، وأكثرها اتفاقاً مع طبيعة الأمور.[13] والسؤال الذي يفرض نفسه: كيف حوكيت وسميت الأشياء الجامدة ، كالحجر والجبل، والشجر. وأهم ما يؤخذ على هذه النظرية، أنها تحصر أساس نشأة اللغة، في الملاحظة المبنية على الإحساس بما يحدث في البيئة وتتجاهل الحاجة الطبيعية الماسة إلى التخاطب والتفاهم، والتعبير عما في النفس، تلك الحاجة، التي هي من أهم الدوافع إلى نشأة اللغة الإنسانية.[14]

(ب) نظرية Ding Dong: أشهر القائلين بهذه النظرية Max Muller ماكس موللر، الذي قال إن الإنسان قادر بفطرته على صوغ الألفاظ عند الحاجة وقد صاغ كلماته الأولى  معبرا بها عن شعوره الداخلي عند سماعه أصوات الطبيعة في الخارج. فكل شيء يسمع صوته أو يرى شكله يولد عنده انطباعا داخليا يترجمه بفطرته إلى كلمات لغوية.

(ج) نظرية Yo-He-Ho كان يقول بهذه النظرية الفرنسي  Noiré نويري، وهي تفترض أن اللغة بدأت بأصوات غير مقصودة كانت تصاحب النشاط الجسماني للبشر، وهذه الأصوات كان يراد منها تنظيم إيقاع العمل، خاصة عند الجر أو الدفع أو الحمل أو القطع أو ما شابه ذلك من النشاطات. ثم تطورت هذه الأصوات غير المقصودة مع الزمن لتصبح أغان وأناشيد وشعرا.

(د) نظرية التنفيس عن النفسPooh-Pooh : هذه النظرية، تقرر أن الفضل في نشأة اللغة، يرجع إلى غريزة خاصة تحمل الإنسان على التعبير عن انفعالاته، بحركات وأصوات خاصة، مثل انقباض الأسارير، وانبساطها، أو الضحك، أو البكاء، أو غير ذلك، مما يعبر به عن انفعالات كالغضب، والخوف، والحزن، والسرور، نحو: أح، أخ، أف، أوّه، آه. وهذه الألفاظ كانت متحدة عند جميع الأفراد في طبيعتها، ووظائفها، وما يصدر عنها، وأنه بفضل ذلك اتحدت المفردات، وتشابهت طرق التعبير عند الجماعات الإنسانية الأولى، فاستطاعوا التفاهم فيما بينهم.

والنقد الذي يوجه إلى هذه النظرية هو أنه لا يمكننا أن نتصور أن اللغة بدأت من هذه الكلمات لأنها مازالت في اللغة على شكل تعبيرات وأسماء أصوات اعتراضية، مما يبين أن طبيعتها تختلف عن بقية كلمات اللغة. وبعض هذه الألفاظ أيضاً ليس قديما بل نشأ حديثا، والإنسان يغيرها دائما، وهي ولا تخضع لقواعد الجمل النحوية بل هي كلمات خاصة لها طبيعة معينة ولا يمكن اعتبارها أصلا لكلمات اللغة إضافة إلى أن بعض أصواتها لا يشبه بقية أصوات اللغة.

(هـ) نظرية الأصل الإشاري والحركي للغة :

يقول  Pagetباجيه إن اللغة بدأت بإشارات بالشفتين واللسان وتشكيلات في عضلات الوجه، وقد حاول أن يدلل على ذلك بأمثلة من ألفاظ الضمائر في اللغة الإنجليزية، مثل بروز الشفتين عند نطق ضمير YOU وكأنك تشير إلى المخاطب.

وانكماش الشفتين عند نطق ضمير المتكلم " I " كأن المتكلم يشير إلى نفسه.

وانكماش جانب الفم عند نطق لفظ ضمير الغائب HE

ثم صاحب هذه الإشارات بعض الأصوات لتأكيدها ثم بعد ذلك ضعف دور الإشارات وقوي دور الأصوات واستعيض عن الإشارات بأصوات كلامية. ولو طبقنا هذه النظرية على العربية لقلنا مثلاً:

أنا : فيه إشارة إلى المتكلم بتقلص الشفتين إلى الداخل.

هو: فيه إلى شارة الغائب ببروز الشفتين.

ومن النظريات الحديثة تلك التي تربط بداية اللغة بنظام الحركة ومناطق تحكمه في المخ. ومن الأدلة التي يستأنسون بها هو أن أي خلل أو عطب في مناطق المخ المتحكمة في الحركة يصاحبها اختلال في الكلام واللغة عند الإنسان، بينما لا يحدث هذا عند القردة، فأي عطب في مناطق المخ المتحكمة في الحركة لا ينتج عنه اختلال في صيحاتها. هذا الترابط والتلازم بين الحركة والكلام يدل في نظرهم على أن اللغة بدأت بحركات ثم تطورت إلى حركات وأصوات ثم تحولت بعد ذلك إلى أصوات. ومن الأدلة أيضا على هذه النظرية أن كلام الإنسان في أكثره مصحوب بحركات باليد والرأس وتشكل في ملامح الوجه، ويضيفون أيضا أن الصوت ناتج عن حركة في أعضاء النطق.

(و) نظرية التطور: هذه النظرية تعتمد كثيراً على معطيات نظرية Darwin دارون في النشوء والتطور في الأحياء. هذه النظرية أثرت في كثير من العلوم الإنسانية كالأنثروبولجيا (علم الإنسان) وعلم الاجتماع والفلكلور وغيرها. وقد وجد بعض علماء اللغة فيها وسيلة لتفسير أصل اللغة، لذا نجدهم يفترضون أن اللغة لم تبدأ كاملة منذ الوهلة الأولى وإنما تطورت مع تطور جسم ومخه وقدراته العقلية. ويقارنون أطوار تطور لغة الإنسان القديم بمراحل النمو عند الأطفال. وهذه المراحل في نظرهم كالتالي:

1- مرحلة الأصوات الانبعاثية الساذجة حين كانت أعضاء النطق غير ناضجة والميول والرغبات غير واضحة، هذه المرحلة في نظرهم تشبه حالة الطفل في الشهور الأولى من حياته.

2- مرحلة الأصوات المكيفة المنبئة عن الأغراض والرغبات المصحوبة بإشارات متنوعة. في هذه المرحلة يظهر التمييز للأصوات كالجهر والهمس، والشدة والرخاوة، والتمييز في نطق بعض الأصوات الشفوية (ب، م) وهذه المرحلة تناظر حالة الطفل في أواخر السنة الأولى عندما يبدأ بترديد أصوات مثل: با با، ما ما، دا دا ...إلخ.

3- مرحلة المقاطع التي أصبح الإنسان فيها ينطق أصوات محددة المعالم في صورة مقاطع قصيرة محاكية أصوات الحيوانات والأشياء في الطبيعة، وتشبه هذه المرحلة حالة الطفل في بداية السنة الثانية عندما يبدأ يسمى الأشياء بحسب أصواتها مثل تسمية الكلب "هوهو" والقطة "نَوْ نوْ" والساعة "تك تك".

4- مرحلة تكوين كلمات من مقاطع، وهذه تمثل الجذور اللغوية الأولى التي استعملها الإنسان الأول لقضاء حاجاته، وقد بلغ هذه المرحلة اللغوية بعد أن اكتملت قدراته العقلية ونضجت أعضاؤه الصوتية، واشتدت حاجته إلى التفاهم مع غيره، ويناظر هذه المرحلة من أطوار نمو الطفل تلك التي  يبدأ فيها التفاهم مع من حوله ويصبح لديه قدرا من المفردات التي تساعده في الإشارة إلى الأشياء في محيطه وبيئته.[15]

خاتمة:

إن هذا موضوع شائك يذهب بنا إلى ماض سحيق من تاريخ الإنسانية. وليس هناك أدلة نصية قطعية في هذه المسألة. وأما الأدلة العقلية فهي قائمة على افتراضات كلامية وعقلية بحتة لا علاقة لها بالواقع. وهذا هو الذي جعل كثيرا من المفكرين يترددون بين هذه الآراء كابن جني والغزالي. ورأينا آخرين كالرازي والباقلاني يفضلون عدم القطع برأي في هذه المسألة لتكافؤ الأدلة وعدم وجود مرجح.

كل هذه الأمور مجتمعة تجعلنا لا نقطع برأي جازم وإنما نقول إنه يبدو أن الأصل الإلهي في اللغة هي تلك المقدرة الفطرية اللغوية التي وهبها الله للإنسان وجعله قادرا إيجاد نظام من العلامات يستطيع به التفاهم مع الآخرين من جنسه. ومسألة هل بدأت هذه اللغة بكلمات محاكية أو غير محاكية ليست مهمة في نظرنا لأنه لا علاقة لها بالأصل الفعلي للغة. فالإنسان لو لم ذا صوت لاستخدم وسيلة إشارية أخرى. نحن نرى اليوم الصم والبكم يستخدمون الإشارات كلغة ذات نظام صرفي ونحوي قادرة على التعبير بتراكيب تشتمل على علامات للعدد والزمن والضمائر. وهناك مجموعات من البشر حرمت السمع والبصر فعمد أفرادها إلى استخدام نظام لغوي قائم على تشكيلات من اللمسات. وهناك من يقول إنه لو عزل اثنان أو ثلاثة من الأطفال في مكان ما لاستطاعوا أن ينشئوا لغة جديدة قد تضاهي اللغات الأخرى في تراكيبها ونحوها وصرفها. إذن المسألة المهمة في أصل اللغة ليست الكلمات. المهم هو أن هذا المخلوق قد وهب قدرات عقلية ولغوية فطرية تمكنه من استخدام أي وسائط متاحة ليستعملها نظاما للتفاهم مع غيره. وقد نجح علماء في بريطانيا في الكشف عن أول مورث، أو جين، مسؤول عن تطور اللغة والكلام عند الإنسان. يقول البروفيسور انتوني موناكو من مركز ويلكوم لدراسات المورثات البشرية، إن هذا الكشف يعد أول دليل علمي على وجود مورث يمكن أن يكون له علاقة واضحة بمشاكل نشأة اللغة وتطورها، ومن شأنه إلقاء الضوء على ألغاز اللسان والكلام وأسرارهما.[16]

أصل واحد أم متعدد؟

اختلف العلماء حول مسألة هل هذه اللغات الإنسانية والعائلات اللغوية تعود إلى لغة أُم ، أم أنها تعود إلى أصول مختلفة. وهذه قضية أخرى لا يمكن الوصول فيها إلى رأي يقيني قاطع.

1- هناك من يقول إنها نشأت من لغة واحدة والقائلون بهذا يذكرون أن هناك ما يقارب 500 جذر لغوي تتشابه في لغات مختلفة. وهناك أيضاً ما يسمى بالصفات العالمية الشائعة في اللغات LANGUAGE UNIVERSALS  التي تبين أن لغات البشر تشترك في سمات عامة وشائعة، كوجود أقسام الكلمة والضمائر وأسماء الإشارة وغيرها.

2- هناك من يرجع اللغات الإنسانية إلى أصول مختلفة لا علاقة بينها، وأما السمات الشائعة في اللغة فلا تقوم دليلا على وحدة الأصل وإنما تعود إلى القدرات اللغوية الفطرية وإلى تشابه التفكير الإنساني عند الشعوب.

السابق       التالي

 



[1]  خالص جلبي، "نشوء اللغة وتطورها"، الشرق الأوسط.

[2]   http://www.mym2.4mg.com/prog1.htm

[3]   موسوعة مقاتل، "لغات" http://www.moqatel.com

[4]  فندريس، اللغة، تعريب عبد الحميد الدواخلي و محمد القصاص، 36.

[5]  إبراهيم أنيس، اللغة بين القومية والعالمية، ص 30-31.

[6]  الشوكاني، إرشاد الفحول.

[7]  شمس الدين الأصفهاني، شرح المنهاج، 1/171.

[8]  شمس الدين الأصفهاني، شرح المنهاج، 1/171.

[9]  موسوعة مقاتل، (الشبكة العالمية)

[10]  الشوكاني، إرشاد الفحول،1/ 84.

[11]  شمس الدين الأصفهاني، شرح المنهاج، 1/169.

[12]  انظر موسوعة Moqatel  على الشيكة العالمية.

[13]  المصدر السابق.

[14]  المصدر السابق.

[15]  رمضان عبد التواب، دراسات في فقه اللغة.

[16]  BBC Online,  01/10/03 ,http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/news/newsid_1578000/1578127.stm