من كتاب
المزهر للسيوطي
رأي ابن فارس:
قال ابو الحسين أحمد بن فارس في فقه اللغة اعلم أن
لغة العرب توقيف ودليل ذلك قوله تعالى )وعلم آدم الأسماء كلها( فكان ابن عباس يقول: علمه الأسماء كلها وهي هذه الأسماء
التي يتعارفها الناس من دابة وأرض وسهل وجبل وجمل وحمار وأشباه ذلك من الأمم
وغيرها وروى خصيف عن مجاهد قال علمه اسم كل شيء وقال غيرهما إنما علمه أسماء
الملائكة وقال آخرون علمه أسماء ذريته أجمعين قال ابن فارس والذي نذهب إليه في ذلك
ما ذكرناه عن ابن عباس. فإن قال قائل لو كان ذلك كما تذهب إليه لقال ثم عرضهن أو
عرضها فلما قال عرضهم علم أن ذلك لأعيان بني آدم أو الملائكة لأن موضوع الكناية في
كلام العرب أن يقال لما يعقل عرضهم ولما لا يعقل عرضها أو عرضهن. قيل له إنما قال
ذلك والله أعلم لأنه جمع ما يعقل وما لا يعقل فغلب ما يعقل وهي سنة من سنن العرب
أعني باب التغليب وذلك كقوله تعالى (والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على
بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع) فقال منهم تغليبا لمن يمشي
على رجلين وهم بنو آدم. فإن قال: أفتقولون في قولنا سيف وحسام وعضب إلى غير ذلك من
أوصافه إنه توقيف حتى لا يكون شيء منه مصطلحا عليه؟ قيل له: كذلك نقول. والدليل
على صحته إجماع العلماء على الاحتجاج بلغة القوم فيما يختلفون فيه أو يتفقون عليه
ثم احتجاجهم بأشعارهم ولو كانت اللغة مواضعة واصطلاحا لم يكن أولئك في الاحتجاج بهم
بأولى منا في الاحتجاج بنا لو اصطلحنا على لغة اليوم ولا فرق. ولعل ظانا يظن أن
اللغة التي دللنا على أنها توقيف إنما جاءت جملة واحدة وفي زمان واحد وليس الأمر
كذلك بل وقف الله عز وجل آدم عليه السلام على ما شاء أن يعلمه إياه مما احتاج إلى
علمه في زمانه وانتشر من ذلك ما شاء الله ثم علم بعد آدم من الأنبياء صلوات الله
عليهم نبيا نبيا ما شاء الله أن يعلمه حتى انتهى الأمر إلى نبينا محمد فآتاه الله
من ذلك مالم يؤته أحدا قبله تماما على ما أحسنه من اللغة المتقدمة ثم قر الأمر
قراره فلا نعلم لغة من بعده حدثت فإن تعمل اليوم لذلك متعمل وجد من نقاد العلم من
ينفيه ويرده. ولقد بلغنا عن أبي الأسود الدؤلي أن امرءا كلمه ببعض ما أنكره أبو
الأسود، فسأله أبو الأسود عنه فقال: هذه لغة لم تبلغك فقال له يابن أخي إنه لا خير
لك فيما لم يبلغني فعرفه بلطف أن الذي تكلم به مختلق. وخلة أخرى إنه لم يبلغنا أن
قوما من العرب في زمان يقارب زماننا أجمعوا على تسمية شيء من الأشياء مصطلحين عليه
فكنا نستدل بذلك على اصطلاح قد كان قبلهم وقد كان في الصحابة رضي الله عنهموهم
البلغاء والفصحاء من النظر في العلوم الشريفة ما لا خفاء به وما علمناهم اصطلحوا
على اختراع لغة أو إحداث لفظة لم تتقدمهم، ومعلوم أن حوادث العالم لا تنقضي إلا
بانقضائه ولا تزول إلا بزواله وفي كل ذلك دليل على صحة ما ذهبنا إليه من هذا
الباب. هذا كله كلام ابن فارس وكان من أهل السنة.
رأي ابن جني:
وقال ابن جني في الخصائص، وكان هو وشيخه أبو علي الفارسي
معتزليين، باب القول على أصل اللغة إلهام هي أم اصطلاح. هذا موضع محوج إلى
فضل تأمل غير أن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح لا وحي
ولا توقيف إلا أن أبا علي رحمه الله قال لي يوما هي من عند الله واحتج بقوله تعالى
(وعلم آدم الأسماء كلها) وهذا لا يتناول موضع الخلاف وذلك أنه قد يجوز أن يكون
تأويله أقدر آدم على أن واضع عليها وهذا المعنى من عند الله سبحانه لا محالة فإذا
كان ذلك محتملا غير مستنكر سقط الاستدلال به، وقد كان أبو علي رحمه الله أيضا قال
به في بعض كلامه، وهذا أيضا رأي أبي الحسن؛ على أنه لم يمنع قول من قال إنها تواضع
منه وعلى أنه قد فسر هذا بأن قيل إنه تعالى علم آدم أسماء جميع المخلوقات بجميع
اللغات العربية والفارسية والسريانية والعبرانية والرومية وغير ذلك من سائر اللغات
فكان آدم وولده يتكلمون بها ثم إن ولده تفرقوا في الدنيا وعلق كل واحد منهم بلغة
من تلك اللغات فغلبت عليه واضمحل عنه ما سواها لبعد عهدهم بها. وإذا كان الخبر
الصحيح قد ورد بهذا وجب تلقيه باعتقاده والانطواء على القول به فإن قيل فاللغة
فيها أسماء وأفعال وحروف وليس يجوز أن يكون المعلم من ذلك الأسماء وحدها دون غيرها
مما ليس بأسماء، فكيف خص الأسماء وحدها؟ قيل اعتمد ذلك من حيث كانت الأسماء أقوى
القُبُل الثلاثة‘ ولا بد لكل كلام مفيد منفرد من الاسم وقد تستغني الجملة المستقلة
عن كل واحد من الفعل والحرف، فلما كانت الأسماء من القوة والأولية في النفس
والرتبة على ما لا خفاء به جاز أن يكتفى بها عما هو تال لها ومحمول في الحاجة إليه
عليها. قال ثم لنعد فلنقل في الاعتلال لمن قال بأن اللغة لا تكون وحيا وذلك أنهم
ذهبوا إلى أن أصل اللغة لا بد فيه من المواضعة، قالوا وذلك بأن يجتمع حكيمان أو
ثلاثة فصاعدا فيحتاجوا إلى الإبانة عن الأشياء المعلومات فيضعوا لكل واحد منها سمة
ولفظا إذا ذكر عرف به ما مسماه ليمتاز عن غيره وليغني بذكره عن إحضاره إلى مرآة
العين فيكون ذلك أقرب وأخف وأسهل من تكلف إحضاره لبلوغ الغرض في إبانة حاله بل قد
يحتاج في كثير من الأحوال إلى ذكر ما لا يمكن إحضاره ولا إدناؤه كالفاني وحال
اجتماع الضدين على المحل الواحد وكيف يكون ذلك لو جاز وغير هذا مما هو جار في
الاستحالة والتعذر مجراه، فكأنهم جاؤوا إلى واحد من بني آدم فأومؤوا إليه وقالوا
إنسان إنسان إنسان فأي وقت سمع هذا اللفظ علم أن المراد به هذا الضرب من المخلوق
وإن أرادوا سمة عينه أو يده أشاروا إلى ذلك فقالوا يد عين رأس قدم أو نحو ذلك فمتى
سمعت اللفظة من هذا عرف معنيها وهلم جرا فيما سوى ذلك من الأسماء والأفعال
والحروف، ثم لك من بعد ذلك أن تنقل هذه المواضعة إلى غيرها فتقول الذي اسمه إنسان
فليجعل مكانه مرد والذي اسمه رأس فليجعل مكانه سر وعلى هذا بقية الكلام وكذلك لو
بدئت اللغة الفارسية فوقعت المواضعة عليها لجاز أن تنقل ويولد منها لغات كثيرة من
الرومية والزنجية وغيرهما وعلى هذا ما نشاهده الآن من اختراع الصناع لآلات صنائعهم
من الأسماء كالنجار والصائغ والحائك والبناء وكذلك الملاح قالوا ولكن لا بد لأولها
من أن يكون متواضعا عليه بالمشاهدة والإيماء، قالوا والقديم سبحانه لا يجوز أن
يوصف بأن يواضع أحدا على شيء إذ قد ثبت أن المواضعه لا بد معها من إيماء وإشارة
بالجارحة نحو المومأ إليه والمشار نحوه قالوا والقديم سبحانه لا جارحة له فيصح
الإيماء والإشارة منه بها فبطل عندهم أن تصح المواضعة على اللغة منه تقدست أسماؤه،
قالوا ولكن يجوز أن ينقل الله تعالى اللغة التي قد وقع التواضع بين عباده عليها
بأن يقول الذي كنتم تعبرون عنه بكذا عبروا عنه بكذا والذي كنتم تسمونه كذا ينبغي
أن تسموه كذا وجواز هذا منه سبحانه كجوازه من عباده ومن هذا الذي في الأصوات ما
يتعاطاه الناس الآن من مخالفة الأشكال في حروف المعجم كالصورة التي توضع للمعميات
والتراجم وعلى ذلك أيضا اختلفت أقلام ذوي اللغات كما اختلفت ألسن الأصوات المرتبة
على مذاهبهم في المواضعات فهذا قول من الظهور على ما تراه، إلا أنني سألت يوما بعض
أهله فقلت ما تنكر أن تصح المواضعة من الله سبحانه وإن لم يكن ذا جارحة بأن يحدث
في جسم من الأجسام خشبة أو غيرها إقبالا على شخص من الأشخاص وتحريكا لها نحوه
ويسمعفي حال تحرك الخشبة نحو ذلك الشخص صوتا يضعه اسما له ويعيد حركة تلك الخشبة نحو
ذلك الشخص دفعات مع أنه عز اسمه قادر على أن يقنع في تعريفه ذلك بالمرة الواحدة
فتقوم الخشبة في هذا الإيماء وهذه الإشارة مقام جارحة ابن آدم في الإشارة بها في
المواضعة وكما أن الإنسان أيضا قد يجوز إذا أراد المواضعة أن يشير بخشبة نحو
المراد المتواضع عليه فيقيمها في ذلك مقام يده لو أراد الإيماء بها نحوه فلم يجب
عن هذا بأكثر من الاعتراف بوجوبه ولم يخرج من جهته شيء أصلا فأحكيه عنه وهو عندي
وعلى ما تراه الآن لازم لمن قال بامتناع كون مواضعة القديم تعالى لغة مرتجلة غير
ناقلة لسانا إلى لسان فاعرف ذلك.
* وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات
كدوي الريح وحنين الرعد وخرير الماء وشحيج الحمار ونعيق الغراب وصهيل الفرس ونزيب
الظبي ونحو ذلك ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل.
واعلم فيما بعد أنني على تقادم الوقت دائم التنقير والبحث
عن هذا الموضع فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي مختلفة جهات التغول على فكري
وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة
والدقة والإرهاف والرقة ما يملك علي جانب الفكر حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السحر
فمن ذلك ما نبه عليه أصحابنا رحمهم الله ومنه ما حذوته على أمثلتهم فعرفت بتتابعه
وانقياده وبعد مراميه وآماده صحة ما وفقوا لتقديمه منه ولطف ما أسعدوا به وفرق لهم
عنه وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله تعالى فقوي في نفسي
اعتقاد كونها توقيفا من الله سبحانه وأنها وحي ثم أقول في ضد هذا إنه كما وقع
لأصحابنا ولنا وتنبهوا وتنبهنا على تأمل هذه الحكمة الرائعة الباهرة كذلك لا ننكر
أن يكون الله تعالى قد خلق من قبلنا وإن بعد مداه عنا من كان ألطف منا أذهانا
وأسرع خواطر وأجرأ جنانا فأقف بين الخلتين حسيرا وأكاثرهما فأنكفىء مكثورا وإن خطر
خاطر فيما بعد يعلق الكف بإحدى الجهتين ويكفها عن صاحبتها قلنا به هذا كله كلام
ابن جني.
وقال
الإمام فخر الدين الرازي في المحصول وتبعه تاج الدين الأرموي في الحاصل وسراج
الدين الأرموي في التحصيل ما ملخصه:
النظر الثاني في الواضع:
الألفاظ إما أن تدل على المعاني: (أ) بذواتها أو (ب)
بوضع الله إياها أو(ج) بوضع الناس (د) أو بكون البعض بوضع الله والباقي بوضع
الناس. والأول مذهب عباد بن سليمان، والثاني مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وابن
فورك، والثالث مذهب أبي هاشم، وأما الرابع فإما أن يكون الابتداء من الناس والتتمة
من الله وهو مذهب قوم أو الابتداء من الله والتتمة من الناس وهو مذهب الأستاذ أبي
إسحاق الإسفرائيني.
والمحققون متوقفون في الكل إلا في مذهب عباد، ودليل
فساده أن اللفظ لو دل بالذات لفهم كل واحد منهم كل اللغات لعدم اختلاف الدلالات
الذاتية واللازم باطل فالملزوم كذلك واحتج عباد بأنه لولا الدلالة الذاتية لكان
وضع لفظ من بين الألفاظ بإزاء معنى من بين المعاني ترجيحا بلا مرجح وهو محال
وجوابه أن الواضع إن كان هو الله فتخصيصه الألفاظ بالمعاني كتخصيص العالم بالإيجاد
في وقت من بين سائر الأوقات وإن كان هو الناس فلعله لتعين الخطران بالبال ودليل
إمكان التوقف احتمال خلق الله تعالى الألفاظ ووضعها بإزاء المعاني وخلق علوم
ضرورية في ناس بأن تلك الألفاظ موضوعة لتلك المعاني ودليل إمكان الاصطلاح إمكان أن
يتولى واحد أو جمع وضع الألفاظ لمعان ثم يفهموها لغيرهم بالإشارة كحال الوالدات مع
أطفالهن وهذان الدليلان هما دليلا إمكان التوزيع.
واحتج القائلون بالتوقيف بوجوه:
أولها: قوله تعالى (وعلم آدم الأسماء كلها فالأسماء كلها) معلمة من عند الله
بالنص وكذا الأفعال والحروف لعدم القائل بالفصل ولأن الأفعال والحروف أيضا أسماء،
لأن الاسم ما كان علامة والتمييز من تصرف النحاة لا من اللغة ولأن التكلم بالأسماء
وحدها متعذر.
وثانيها: أنه سبحانه وتعالى ذم قوما في إطلاقهم أسماء غير
توقيفية في قوله تعالى (إن هي إلا أسماء سميتموها) وذلك يقتضي كون البواقي
توقيفية.
وثالثها: قوله تعالى: (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف
ألسنتكم وألوانكم) والألسنة اللحمانية غير مرادة لعدم اختلافها ولأن بدائع الصنع
في غيرها أكثر فالمراد هي اللغات.
ورابعها: وهو عقلي لو كانت اللغات اصطلاحية لاحتيج في
التخاطب بوضعها إلى اصطلاح آخر من لغة أو كتابة، ويعود إليه الكلام ويلزم إما
الدور أو التسلسل في الأوضاع وهو محال فلا بد من الانتهاء إلى التوقيف.
واحتج القائلون بالاصطلاح بوجهين:
أحدهما: لو كانت اللغات توقيفية لتقدمت واسطة البعثة على
التوقيف والتقدم باطل وبيان الملازمة أنها إذا كانت توقيفية فلا بد من واسطة بين الله
والبشر وهو النبي لاستحالة خطاب الله تعالى مع كل أحد وبيان بطلان التقدم قوله
تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) وهذا يقتضي تقدم اللغة على البعثة.
والثاني: لو كانت اللغات توقيفية فذلك إما بأن يخلق الله
تعالى علما ضروريا في العاقل أنه وضع الألفاظ لكذا أو في غير العاقل أو بألا يخلق
علما ضروريا أصلا، والأول باطل وإلا لكان العاقل عالما بالله بالضرورة،
لأنه إذا كان عالما بالضرورة بكون الله وضع كذا لكذا كان علمه بالله ضروريا، ولو
كان كذلك لبطل التكليف. والثاني باطل لأن غير العاقل لا يمكنه إنهاء تمام
هذه الألفاظ. والثالث باطل لأن العلم بها إذا لم يكن ضروريا احتيج إلى توقيف آخر
ولزم التسلسل.
[الجواب عن حجج أصحاب التوقيف]
والجواب عن الأولى من حجج أصحاب التوقيف: لمَ لا يجوز أن يكون المراد
من تعليم الأسماء الإلهام إلى وضعها ولا يقال التعليم إيجاد العلم فإنا لا نسلم
ذلك بل التعليم فعل يترتب عليه العلم ولأجله يقال علمته فلم يتعلم. سلمنا أن
التعليم إيجاد العلم لكن قد تقرر في الكلام أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى فعلى
هذا العلم الحاصل بها موجد لله، سلمناه، لكن الأسماء هي سمات الأشياء وعلاماتها
مثل أن يعلم آدم صلاح الخيل للعدو والجمال للحمل والثيران للحرث، فلم قلتم إن
المراد ليس ذلك وتخصيص الأسماء بالألفاظ عرف جديد، سلمنا أن المراد هو الألفاظ،
ولكن لم لا يجوز أن تكون هذه الألفاظ وضعها قوم آخرون قبل آدم وعلمها الله آدم.
وعن الثانية أنه تعالى ذمهم لأنهم سموا الأصنام آلهة واعتقدوها
كذلك.
وعن الثالثة أن اللسان هو الجارحة المخصوصة، وهي غير مرادة
بالاتفاق والمجاز الذي ذكرتموه يعارضه مجازات أخر، نحو مخارج الحروف أو القدرة
عليها فلم يثبت الترجيح.
وعن الرابعة أن الاصطلاح لا يستدعي تقدم اصطلاح آخر بدليل تعليم الوالدين
الطفل دون سابقة اصطلاح ثمة.
والجواب عن الأولى من حجتي أصحاب الاصطلاح: لا نسلم توقف التوقيف على
البعثة لجواز أن يخلق الله فيهم العلم الضروري بأن الألفاظ وضعت لكذا وكذا.
وعن الثانية لم لا يجوز أن يخلق الله العلم الضروري في العقلاء
أن واضعا وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني وعلى هذا لا يكون العلم بالله ضروريا.
سلمناه لكن لم لا يجوز أن يكون الإله معلوم الوجود بالضرورة لبعض العقلاء. قوله
(لبطل التكليف) قلنا: بالمعرفة، أما بسائر التكاليف فلا. انتهى.
وقال أبو الفتح بن برهان في كتاب الوصول إلى الأصول
اختلف العلماء في اللغة هل تثبت توقيفا أو اصطلاحا فذهبت المعتزلة إلى أن اللغات
بأسرها تثبت اصطلاحا وذهبت طائفة إلى أنها تثبت توقيفا وزعم الأستاذ أبو إسحاق
الإسفرائيني أن القدر الذي يدعو به الإنسان غيره إلى التواضع يثبت توقيفا وما عدا
ذلك يجوز أن يثبت بكل واحد من الطريقين وقال القاضي أبو بكر: يجوز أن يثبت توقيفا
ويجوز أن يثبت اصطلاحا ويجوز أن يثبت بعضه توفيقا وبعضه اصطلاحا والكل ممكن. وعمدة
القاضي أن الممكن هو الذي لو قدر موجودا لم يعرض لوجوده محال ويعلم أن هذه الوجوه
لو قدرت لم يعرض من وجودها محال فوجب قطع القول بإمكانها. وعمدة المعتزلة أن
اللغات لا تدل على مدلولاتها كالدلالة العقلية ولهذا المعنى يجوز اختلافها ولو
ثبتت توقيفا من جهة الله تعالى لكان ينبغي أن يخلق الله العلم بالصيغة ثم يخلق
العلم بالمدلول ثم يخلق لنا العلم بجعل الصيغة دليلا على ذلك المدلول ولو خلق لنا
العلم بصفاته لجاز أن يخلق لنا العلم بذاته ولو خلق لنا العلم بذاته بطل التكليف
وبطلت المحنة. قلنا: هذا بناء على أصل فاسد فإنا نقول يجوز أن يخلق الله لنا العلم
بذاته ضرورة وهذه المسألة فرع ذلك الأصل. وعمدة الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني: أن
القدر الذي يدعو به الإنسان غيره إلى التواضع لو ثبت اصطلاحا لافتقر إلى اصطلاح
آخر يتقدمه وهكذا فيتسلسل إلى ما لا نهاية له. قلنا: هذا باطل فإن الإنسان يمكنه
أن يفهم غيره معاني الأسامي كالطفل ينشأ غير عالم بمعاني الألفاظ ثم يتعلمها من
الأبوين من غير تقدم اصطلاح وعمدة من قال إنها تثبت توقيفا قوله تعالى: (وعلم آدم
الأسماء كلها)، وهذا لا حجة فيه من جهة القطع فإنه عموم والعموم ظاهر في الاستغراق
وليس بنص. قال القاضي: أما الجواز فثابت من جهة القطع بالدليل الذي قدمته وأما
كيفية الوقوع فأنا متوقف فإن دل دليل من السمع على ذلك ثبت به.
وقال إمام الحرمين في البرهان: اختلف أرباب
الأصول في مأخذ اللغات فذهب ذاهبون إلى أنها توقيف من الله تعالى وصار صائرون إلى
أنها تثبت اصطلاحا وتواطؤا وذهب الأستاذ أبو إسحاق في طائفة من الأصحاب إلى أن
القدر الذي يفهم منه قصد التواطؤ لا بد أن يفرض فيه التوقيف. والمختار عندنا أن
العقل يجوز ذلك كله فأما تجويز التوقيف فلا حاجة إلى تكلف دليل فيه ومعناه أن يثبت
الله تعالى في الصدور علوما بديهية بصيغ مخصوصة بمعاني فتتبين العقلاء الصيغ
ومعانيها ومعنى التوقيف فيها أن يلقوا وضع الصيغ على حكم الإرداة والاختيار وأما
الدليل على تجويز وقوعها اصطلاحا فهو أنه لا يبعد أن يحرك الله تعالى نفوس العقلاء
لذلك ويعلم بعضهم مراد بعض ثم ينشئون على اختيارهم صيغا وتقترن بما يريدون أحوال
لهم وإشارات إلى مسميات وهذا غير مستنكر وبهذا المسلك ينطلق الطفل على طوال ترديد
المسمع عليه ما يريد تلقينه وإفهامه فإذا ثبت الجواز في الوجهين لم يبق لما تخيله
الأستاذ وجه والتعويل في التوقيف وفرض الاصطلاح على علوم تثبت في النفوس فإذا لم
يمنع ثبوتها لم يبق لمنع التوقيف والاصطلاح بعدها معنى ولا أحد يمنع جواز ثبوت
العلوم الضرورية على النحو المبين. فإن قيل قد أثبتم الجواز في الوجهين عموما فما
الذي اتفق عندكم وقوعه. قلنا ليس هذا مما يتطرق إليه بمسالك العقول فإن وقوع
الجائز لا يستدرك إلا بالسمع المحض ولم يثبت عندنا سمع قاطع فيما كان من ذلك وليس
في قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها) دليل على أحد الجائزين فإنه لا يمتنع أن
تكون اللغات لم يكن يعلمها فعلمه الله تعالى إياها ولا يمتنع أن الله تعالى أثبتها
ابتداء وعلمه إياها. وقال الغزالي في المنخول قال قائلون اللغات كلها اصطلاحية إذ التوقيف
يثبت بقول الرسول عليه السلام ولا يفهم قوله دون ثبوت اللغة. وقال آخرون: هي
توقيفية إذ الاصطلاح يعرض بعد دعاء البعض بالاصطلاح ولا بد من عبارة يفهم منها قصد
الاصطلاح. وقال آخرون ما يفهم منه قصد التواضع توقيفي دون ما عداه ونحن نجوز كونها
اصطلاحية بأن يحرك الله رأس واحد فيفهم آخر أنه قصد الاصطلاح. ويجوز كونها توقيفية
بأن يثبت الرب تعالى مراسم وخطوطا يفهم الناظر فيها العبارات ثم يتعلم البعض عن
البعض. وكيف لا يجوز في العقل كل واحد منهما ونحن نرى الصبي يتكلم بكلمة أبويه
ويفهم ذلك من قرائن أحوالهما في حالة صغره فإذن الكل جائز. وأما وقوع أحد الجائزين
فلا يستدرك بالعقل ولا دليل في السمع وقوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها) ظاهر
في كونه توقيفيا وليس بقاطع ويحتمل كونها مصطلحا عليها من خلق الله تعالى قبل آدم.
انتهى. وقال ابن الحاجب في مختصره الظاهر من هذه الأقوال قول أبي الحسن الأشعري.
قال القاضي تاج الدين السبكي في شرح منهاج البيضاوي: معنى قول ابن الحاجب: القول
بالوقف عن القطع بواحد من هذه الاحتمالات وترجيح مذهب الأشعري بغلبة الظن. قال وقد
كان بعض الضعفاء يقول إن هذا الذي قاله ابن الحاجب مذهب لم يقل به أحد لأن العلماء
في المسألة بين متوقف وقاطع بمقالته فالقول بالظهور لا قائل به. قال: وهذا ضعيف
فإن المتوقف لعدم قاطع قد يرجح بالظن ثم إن كانت المسألة ظنية اكتفى في العمل بها
بذلك الترجيح وإلا توقف عن العمل بها، ثم قال: والإنصاف أن الأدلة ظاهرة فيما قاله
الأشعري، فالمتوقف إن توقف لعدم القطع فهو مصيب وإن ادعى عدم الظهور فغير مصيب.
هذا هو الحق الذي فاه به جماعة من المتأخرين منهم الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد
في شرح العنوان. وقال في رفع الحاجب: اعلم ان للمسألة مقامين أحدهما الجواز فمن
قائل لا يجوز أن تكون اللغة إلا توقيفا، ومن قائل: لا يجوز أن تكون إلا اصطلاحا.
والثاني أنه ما الذي وقع على تقدير جواز كل من الأمرين والقول بتجويز كل من
الأمرين هو رأي المحققين ولم أر من صرح عن الأشعري بخلافه. والذي أراه أنه إنما
تكلم في الوقوع وأنه يجوز صدور اللغة اصطلاحا ولو منع الجواز لنقله عنه القاضي
وغيره من محققي كلامه ولم أرهم نقلوه عنه بل لم يذكره القاضي وإمام الحرمين وابن
القشيري والاشعري في مسألة مبدأ اللغات البتة وذكر إمام الحرمين الاختلاف في
الجواز ثم قال: إن الوقوع لم يثبت وتبعه القشيري وغيره.
تنبيهات
أحدهاإذا قلنا بقول الأشعري
إن اللغات توقيفية ففي الطريق إلى علمها مذاهب حكاها ابن الحاجب وغيره. أحدها
بالوحي إلى بعض الأنبياء والثاني بخلق الأصوات في بعض الأجسام والثالث بعلم ضروري
خلقه في بعضهم حصل به إفادة اللفظ للمعنى. قال ابن السبكي في رفع الحاجب: والظاهر
من هذه هو الأول لأنه المعتاد في علم الله تعالى. الثاني: قول الإمام الرازي فيما
تقدم لم لا يجوز أن تكون هذه الألفاظ وضعها قوم آخرون قبل آدم قال في رفع الحاجب
لسنا ندعي أن قبل آدم الجن والبن فذلك لم يثبت عندنا بل قال القاضي في التقريب جاز
تواضع الملائكة المخلوقة قبله. قال ابن القشيري وقد كانوا قبله يتخاطبون ويفهمون.
الثالث: قول أهل الاصطلاح لو كانت اللغات توقيفية لتقدمت واسطة البعثة على التوقيف
أحسن من جواب الإمام عن جواب ابن الحاجب حيث قال إذا كان آدم عليه السلام هو الذي
علمها اندفع الدور. قال في رفع الحاجب لأن لآدم حالتين حالة النبوة وهي الأولى
وفيها الوحي الذي من جملته تعليم اللغات وعلمها الخلق إذ ذاك ثم بعث بعد أن علمها
قومه فلم يكن مبعوثا لهم إلا بعد علمهم اللغات فبعث بلسانهم. قال: وحاصله أن نبوته
متقدمة على رسالته والتعليم متوسط فهذا وجه اندفاع الدور. الرابع: قال في رفع
الحاجب: الصحيح عندي أنه لا فائدة لهذه المسألة وهو ما صححه ابن الأنباري وغيره
ولذلك قيل ذكرها في الأصول فضول. وقيل: فائدتها النظر في جواز قلب اللغة فحكي عن
بعض القائلين بالتوقيف منع القلب مطلقا فلا يجوز تسمية الثوب فرسا والفرس ثوبا،
وعن القائلين بالاصطلاح تجويزه. وأما المتوقفون قال المازري فاختلفوا فذهب بعضهم
إلى التجويز كمذهب قائل الاصطلاح وأشار أبو القاسم عبد الجليل الصابوني إلى المنع
وجوز كون التوقيف واردا على أنه وجب ألا يقع النطق إلا بهذه الألفاظ. قال ابن
السبكي: والحق عندي وإليه يشير كلام المازري أنه لا تعلق لهذا بالأصل السابق فإن
التوقيف لو تم ليس فيه حجر علينا حتى لا ينطق بسواه فإن فرض حجر فهو أمر خارجي
والفرع حكمه حكم الأشياء قبل ورود الشرائع فإنا لا نعلم في الشرع ما يدل عليه وما
ذكره الصابوني من الاحتمال مدفوع. قال المازري: وقد علم أن الفقهاء المحققين لا
يحرمون الشيء بمجرد احتمال ورود الشرع بتحريمه وإنما يحرمونه عند انتهاض دليل
تحريمه. قال: وإن استند في التحريم إلى الاحتياط فهو نظر في المسألة من جهة أخرى
وهذا كله فيما لا يؤدي قلبه إلى فساد النظام وتغييره إلى اختلاط الأحكام فإن أدى
إلى ذلكقال المازري فلا نختلف في تحريم قلبه لا لأجل نفسه بل لأجل ما يؤدي إليه.
قال في شرح المنهاج إن بناء المسألة على هذا الأصل غير صحيح فإن هذا الأصل في أن
هذه اللغات الواقعة بين أظهرنا هل هي بالاصطلاح أو التوقيف لا في شخص خاص اصطلح مع
صاحبه على إطلاق لفظ الثوب على الفرس مثلا. وقال الزركشي في البحر حكى الأستاذ أبو
منصور قولا إن التوقيف وقع
المؤلف : ابن أمير الحاج (879هـ)
المقام الثالث في بيان الواضع , وفيه مذاهب .
أحدها : وهو مختار الإمام فخر الدين والآمدي وابن الحاجب ونسبه السبكي إلى
الجمهور أنه الله تعالى , وأنه وقف العباد عليها بوحيه إلى بعض الأنبياء أو
بخلقه الألفاظ الموضوعة في جسم ثم إسماعه إياها لواحد أو جماعة إسماع قاصد للدلالة
على المعاني أو بخلقه تعالى العلم الضروري لهم بها , ومن ثمة يعرف هذا بالمذهب
التوقيفي ولما كان في هذا الإطلاق بعض تفصيل أشار المصنف إليه بقوله (والواضع
للأجناس) أسماء , وأعلاما للأعيان والمعاني مقترنة بزمان وغير مقترنة به
(أولا الله سبحانه) هذا (قول الأشعري) , وقال للأجناس ; لأنه لا شك في أن
واضع أسماء الله تعالى المتلقاة من السمع والأعلام من أسماء الملائكة وبعض الأعلام
من أسماء الأنبياء هو الله تعالى .
وقال أولا ; لأنه سيشير إلى أنه يجوز أن يتوارد
على بعضها وضعان لله أولا وللعباد ثانيا كما سنوضحه قريبا (ولا شك في أوضاع أخر
للخلق علمية شخصية) حادثة بإحداثهم إياها , ومواضعتهم عليها لما يألفون على
اختلاف أنواعه وكيف لا , والوجدان شاهد بذلك بل كما قال الشيخ أبو بكر الرازي
: إن هذه الأسماء لا تتعلق باللغة ولا بمواضعات أهلها واصطلاحهم ; لأن لكل أحد
أن يبتدئ فيسمي نفسه , وفرسه
وغلامه بما شاء منها غير محظور عن ذلك , وقيد بالشخصية لانتفاء القطع بهذا الحكم
للعلمية الجنسية (وغيرها) أي وغير هذه من أسماء الأجناس , وأعلامها
(جائز) أن يتوارد عليه في الجملة وضعان سابق للحق ولا حق للخلق بأن يضع الباري
تعالى اسما منها لمعنى ثم يضعه الخلق لآخر حتى يكون ذلك < 70 > الاسم من
قبيل الأضداد إن كان المعنيان متضادين أو يضعوا لذلك المعنى بعينه اسما آخر أيضا
(فيقع الترادف) بين ذينك الاسمين إذ لا مانع من هذا التجويز فيتحرر أن محل
النزاع أسماء الأجناس , وأعلامها في أول الأمر .
وإنما ذهب من ذهب إلى هذا (لقوله تعالى {, وعلم
آدم الأسماء كلها}) فإن تعليمه تعالى آدم عليه السلام جميعها على سبيل الإحاطة
بها ظاهر في إلقائها عليه مبينا له معانيها إما بخلق علم ضروري بها فيه أو إلقاء
في روعه , وأيا ما كان فهو غير مفتقر إلى سابقة اصطلاح ليتسلسل بل يفتقر إلى
سابقة وضع , والأصل ينفي أن يكون ذلك الوضع ممن كان قبل آدم , وممن عسى أن
يكون معه في الزمان من المخلوقات فيكون من الله تعالى , وهو المطلوب ثانيها ما
أشار إليه بقوله (وأصحاب أبي هاشم) المعتزلي المشهور يعبر عنهم بالبهشمية
يقولون الواضع (البشر آدم وغيره) بأن انبعثت داعيتهم إلى وضع هذه الألفاظ
بإزاء معانيها ثم عرف الباقون بتعريف الواضع أو بتكرار تلك الألفاظ مرة بعد أخرى
مع قرينة الإشارة إليها أو غيرها كما في تعليم الأطفال ويسمى هذا بالمذهب
الاصطلاحي , وإنما ذهب من ذهب إليه (لقوله تعالى {وما أرسلنا من رسول إلا
بلسان قومه}) أي بلغة قومه الذي هو منهم وبعث فيهم , وإطلاق اللسان على
اللغة مجاز شائع من تسمية الشيء باسم سببه العادي , وهو مراد هنا بالإجماع .
ووجه الاستدلال بهذا النص أنه (أفاد) هذا النص
(نسبتها) أي اللغة (إليهم) سابقة على الإرسال إليهم (وهي) أي ونسبتها
إليهم كذلك (بالوضع) أي يتعين ظاهرا أن تكون بوضعهم ; لأنها النسبة الكاملة
, والأصل في الإطلاق الحمل على الكامل (وهو) أي , وهذا الوجه (تام على
المطلوب) أي على إثبات أن الواضع البشر (وأما تقريره) أي الاستدلال بهذا النص
(دورا) أي من جهة أنه يلزم الدور الممنوع على تقدير أن يكون الواضع الله كما
ذكره ابن الحاجب , وقرره القاضي عضد الدين (كذا دل) هذا النص (على سبق
اللغات الإرسال) إلى الناس فإنه ظاهر في إفادته أن يكون أولا للقوم لسان أي لغة
اصطلاحية لهم فيبعث الرسول بتلك اللغة إليهم (ولو كان) أي حصول اللغات لهم
(بالتوقيف) من الله تعالى (ولا يتصور ) التوقيف (إلا بالإرسال ) للرسل
إليهم (سبق الإرسال للغات فيدور) لتقدم كل من الإرسال واللغات على الآخر وحيث
كان الدور باطلا كان ملزومه , وهو كون الواضع هو الله كذلك ; لأن ملزوم الباطل
باطل (فغلط لظهور أن كون التوقيف ليس إلا بالإرسال إنما يوجب سبق الإرسال على
التوقيف لا) أنه يوجب سبق الإرسال (اللغات بل ) هذا النص (يفيد سبقها ) أي
اللغات على الإرسال , ولا يلزم من سبقها عليه سبق التوقيف عليه أيضا لجواز
وجودها بدونه فلا دور .
وحينئذ (فالجواب) من قبل التوقيفية عن هذا
الاستدلال للاصطلاحية (بأن آدم علمها) بلفظ المبني للمفعول وبني له للعلم
بالفاعل , وهو الله أي علم الله آدم الأسماء (وعلمها ) آدم غيره (فلا دور)
إذا تعليمه بالوحي يستدعي تقدم الوحي على اللغات لا تقدم الإرسال إذ قد يكون هناك
وحي باللغات وغيرها ولا إرسال له إلى قوم لعدمهم وبعد أن وجدوا وتعلموا اللغات منه
أرسل إليهم (وبمنع حصر ) طريق (التوقيف على الإرسال ) أي والجواب من قبل
التوقيفية عن استدلال الاصطلاحية بالنص المذكور على هذا الوجه بهذا أيضا
(لجوازه) أي التوقيف من الله (بالإلهام) بأن ألقى الله تعالى في روع العاقل
من غير كسب منه أن واضعا ما وضع هذه الألفاظ بإزاء هذه المعاني (ثم دفعه ) أي
هذا الجواب (بخلاف المعتاد) أي بأن عادة الله تعالى لم تجر بذلك بل المعتاد في
التعليم التفهيم بالخطاب ونحوه فإذا لم يقطع بعدمه فلا أقل من مخالفته للظاهر
مخالفة قوية فلا يترك الظاهر لمجرده .
ثم قوله (ضائع) خبر قوله فالجواب , وما عطف
عليه ووجه ضياعه ظاهر فإن ما بني هذا كله عليه من دعوى الدور لم يتم < 71
> (بل الجواب) من قبل التوقيفية عما تقدم من الاستدلال بالنص المذكور
للاصطلاحية على الوجه التام بمطلوبهم (أنها) أي الإضافة في قوله تعالى {بلسان
قومه} (للاختصاص ) أي لاختصاصهم بها في التعبير عن مقاصدهم دائما أو غالبا من
بين سائر اللغات (ولا يستلزم) اختصاصهم بها (وضعهم) أي أن يكونوا هم
الواضعين لها (بل يثبت مع تعليم آدم بنيه إياها وتوارث الأقوام فاختص كل بلغة )
أي بل يجوز أن يكونوا مختصين بها بعدم وضعه تعالى إياها وتوقيفهم عليها بأن يكون
الله تعالى وضعها , وعلمها لآدم ثم آدم علمها لبنيه ثم ما زال الخلف منهم
يتوارثها من السلف إلى أن تميز كل منهم بإرث لغة واختص بها دون من سواه .
ولا ريب أن مثل هذا مما يسوغ الإضافة ولا سيما والكلام
الفصيح طافح بإضافة الشيء إلى غيره بأدنى ملابسة فما الظن بمثل هذا , وهذا
الجائز معارض لذلك الجائز ثم يترجح هذا بموافقته لظاهر { وعلم آدم الأسماء }
, ومخالفة ذاك لهذا الظاهر إذ الأصل عدم المخالفة , والجمع بين المتعارضين
واجب ما أمكن , وقد أمكن بهذا الوجه فيتعين (وأما تجويز كون علم) أي كون
المراد بعلم آدم الأسماء كلها (ألهمه الوضع) بأن بعث داعيته له , وألقى في
روعه كيفيته حتى فعل وسمى ذلك تعليما مجازا كما في قوله تعالى {وعلمناه صنعة
لبوس لكم} , وأطلق الأسماء , وأراد وضعها لكونها متعلقة كما هذا تأويل من
الاصطلاحية لدفع الاحتجاج بهذه الآية للتوقيفية (أو ما سبق وضعه ممن تقدم) أي
أو ألهمه الأسماء السابق وضعها ممن تقدم آدم فقد ذكر غير واحد من المفسرين أن الله
تعالى خلق جانا قبل آدم , وأسكنهم الأرض ثم أهلكهم بذنوبهم , والظاهر أنه كان
لهم لغة كما هذا تأويل آخر من الاصطلاحية لدفع الاحتجاج بهذه الآية للتوقيفية
(فخالف الظاهر) من الآية مخالفة قوية ونحن ندعي الظهور , والاحتمالات البعيدة
لا تدفعه أما الأول فلأن المتبادر من تعليم الله تعالى آدم الأسماء تعريف الله
إياه الألفاظ الموضوعة لمعانيها وتفهيمه بالخطاب لا بالإلهام , وأما الثاني فلأن
الأصل عدم وضع سابق على أن القوم المشار إليهم لم يثبت وجودهم على الوجه المذكور
ولو ثبت لم يلزم أن هذه اللغات كانت لهم ولا يصار إلى خلاف الظاهر إلا بدليل
كالإجماع في , وعلمناه ولم يوجد هنا ثم لما لزم من هذا ظن كون اللغات توقيفية
واشتهر أن لا ظن في الأصول نبه المصنف على أنه لا ضير فيه ; لأنها ليست من
مقاصده .
فقال (والمسألة ظنية من المقدمات , والمبادئ فيها
تغليب) أي , وإطلاق المبادئ على ما تضمنته هذه المقالة تغليب لما هو منها لكثرته
على ما ليس منها لقلته , وهذه المسألة من هذا القبيل فالمبدئية فيها من هذا
الباب من التغليب , ومن هنا قال أبو الربيع الطوفي : وهذه المسألة من رياضيات
الفن لا من ضرورياته ا ه . على أن مباحث الألفاظ قد يكتفى فيها بالظواهر كما
ذكره المحقق الشريف بل قد يكتفى بالظن في الأصول كما في كيفية إعادة المعدوم
ونحوها من الأمور المتعلقة بالاعتقاد , ولم يوجد فيها القطع فاندفع ما ذكره
الفاضل الكرماني عن أستاذه القاضي عضد الدين في درسه من أن المسألة علمية فلا
فائدة في بيان ظاهرية قول الأشعري كما ذكره ابن الحاجب إذ الظنون لا تفيد إلا في
العمليات . وقوله (كالتي تليها) أي كما أن الأمور السابقة على هذه من تعريف
اللغة وبيان سبب وضعها من المقدمات لهذا العلم , والمبدئية فيها من باب التغليب
المذكور أيضا ففاعل تليها ضمير مستتر يرجع إلى هذه المسألة , ومفعوله الذي هو
الهاء يرجع إلى الموصوف المقدر بين الجار والمجرور أي كالأمور التي تليها هذه
المسألة أو كما أن الأمور الآتية بعد هذه المسألة من بيان هل المناسبة بين اللفظ
والمعنى معتبرة ؟ . وبيان الموضوع له , وطرق معرفة اللغات من المقدمات لهذا
العلم , والمبدئية فيها من باب التغليب المذكور أيضا ففاعل تليها ضميره مستتر
يرجع إلى الأمور الذي هو الموصوف المقدر , ومفعوله الذي هو الهاء يرجع إلى هذه
المسألة أي كالأمور التي تلي هذه المسألة ; لأن تلك السوابق , وهذه < 72
> اللواحق ليست مما يتوقف عليه مسائل هذا العلم , وإنما تفيد نوع بصيرة فيه
.
فإذن هذا من النوع المسمى بالتوجيه عند أهل البديع
ثم هذا مما يشهد بما ذكرناه صدر هذه المقالة من أن إطلاق المصنف المبادئ على ما
اشتملت عليه من الأحكام اللغوية إنما هو بالاصطلاح المنطقي (وكون المراد بالأسماء
المسميات بعرضهم) أي , وما قيل أيضا من قبل الاصطلاحية دفعا لاحتجاج التوقيفية
بالآية الشريفة ليس المراد بالأسماء الألفاظ الموضوعة لمعانيها بل المراد بها
حقائق الأشياء وخواصها بأن علمه أن حقيقة الخيل كذا , وهي تصلح للكر والفر وأن
حقيقة البقر كذا , وهي تصلح للحرث , وهلم جرا بدليل قوله تعالى {ثم عرضهم على
الملائكة} ; لأن العرض للسؤال عن أسماء المعروضات فلا يكون المعروض نفس
الألفاظ على أن عرضها من غير تلفظ بها غير متصور وبتلفظ بها يأباه الأمر بالإتيان
بها على سبيل التبكيت ; ولأن الضمير الذي هو هم للأسماء إذ لم يتقدم غيره ,
وهي إنما تصلح لذلك إذا أريد بها الحقائق لإمكانه حينئذ تغليبا لذوي العلم على
غيرهم (مندفع بالتعجيز ب { أنبئوني بأسماء هؤلاء}) ; لأنه تعالى أمرهم
بالإنباء على سبيل التبكيت والإظهار لعجزهم عن القيام به , وأضاف فيه الأسماء
إلى هؤلاء , وهي المسميات .
ومعلوم أن ليس المراد بها هنا المسميات لما يلزمه من
إضافة الشيء إلى نفسه , وإنما المراد بها الألفاظ الدالة عليها فكذا الأسماء
التي هي متعلق التعليم , وإلا لما صح الإلزام بطلبه الأنباء بالأسماء ثم إنبائه
تعالى إياهم بها ; لأن صحته إنما تكون لو سأل الملائكة عما علم آدم لا عن شيء
آخر , والضمير في عرضهم للمسميات المدلول عليه ضمنا إذ التقدير : أما أسماء
المسميات فحذف المضاف إليه لدلالة المضاف عليه ; لأن الاسم لا بد له من مسمى ,
وعوض عنه اللام كقوله تعالى {واشتعل الرأس شيبا} كما هو مذهب الكوفيين وبعض
البصريين وكثير من المتأخرين . وأما الأسماء للمسميات فحذف الجار والمجرور
لدلالة الأسماء عليه كما هو مقتضى مذهب الباقين , وأيا ما كان فلا إشكال إذ لا
منافاة بين كون المراد بالأسماء الألفاظ وبين عود الضمير إلى المسميات التي هي ما
أضيفت الأسماء إليه أو كانت متعلقة بها هذا ولا يبعد عند العبد الضعيف - غفر
الله تعالى له - أن يقال في هذه الآية استخدام أعني يكون المراد بالأسماء في
{وعلم آدم الأسماء} الألفاظ ويكون الضمير في عرضهم راجعا إلى الأسماء مرادا
بها المسميات كقول الشاعر
إذا نزل السماء بأرض قوم
رعيناه وإن كانوا غضابا
, وهذا مع كونه من المحسنات البديعية أيسر وأسهل
(وبعد علم المسميات) أي , ومندفع أيضا ببعد أن يقال , وعلم آدم المسميات
; لأن المفعول الثاني للتعليم إنما يكون من قبيل الأعراض والصفات لا من قبيل
الأشخاص والذوات إلا بنوع مقبول من التأويلات كما يشهد به استقراء الاستعمالات فلا
يترك الظاهر القريب السالم من تكلف تأويل لاحتمال خفي من غير دليل.
ثالثها : وهو مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني ونقله
في الحاصل عن المحققين , وفي المحصول والتحصيل عن جمهورهم واختاره الإمام الرازي
, وأتباعه التوقف ولما كان ظاهر هذا عدم القول بمعين من الأقوال الممكنة فيها
, وقالوا في وجهه ; لأن كلا من المذاهب فيها ممكن لذاته لا يلزم من فرض وقوعه
محال لذاته , وشيء من الأدلة لا يفيد القطع فوجب الوقف أشار المصنف إليه مع
الاعتراض عليه بقوله (وتوقف القاضي) عن القطع بشيء من المذاهب (لعدم) دليل
(القطع) بذلك (لا ينفي الظن ) بأحدها , وهو ما الدليل يفيد ظنه بل يجامع
الظن بأحدها عدم القطع بشيء منها فلا يلزم الوقف إلا بالنسبة إلى القطع فقط
(والمبادر ) إلى الذهن والأحسن ولكن المبادر (من قوله ) أي القاضي (كل )
من المذاهب فيها (ممكن عدمه) أي الظن بأحدهما ; لأن مثل هذا الإطلاق يقتضي
المساواة في الاحتمال من غير رجحان لاحتمال على آخر (وهو) أي عدم الظن بأحدها
(ممنوع) < 73 > لوجود ما يفيد ظن أحدها راجحا على غيره كما لعله دليل
الأشعري بالنسبة إلى قوله على أن عبارة البديع والقاضي كل من هذه ممكن والوقوع ظني
فهذا ظاهر في أن هذا لفظه , وهذا صريح منه بظن أحدها وحينئذ فلا بأس بحمل
الإمكان على ما ذكروه يعني ليس منها شيء ممتنع لذاته ثم النظر إلى الواقع يفيد ظن
وقوع أحدها سالما عن المعارض الموجب للوقف , والله تعالى أعلم بما هو عنده فهو
قائل به كذلك متوقف عن القطع به وبغيره لكن على هذا أن يقال إذا كان الأمر على هذا
فلا ينبغي أن يكون واقفا عن القطع بل يكون قاطعا بعدم القطع بأحدها ولا ينافيه ظن
أحدها لما ذكرنا ويمكن الجواب بأنه لعله كذلك على أنه إنما يلزم ذلك أن لو وجد من
نفسه القطع بذلك عن ملاحظة ما في الواقع موجبا له في نظره والظاهر أنه لم يجده
لمانع قام عنده .
وإن لم يكن ذلك بمانع في الواقع فأخبر عما عنده في
ذلك ثم كأنه يرى أن الظن لا يغني في هذه شيئا فأطلق الوقف , ولم يقيده بقوله عن
القطع بناء على ظن تبادر ذلك منه فليتأمل . رابعها : وهو مذهب الأستاذ أبي
إسحاق الإسفراييني أن القدر الذي يحتاج إليه الواضع في تعريف الناس اصطلاحه
ليوافقوه عليه توقيفي من الله تعالى , وما عداه ممكن ثبوته بكل من التوقيف
والاصطلاح أو هو ثابت بالاصطلاح على اختلاف النقل عنه في هذا كما نذكره قريبا
ويعرف هذا بالمذهب التوزيعي , وقد أشار المصنف إليه في ضمن رده بقوله (ولفظ
كلها) في قوله تعالى { وعلم آدم الأسماء كلها } (ينفي اقتصار الحكم على كون
ما وضعه سبحانه القدر المحتاج إليه في تعريف الاصطلاح ) والأحسن ينفي اقتصار ما
وضعه الله على القدر المحتاج إليه في تعريف الاصطلاح (إذ يوجب) لفظ كلها
(العموم ) للمحتاج إليه وغيره فإنه من ألفاظ العموم , ولعل المصنف إنما اقتصر
على هذا مع أن الأسماء تفيده أيضا ; لأنه أنص فيه ثم غاية ما فيه أنه خصص منه ما
تقدم ذكره لقيام دليل التخصيص عليه فبقي فيما وراءه على العموم ولا بدع في ذلك
(فانتفى) بهذا (توقف الأستاذ في غيره) أي غير المحتاج في بيان الاصطلاح
بالنسبة إلى ما هو الواقع بعينه فيه من التوقيف والاصطلاح (كما نقل عنه ) أي
الأستاذ لعدم موجب التوقف في ذلك .
ومن الناقلين عنه هذا الآمدي وابن الحاجب ونقل
الإمام الرازي والبيضاوي عنه أن الباقي اصطلاحي , وعلى هذا يقال بدل هذا فانتفى
قوله بالاصطلاح في غيره , ولعل المصنف اقتصر على الأول لكونه أثبت عنده ثم لما
كان وجه قوله دعوى لزوم الدور على تقدير انتفاء التوقيف في المحتاج إليه كما ذكره
ابن الحاجب بأن يقال ; لأنه لو لم يكن القدر المحتاج إليه في بيان الاصطلاح
بالتوقيف لتوقف الاصطلاح على سبق معرفة ذلك القدر , والمفروض أنه يعرف بالاصطلاح
فيلزم توقفه على سبق الاصطلاح المتوقف على معرفته , وهو الدور هذا تقرير القاضي
عضد الدين , وأما العلامة , ومن تبعه فبنوا لزوم الدور على أنه لا بد في
الأخيرة من العود إلى الاصطلاح الأول ضرورة تناهي الاصطلاحات أو دعوى التسلسل كما
ذكره الآمدي بأن يقال لو لم يكن القدر المحتاج إليه في تعريف الاصطلاح بالتوقيف
لتوقف معرفة الاصطلاح على سبق معرفة ذلك القدر باصطلاح آخر سابق , وهو على آخر
, وهلم جرا والدور والتسلسل باطلان فملزومهما باطل جمع المصنف بينهما مصرحا
بانتفائهما فقال (وإلزام الدور أو التسلسل لو لم يكن توقيف البعض منتف) ; لأنا
نمنع توقف القدر المحتاج إليه على الاصطلاح قولكم المفروض أنه يعرف بالاصطلاح
ممنوع بل أنه لا يعرف بالتوقيف , وهو لا يوجب أن يعرف بالاصطلاح بل بالترديد
والقرائن كالأطفال وبهذا يظهر أنه يمكن منع توقف الاصطلاح على سبق معرفة ذلك القدر
(بل الترديد مع القرينة كاف في الكل) .
ثم لما لزم من سوق المصنف الجنوح إلى المذهب
التوقيفي وكان على الاستدلال له بالآية المتقدمة أن يقال إنها إنما تثبت < 74
> بعض المدعى لاختصاص الأسماء بنوع خاص من أنواع الكلمة الثلاثة أشار إلى
دفعه عودا على بدء فقال (وتدخل الأفعال والحروف) في الأسماء من قوله تعالى
(وعلم آدم الأسماء) (لأنها أسماء) ; لأن الاسم لغة ما يكون علامة للشيء
ودليلا يرفعه إلى الذهن من الألفاظ , وملخصه اللفظ الدال بالوضع , وهذا شامل
لأنواعها الثلاثة , وأما تخصيصه بالنوع المقابل للفعل والحرف فاصطلاح حدث من أهل
العربية بعد وضع اللغات فلا يحمل القرآن عليه على أنه لو سلم أن الاسم لغة يختص
بالنوع المذكور فالتكلم بالأسماء لإفادة المعاني المركبة إذ هي الغرض من الوضع
والتعليم يتعذر بدونهما على أنه لو سلم عدم التعذر فحيث ثبت أن الواضع للأسماء هو
الله فكذا الأفعال والحروف إذ لا قائل بأن الأسماء توقيفية دون ما عداها ,
والقائل بالتوزيع لم يذهب إليه , وإن أمكن على مذهبه أن يقال به (تذنيب) ثم
قيل لا فائدة لهذا الاختلاف , وقيل بل له فائدة فقال المازري هي أن من قال
بالتوقيف جعل التكليف مقارنا لكمال العقل , ومن قال بالاصطلاح أخر التكليف عن
العقل مدة الاصطلاح على معرفة الكلام , وقيل غير ذلك , والله سبحانه أعلم .
المقام الرابع في أنه هل يحكم باعتبار المناسبة بين
اللفظ ومعناه الموضوع له ؟ . فقال المصنف آتيا بما هو من فصل الخطاب علاقة
وكيدة بين الخروج من الكلام إلى آخر الأمر (هذا) أو مضى هذا أو هذا كما ذكر
(أما اعتبار المناسبة) بين اللفظ ومعناه بمعنى أنه لا يقع وضع لفظ لمعنى إلا
بعد أن يكون بينهما مناسبة (فيجب الحكم به) أي باعتبارها بينهما (في وضعه
تعالى ) أي فيما علم أن واضع ذلك اللفظ لذلك المعنى هو الله سبحانه فإن خفي ذلك
علينا بالنسبة إلى بعض الألفاظ مع معانيها فلقصور منا أو لغيره من مقتضيات حكمته
وإرادته. وإنما قلنا هذا (للقطع بحكمته) وكيف لا , وهو العليم الحكيم ,
وهذا القدر من بعض آثار مقتضياتها فيجب القطع به (وهو) أي اعتبار المناسبة
بينهما (ظاهر في غيره) أي مظنون وجوده في غير ما علم من الألفاظ وضع الباري
تعالى إياها لمعانيها ; لأن الظاهر حكمة الواضع ورعاية التناسب من مقتضياتها ,
فالظاهر وجوده . وقوله (والواحد قد يناسب بالذات الضدين) جواب عن دخل مقدر
, وهو أن اللفظ الواحد قد يكون للشيء وضده كالجون للأبيض والأسود , وبمناسبته
لأحدهما لا يكون مناسبا للآخر . وإيضاح الجواب أن اللفظ الواحد يجوز أن يناسب
بالذات معنيين متضادين من وجهين كلا من وجه فيصدق أن بين كل من المعنيين اللذين
وضع اللفظ لكل منهما وبين اللفظ مناسبة ذاتية , وكشف الغطاء عن هذا أن المناسبة
اتحاد الشيئين في المضاف كاتحاد زيد وعمرو في بنوة بكر , واتحاد متضادين في
المضاف ليس بممتنع ولا مستبعد (فلا يستدل على نفي لزومها ) أي المناسبة بين
اللفظ , ومعناه كما ذهب إليه من يذكره (بوضع) اللفظ (الواحد لهما) أي
للضدين كما تواردوه ; لأنه قد ظهر أن هذا لا ينافيها ثم لما كان الذي عليه
الجمهور تساوي نسبة الألفاظ إلى معانيها , وأن المخصص لبعضها ببعض المعاني دون
بعض هو إرادة الواضع المختار , سواء كان هو الله تعالى أو غيره , وقد نقل غير
واحد من الثقات أن أهل التكسر وبعض المعتزلة منهم عباد بن سليمان الصيمري ذهبوا
إلى أن بين اللفظ والمعنى مناسبة طبيعية موجبة لدلالته عليه فلا يحتاج إلى الوضع
, يدرك ذلك من خصه الله به كما في القافة ويعرفه غيره منه .
وقد ذكر القرافي أنه حكى أن بعضهم كان يدعي أنه يعلم
المسميات من الأسماء فقيل له ما مسمى أذغاغ , وهو من لغة البربر فقال أجد فيه
يبسا شديدا , وأراه اسم الحجر , وهو كذلك . ورد الجمهور هذا القول بوجوه
منها أنه لو كان كذلك لامتنع نقل اللفظ عن معناه الذاتي إلى معنى آخر بحيث لا يفهم
منه الذاتي أصلا واللازم باطل فالملزوم مثله ثم ذكر السكاكي وغيره أن أهل التصريف
والاشتقاق على أن للحروف في أنفسها خواص بها تختلف كالجهر والهمس وغيرهما <
75 > مستدعية في حق عالمها إذا أخذ في تعيين شيء يركب منه المعنى أنه لا يهمل
التناسب بينه وبين المعنى الذي عينه له قضاء لحق الحكمة .
ومن ثمة ترى الفصم بالفاء الذي هو حرف رخو لكسر
الشيء من غير أن يبين وبالقاف الذي هو حرف شديد لكسر الشيء حتى يبين , وأن
لهيئات تركيبات الحروف أيضا خواص يلزم فيها ما يلزم في الحروف , ومن ثمة كان
الفعلان والفعلى بالتحريك لما في مسماه كثرة حركة كالنزوان والحيدى . وقد تقرر
أنه ينبغي حمل كلام العاقل على الصحة ما أمكن ولا سيما من كان من عداد العلماء لا
جرم أن أول السكاكي قول عباد بهذا مجوزا أن يكون هذا مراده بنوع من الرمز إليه
ووافقه المصنف في الجملة عليه لكن من غير التزام ضابط في المناسبة من جهة خاصة
ليشمل ما ذكر وغيره لما على الحصر فيه من التعقب لما نذكر قريبا .
فقال : (وهو) أي وجوب الحكم باعتبار المناسبة
قطعا أو ظنا بين اللفظ , ومعناه كما فصلناه (مراد القائل بلزوم المناسبة في
الدلالة) أي دلالة الألفاظ على معانيها فإنه ممكن ولم يوجد ما يمنع إرادته بل
وجد ما يعينها , وهو حمل كلام العاقل على الصحة ما أمكن (وإلا فهو ضروري
البطلان) أي , وإن لم يكن هذا مراد عباد من قوله فقوله ضروري البطلان عند أولي
العلم والإتقان كما يشهد به ما ذكروه من الحجج والبرهان ثم ينبغي التنبه هنا لأمرين
أحدهما أن صرف قول عباد , ومن وافقه عن ظاهره إلى أن يكون المراد به كما عليه
التصريفيون إنما يتم إذا كان عباد , ومن وافقه قائلين بأنه لا بد مع ذلك من
الوضع كما ذكر الإسنوي أنه مقتضى كلام الآمدي في النقل عنهم أما إذا كانوا مصرحين
بأنه يفيد المعنى بذاته لمناسبة ذاتية بينهما من غير احتياج إلى وضع كما قررناه
آنفا , ونقله في المحصول عن عباد , وقال الأصفهاني إنه الصحيح عنه فلا يتم وهو
ظاهر ثانيهما أنه يطرق ما عليه التصريفيون ما ذكره المحقق الشريف من أنه لا يخفى
أن اعتبار التناسب بين اللفظ والمعنى بحسب خواص الحروف والتركيبات يتأتى في بعض
الكلمات , وأما اعتباره في جميع كلمات لغة واحدة فالظاهر أنه متعذر فما الظن
باعتباره في جميع كلمات اللغات .
الموضوع له اللفظ
المقام الخامس في بيان أن المعنى الموضوع له اللفظ
هل هو الذهني أو الخارجي أو الأعم منهما , وقد تعرض المصنف لهذا بقوله
(والموضوع له) اللفظ (قيل الذهني دائما) كأنه يعني سواء كان له وجود في الذهن
بالإدراك , وفي الخارج بالتحقق كالإنسان أو في الذهن لا في الخارج كبحر زئبق ,
وسواء كان اللفظ مفردا أو مركبا , وهذا مختار الإمام الرازي ووجه أما في المفرد
فلاختلاف اللفظ لاختلاف الذهني دون الخارجي فإنا إذا رأينا جسما من بعيد وظنناه
حجرا سميناه به فإذا دنونا منه , وعرفنا أنه حيوان لكن ظنناه طائرا سميناه به
فإذا ازداد القرب , وعرفنا أنه إنسان سميناه به , وهذا آية على أن الوضع
للذهني , وأما في المركب فلأن قام زيد مثلا يدل على حكم المتكلم بأن زيدا قائم
, وهو أمر ذهني إن طابق كان صدقا , وإلا كان كذبا لا على قيام زيد في الخارج
, وإلا كان صدقا وامتنع كذبه وليس كذلك وأجيب عن الأول بأن اختلاف الاسم لاختلاف
المعنى في الذهن لظن أنه في الخارج كذلك لا لمجرد اختلافه في الذهن فالموضوع له ما
في الخارج , والتعبير عنه تابع لإدراك الذهن له حسبما هو كذا , وعن الثاني
بأنا لا نسلم أنه لو كان موضوعا للخارجي لامتنع الكذب , وإنما يلزم لو كانت
إفادته للخارجي قطعية , وهو ممنوع لجواز أن تكون ظنية كالغيم الرطب للمطر فيختلف
المدلول مع وجود اللفظ فيكون كذبا ثم يلزم هذا القول أن لا تكون دلالة اللفظ على
الموجودات في الخارج مطابقة ولا تضمنا , وأن لا يكون استعماله فيها حقيقة .
(وقيل ) المعنى الموضوع له اللفظ هو (الخارجي)
, وممن عزى إليه هذا أبو إسحاق الشيرازي في شرح اللمع والظاهر أن هذا فيما
لمعناه وجود ذهني وخارجي لا ذهني فقط ثم قد تضمن رد وجه ما قبله وجهه (وقيل )
المعنى الموضوع له اللفظ هو (الأعم) من الذهني والخارجي , ونص الأصفهاني على
أنه الحق < 76 > في المفرد فالإنسان مثلا موضوع للحيوان الناطق أعم من
أن يكون موجودا في الذهن أو في الخارج والوجود عينا أو ذهنا خارج عن مفهومه زائد
على الماهية كما أن كونه واحدا أو كثيرا زائد عليه , وما تقدم من إطلاق الحجر
والطائر والإنسان على الجسم الواحد المرئي من بعيد ثم قريب إنما هو باعتبار اعتقاد
أنه في نفس الأمر كذلك لا باعتبار أنه موجود في الذهن أو في الخارج قال , وأما
المركب الخبري فإنما يفيد حكم المتكلم بأن النسبة بين الطرفين إيجابية أو سلبية
واقعة في نفس الأمر وبهذا الاعتبار يحتمل التصديق والتكذيب , وأما الإنشائية فموضوعه
لإنشاء مدلولها , وإثباته وليس لها خارج حتى يفيد إظهاره , وأما سائر المركبات
فحكمه حكم المفردات (ونحن) نقول اللفظ موضوع (في الأشخاص للخارجي) أي في
الأعلام الشخصية للمعنى الخارجي , وهو المسمى المتشخص في الخارج كما يبعد أن
يذهب أحد إلى خلافه .
وقوله (ووجوب استحضار الصورة للوضع لا ينفيه)
جواب عن دخل مقدر هو أن الوضع للشيء فرع تصوره فلا بد من استحضار صورته في الذهن
عند إرادة الوضع فحينئذ ما وضع اللفظ له هو الصورة الذهنية لا العينية . وتوضيح
الجواب أن هذا الاستحضار ليس مقصودا لذاته بل ليتوصل به إلى معرفة الموضوع له الذي
هو المعنى الخارجي وظاهر أن هذا لا ينافي كون الوضع له وكيف ينافيه , وهو طريق
إليه (ونفيناه) أي ونفينا نحن في أوائل بحث المطلق من هذا الكتاب الوضع
(للماهيات الكلية سوى علم الجنس على رأي) , وهو رأي الفارقين بينه وبين اسم
الجنس في المعنى بأن علم الجنس كأسامة موضوع للحقيقة المتحدة في الذهن , واسم
الجنس كأسد موضوع للفرد الشائع في أفراده وسيقول المصنف ثمة إن الفرق بينهما هكذا
هو الأوجه .
واعلم أن هذا موهم بأن ثم من يقول بأن علم الجنس لم
يوضع للحقيقة المتحدة في الذهن ولم أقف عليه بل الظاهر أن لا خلاف في أن علم الجنس
موضوع للماهية , وإنما الخلاف في اسم الجنس كما سنشير إليه في المطلق , وعلى
هذا ينبغي حذف على رأي أو زيادة اسم الجنس قبله (بل) نقول : اللفظ في غير
الأعلام الشخصية والجنسية موضوع (لفرد غير معين فيما أفراده خارجية أو ذهنية )
هذا والذي يظهر أن ما كان واضعه الله تعالى , ومسماه مدرك في الذهن محقق في
الخارج فهو موضوع لمسماه الخارجي كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى (وعلم آدم
الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة) الآية . فإن العرض في هذا إنما يكون لما
له وجود في نفس الأمر , وقد تقرر أن مسميات الأسماء التي وضعها الله تعالى لها
, وعلمها آدم هي المعروضات , وما الظاهر أن الله تعالى وضعه لمعنى مدرك في
الذهن غير موجود في الخارج فهو موضوع لذلك في الذهن , وما كان واضعه غيره تعالى
فمنه ما هو موضوع للشخص الخارجي كالعلم الشخصي , ومنه ما هو موضوع للماهية
الكلية الذهنية كالعلم الجنسي , ومنه ما هو موضوع لفرد غير معين أي شائع في جنسه
, وهو اسم الجنس النكرة كما ذكره المصنف , والله سبحانه أعلم .