Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

 

العودة إلى الصفحة الأولى

 

 

مباحث لغوية في كتب الأصول

إرشاد الفحول إلى علم الأصول/ الشوكاني

 

الفصل الثالث في المبادئ اللغوية

اعلم أن البحث إما أن يقع عن ماهية الكلام أو عن كيفية دلالته ، ثم لما كانت دلالته وضعية فالبحث عن هذه الكيفية إما أن يقع عن الواضع أو الموضوع أو الموضوع له أو عن الطريق التي يعرف بها الوضع فهذه أبحاث خمسة .

البحث الأول : عن ماهية الكلام ، وهو يقال بالاشتراك على المعنى القائم بالنفس وعلى الأصوات المقطعة المسموعة ولا حاجة إلى البحث في هذا الفن عن المعنى الأول ، بل المحتاج إلى البحث عنه فيه هو المعنى الثاني فالأصوات كيفية للنفس وهي الكلام المنتظم من الحروف المسموعة المتميزة المتواضع عليها والانتظام هو التأليف للأصوات المتوالية على السمع وخرج بقوله الحروف الحرف الواحد لأن أقل الكلام حرفان وبالمسموعة الحروف المكتوبة وبالمتميزة أصوات ما عدا الإنسان وبالمتواضع عليها المهملات وقد خصص النحاة الكلام بما تضمن كلمتين بالإسناد وذهب كثير من أهل الأصول إلى أن الكلمة الواحدة تسمى كلاماً .

البحث الثاني : عن الواضع . اختلف في ذلك على أقوال، الأول أن الواضع هو الله سبحانه وإليه ذهب الأشعري وأتباعه وابن فورك . القول الثاني أن الواضع هو البشر وإليه ذهب أبو هاشم ومن تابعه من المعتزلة . القول الثالث أن ابتداء اللغة وقع بالتعليم من الله سبحانه والباقي بالاصطلاح . القول الرابع أن ابتداء اللغة وقع بالاصطلاح والباقي توقيف ، وبه قال الأستاذ أبو اسحق ، وقيل إنه قال بالذي قبله . والقول الخامس أن نفس الألفاظ دلت على معانيها بذاتها ، وبه قال عباد بن سليمان الصيمري . القول السادس أنه يجوز كل واحد من هذه الأقوال من غير جزم بأحدها وبه قال الجمهور كما حكاه صاحب المحصول .

احتج أهل القول الأول بالمنقول والمعقول . أما المنقول فمن ثلاثة أوجه :

الأول : قوله سبحانه : وعلم آدم الأسماء كلها دل هذا على أن الأسماء توقيفية وإذا ثبت ذلك في الأسماء ثبت أيضاً في الأفعال والحروف إذ لا قائل بالفرق ، وأيضاً الاسم إنما سمي اسماً لكونه علامة على مسماه والأفعال والحروف كذلك وتخصيص الاسم ببعض أنواع الكلام اصطلاح للنحاة.

الوجه الثاني : أن الله سبحانه ذم قوماً على تسميتهم بعض الأشياء دون توقيف بقوله إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان فلو لم تكن اللغة توقيفية لما صح هذا الذم.

الوجه الثالث : قوله سبحانه : ومن آياته خلق السماوات والأرض وا ختلاف ألسنتكم وألوانكم والمراد اختلاف اللغات لا اختلافات بالتفات الألسن . وأما المعقول فمن وجهين :

الأول : أن الاصطلاح إنما يكون بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره وذلك لا يعرف إلا بطريق كالألفاظ والكتابة وكيفما كان فإن ذلك الطريق ، إما الاصطلاح ويلزم التسلسل أو التوقيف وهو المطلوب .

الوجه الثاني : أنها لو كانت بالمواضعة لجوز العقل اختلافها وأنها على غير ما كانت عليه ، لأن اللغات قد تبدلت وحينئذ لا يوثق بها . وأجيب عن الاستدلال بقوله وعلم آدم الأسماء بأن المراد بالتعليم الإلهام كما في قوله وعلمناه صنعة لبوس لكم أو تعليم ما سبق وضعه من خلق آخر ، أو المراد بالأسماء المسميات بدليل قوله ثم عرضهم ويجاب عن الاستدلال بقوله إن هي إلا أسماء سميتموها بأن المراد ما اخترعوه من الأسماء للأصنام من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ووجه الذم مخالفة ذلك لما شرعه الله . وأجيب عن الاستدلال بقوله واختلاف ألسنتكم بأن المراد التوقيف عليها بعد الوضع وإقرار الخلق على وضعها . ويجاب على الوجه الأول من المعقول بمنع لزوم التسلسل ، لأن المراد وضع الواضع هذا الاسم لهذا المسمى ، ثم تعريف غيره بأنه وضعه كذلك . ويجاب عن الوجه الثاني بأن تجويز الاختلاف خلاف الظاهر ، ومما يدفع هذا القول أن حصول اللغات لو كان بالتوقيف من الله عز وجل لكان ذلك بإرسال رسول لتعليم الناس لغتهم لأنه الطريق المعتاد في التعليم للعباد ولم يثبت ذلك ويمكن أن يقال إن آدم عليه السلام علمها غيره وأيضاً يمكن أن يقال إن التعليم لا ينحصر في الإرسال لجواز حصوله بالإلهام ، وفيه أن مجرد الإلهام لا يوجب كون اللغة توقيفية ، بل هي من وضع الناس بإلهام الله سبحانه لهم كسائر الصنائع .

احتج أهل القول الثاني : بالمنقول والمعقول ، أما المنقول فقوله سبحانه وتعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه أي بلغتهم فهذا يقتضي تقدم اللغة على بعثة الرسل ، فلو كانت اللغة توقيفية لم يتصور ذلك إلا بالإرسال فيلزم الدور لأن الآية تدل على سبق اللغات للإرسال والتوقيف يدل على سبق الإرسال لها . وأجيب بأن كون التوقيف لا يكون إلا بالإرسال إنما يوجب سبق الإرسال على التوقيف لا سبق الإرسال على اللغات حتى يلزم الدور ، لأن الإرسال لتعليمها إنما يكون بعد وجودها معلومة للرسول عادة لترتب فائدة الإرسال عليه . وأجيب أيضاً بأن آدم عليه السلام ع لمها كما دلت عليه الآية وإذا كان هو الذي علمها لأقدم رسول اندفع الدور . وأما المعقول فهو أنها لو كانت توقيفية لكان إما أن يقال إنه تعالى يخلق العلم الضروري بأن وضعها لتلك المعاني أو لا يكون كذلك . والأول لا يخلو ، إما أن يقال خلق ذلك العلم في عاقل أو في غير عاقل وباطل أن يخلقه في عاقل لأن العلم بأنه سبحانه وضع تلك اللفظة لذلك المعنى يتضمن العلم به سبحانه ، فلو كان ذلك العلم ضرورياً لكان العلم به سبحانه ضرورياً ، ولو كان العلم بذاته سبحانه ضرورياً لبطل التكليف لكن ذلك باطل لما ثبت أن كل عاقل يجب أن يكون مكلفاً ، وباطل أن يخلقه في غير العاقل لأن من البعيد أن يصير الإنسان الغير العاقل عالماً بهذه اللغات العجيبة والتركيبات اللطيفة.

احتج أهل القول الثالث : بأن الاصطلاح لا يصح إلا بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره ، فإن عرفه بأمر آخر اصطلاحي لزم التسلسل فثبت أنه لا بد في أول الأمر من التوقيف ثم بعد ذلك لا يمتنع أن تحدث لغات كثيرة بسبب الاصطلاح بل ذلك معلوم بالضرورة ، فإن الناس يحدثون في كل زمان ألفاظاً ما كانوا يعلمونها قبل ذلك . وأجيب بمنع توقفه على الاصطلاح بل يعرف ذلك بالترديد وال قرائن كالأطفال .

وأما أهل القول الرابع : فلعلهم يحتجون على ذلك بأن فهم ما جاء توقيفاً لا يكون إلا بعد تقدم الاصطلاح والمواضعة . ويجاب عنه بأن التعليم بواسطة رسول أو بإلهام يغني عن ذلك .

واحتج أهل القول الخامس : بأنه لو لم يكن بين الأسماء والمسميات مناسبة بوجه ما لكان تخصيص الاسم المعين للمسمى المعين ترجيحاً بدون مرجح وإن كان بينهما مناسبة ثبت المطلوب ، وأجيب بأنه إن كان الواضع هو الله سبحانه كان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين كتخصيص الاسم والمسمى كان ذلك ثابتاً في وضعه سبحانه وإن خفي علينا وإن كان الواضع البشر فيحتمل أن يكون السبب خطور ذلك اللفظ في ذلك الوقت بالبال دون غيره كما يخطر ببال الواحد منا أن يسمي ولده باسم خاص .

واحتج أهل القول السادس : على ما ذهبوا إليه من الوقف بأن هذه الأدلة التي استدل بها القائلون لا يفيد شيء منها القطع بل لم ينهض شيء منها لمطلق الدلالة فوجب عند ذلك الوقف لأن ما عداه هو من التقول على الله بما لم يقل وأنه باطل وهذا هو الحق .

البحث الثالث : عن الموضوع . اعلم أنه لما كان الفرد الواحد من هذا النوع الإنساني لا يستقل وحده بإصلاح جميع ما يحتاج إليه لم يكن بد في ذلك من جمع ليعين بعضهم بعضاً فيما يحتاج إليه، وحينئذ يحتاج كل واحد منهم إلى تعريف صاحبه بما في نفسه من الحاجات وذلك التعريف لا يكون إلا بطريق من أصوات مقطعة أو حركات مخصوصة أو نحو ذلك فجعلوا الأصوات المقطعة هي الطريق إلى التعريف لأن الأصوات أسهل من غيرها وأقل مؤنة ولكون إخراج النفس أمراً ضرورياً فصرفوا هذا الأمر الضروري إلى هذا التعريف ولم يتكلفوا له طريقاً أخرى غير ضرورية مع كونها تحتاج إلى مزاولة ، وأيضاً فإن الحركات والإشارات قاصرة عن إفادة جميع ما يراد فإن ما يراد تعريفه قد لا تمكن الإشارة الحسية إليه كالمعدومات . إذا عرفت هذا فاعلم أن الموضوعات اللغوية هي كل لفظ وضع لمعنى فيخرج ما ليس بلفظ من الدول الموضوعة وما ليس بموضوع من المحرفات والمهملات ويدخل في اللفظ المفردات والمركبات الستة وهي الإسنادي والوصفي والإضافي والعادي والمزجي والصوتي . ومعنى الوضع يتناول أمرين : أعم وأخص ، فالأعم تعيين اللفظ بإزاء معنى ، والأخص تعيين اللفظ للدلالة على معنى .

البحث الرابع : عن الموضوع له:  قال الجويني والرازي وغيرهما : إن اللفظ موضوع للصورة الذهنية سواء كانت موجودة في الذهن والخارج أو فى الذهن فقط ، وقيل هو موضوع للموجود الخارجي وبه قال أبو إسحاق ، وقيل هو موضوع للأعم من الذهني والخارجي ورجحه الأصفهاني ، وقيل إن اللفظ في الأشخاص : أي الأعلام الشخصية موضوع للموجود الخارجي ولا ينافي كونه للموجود الخارجي وجوب استحضار الصورة الذهنية فالصورة الذهنية آلة لملاحظة الوجود الخارجي لا أنها هي الموضوع لها ، وأما فيما عدا الأعلام الشخصية فاللفظ موضوع لفرد غير معين وهو الفرد المنتشر فيما وضع المفهوم كلى أفراده خارجية أو ذهنية ، فإن كانت خارجية فالموضوع له فرد ما من تلك الأفراد الخارجية ، وإن كانت ذهنية له فرد ما من الذهنية ، وإن كانت ذهنية وخارجية فالاعتبار بالخارجية وقد ألحق علم الجنس بالأعلام الشخصية من يفرق بينه وبين اسم الجنس فيجعل علم الجنس موضوعاً للحقيقة المتحدة واسم الجنس لفرد منها غير معين . وفي إسم الجنس مذهبان :

أحدهما : أنه موضوع للماهية مع وحدة لا بعينها ويسمى فرداً منتشراً وإلى هذا ذهب الزمخشري وابن الحاجب ورجحه السعد وابن الهمام .

والثاني : أنه موضوع للماهية من حيث هي ، ورجحه الشريف ، فالموضوع له على المذهب الأول هو الماهية بشرط شيء ، وعلى المذهب ا لثاني هو الماهية لا بشرط شيء .

البحث الخامس : عن الطريق التي يعرف بها الوضع . اعلم أنه لما كان الكتاب والسنة واردين بلغة العرب وكان العلم بهما متوقفاً على العلم بها كان العلم بها من أهم الواجبات ولا بد في ذلك من معرفة الطريقة التي نقلت هذه اللغة العربية بها إلينا إذ لا مجال للعقل في ذلك لأنها أمور وضعية والأمور الوضعية لا يستقل العقل بإدراكها فلا تكون الطريق إليها إلا نقلية ، والحق أن جميعها منقول بطريق التواتر ، وقيل ما كان منها لا يقبل التشكيك كالأرض والسماء والحر والبرد ونحوها فهو منقول بطريق التواتر ، وما كان منها يقبل التشكيك كاللغات التي فيها غرابة فهو منقول بطريق الآحاد ولا وجه لهذا فإن الأئمة المشتغلين بنقل اللغة قد نقلوا غريبها كما نقلوا غيره وهم عدد لا يجوز العقل تواطؤهم على الكذب في كل عصر من العصور هذا معلوم لكل من له علم بأحوال المشتغلين بلغة العرب ، وقد أورد الرازي في المحصول تشكيكاً على هذا كعادته المستمرة في مصنفاته حتى في تفسير الكتاب العزيز ، فقال أما التواتر فالأشكال عليه من وجوه :

الأول : أنا نجد الناس مختلفين في معاني الألفاظ التي هي أكثر الألفاظ دوراناً عل ى ألسنة المسلمين اختلافاً لا يمكن القطع بما هو الحق كلفظة الله تعالى فإن بعضهم زعم أنه ليست بعربية بل سريانية ، والذين جعلوها عربية اختلفوا في أنها من الأسماء المشتقة أو الموضوعة ، والقائلون بالاشتقاق اختلفوا اختلافاً شديداً ، وكذا القائلون بكونها موضوعة اختلفوا أيضاً اختلافاً كثيراً . ومن تأمل أدلتهم في تعيين مدلول هذه اللغة علم أنها متعارضة وأن شيئاً منها لا يفيد الظن الغالب فضلاً عن اليقين ، وكذا اختلفوا في الإيمان والكفر والصلاة والزكاة حتى إن كثيراً من المحققين في علم الاشتقاق زعم أن اشتقاق الصلاة من الصلوين وهما عظما الورك ومن المعلوم أن هذا الاشتقاق غريب ، وكذلك اختلفوا في الأوامر والنواهي وصيغ العموم مع شدة اشتهارها وشدة الحاجة إليها اختلافاً شديداً ، وإذا كان الحال في هذه الألفاظ التي هي أشهر الألفاظ والحاجة إلى استعمالها ماسة جداً كذلك فما ظنك بسائر الألفاظ ؟ وإذا كان كذلك ظهر أن دعوى التواتر في اللغة والنحو متعذر انتهى . ولا يخفاك أن محل النزاع هو كون نقل هذه اللغة العربية إلينا بطريق التواتر في اللغة والنحو متعذر انتهى . ولا يخفاك أن محل النزاع هو كون نقل اللغة العربية إلين ا بطريق التواتر عن العرب الموثوق بعربيتهم فالاختلاف في الاشتقاق والوضع وغير ذلك خارج عن محل النزاع ولا يصلح للتشكيك به بوجه من الوجوه وقد تنبه الرازي لهذا فقال فإن قلت : هب أنه لا يمكن دعوى التواتر في معاني هذه الألفاظ على سبيل التفصيل ولكنا نعلم معانيها في الجملة فنعلم أنهم يطلقون لفظ الله تعالى على الإله سبحانه وإن كنا لا نعلم مسمى هذا اللفظ أهو الذات أم المعبودية أم القادرية وكذا القول في سائر الألفاظ . قلت حاصل ما ذكره قادراً على الاختراع أو كونه ملجأ الخلق أو كونه بحيث تتحير العقول في إداركه إلى غير ذلك من المعاني المذكورة لهذا اللفظ وذلك يفيد نفي القطع بمسماه ، وإذا كان الأمر كذلك في هذه اللفظة مع نهاية شهرتها ونهاية الحاجة إلى معرفتها كان تمكن الاحتمال فيما عداها أظهر انتهى . وهذا الجواب باطل لأن هذه اللفظة قد نقلت إلينا على طريقة التواتر ، ونقل إلينا الناقلون لها أنها موضوعة للرب سبحانه وتعالى وهذا القدر يكفي في الاستدلال به على محل النزاع ، وأما الاختلاف في مفهوم الإله سبحانه وتعالى فبحث آخر لا يقدح به على محل النزاع أصلاً ، ثم قال مردفاً لذلك التشكيك بتشكيك آخر وهو أن من ش رط التواتر استواء الطرفين والوسط فهب أن علمنا حصول شرائط التواتر في حفاظ اللغة والنحو والتصريف في زماننا فكيف نعلم حصولها في سائر الأزمنة انتهى . ويجاب عنه بأن علمنا حصولها فيهم في سائر الأزمنة بنقل الأئمة الثقات الأثبات المشتغلين بأحوال النقلة إجمالاً وتفصيلاً، ثم أطال الكلام على هذا ، ثم عاد إلى النشكيك في نقلها آحاداً وجميع ما جاء به مدفوع مردود فلا نشتغل بالتطويل بنقله والكلام عليه ففيما ذكرنا من الرد عليه ما يرشد إلى الرد لبقية ما شكك به.

وقد اختلف في جواز إثبات اللغة بطريق القياس فجوزه القاضي أبو بكر الباقلاني وابن شريح وأبو إسحق الشيرازي والرازي وجماعة من الفقهاء ومنعه الجويني والغزالي والآمدي وهو قول عامة الحنفية وأكثر الشافعية واختاره ابن الحاجب وابن الهمام وجماعة من المتأخرين وليس النزاع فيما ثبت تعميمه بالنقل كالرجل والضارب أو بالاستقراء كرفع الفعل ونصب المفعول بل النزاع فيما إذا سمي مسمى باسم في هذا الاسم باعتبار أصله من حيث الاشتقاق أو غيره معنى يظن اعتباراً هذا المعنى في التسمية لأجل دوران ذلك الاسم مع هذا المعنى وجوداً وعدماً ويوجد ذلك المعنى في غير ذلك الاسم . فهل يتعدى ذلك الاسم المذكور إلى ذلك الغير بسبب وجود ذلك المعنى فيه فيطلق ذلك الاسم عليه حقيقة إذ لا نزاع في جواز الإطلاق مجازاً إنما الخلاف في الإطلاق حقيقة وذلك كالخمر الذي هو اسم للنيء من ماء العنب إذا غلي واشتد وقذف بالزبد إذا أطلق على النبيذ إلحاقاً له بالنيء المذكور بجامع المخامرة للعقل فإنها معنى في الاسم يظن اعتباره في تسمية النيء المذكور به لدوران التسمية معه فمهما لم توجد في ماء العنب لا يسمى خمراً بل عصيراً وإذا وجدت فيه سمي به وإذا زالت عنه لم يسم به بل خلا وقد وجد ذلك في النبيذ أو يخص اسم الخمر بمخامر للعقل هو ماء العنب المذكور فلا يطلق حقيقة على النبيذ ، وكذلك تسمية النباش سارقاً للأخذ بالخفية واللائط زانياً للإيلاج المحرم . احتج المجوزون بأن دوران الاسم مع المعنى وجوداً وعدماً يدل على أنه المعتبر لأن يفيد الظن . وأجيب بأن إفادة الدوران لذلك ممنوعة لما سيأتي في مسالك العلة وبعد التسليم لإفادة الدوران وكونه طريقاً صحيحة ، فنقول إن أردتم بدوران الاسم مع المعنى المذكور دوراناً مطلقاً سواء وجد في أفراد المسمى أو غيرها بادعاء ثبوت الاسم في كل مادة يوجد فيها ذلك المعنى وانتفا ئه في كل ما لم يوجد فيه بطريق النقل فغير المفروض لأن ما يوجد فيه ذلك المعنى حينئذ يكون من أفراد المسمى فلا يتحقق إلحاق فرع بأصل وإن أردتم بدوران الاسم مع المسمى أن يدور معه في الأصل المقيس عليه فقط لوجود الاسم في كل مادة يوجد فيها المسمى وانتفائه في كل ما لم يوجد فيه منعنا كونه طريقاً مثبتاً تسمية الشيء باسم لمشاركة المسمى في معنى دار الاسم معه وجوداً وعدماً ، وإن سلمنا كونه طريقاً صحيحة لإثبات الحكم في الشرعيات فذلك لا يستلزم إثبات كونه طريقاً صحيحة في إثبات الاسم وتعديته من محل إلى محل آخر لأن القياس في الشرعيات سمعي ثبت اعتباره بالسماع من الشارع وتعبدنا به لا أنه عقلي . وأجيب ثانياً بالمعارضة على سبيل القلب بأنه دار أيضاً مع المحل ككونه ماء العنب ومال الحي ووطئاً في القبل فدل على أنه معتبر والمعنى جزء من العلة ، ومن قال بقطع النباش وحد شارب النبيذ فذلك لعموم دليل السرقة والحد أو لقياسهما على السارق والخمر قياساً شرعياً في الحكم لا لأنه يسمى النباش سارقاً والنبيذ خمراً بالقياس في اللغة كما زعمتم وأيضاً القياس في اللغة إثبات بالمحتمل وهو غير جائز لأن كما يحتمل التصريح باعتباره يحتمل ا لتصريح بمنعه وأيضاً لا يصح الحكم بالوضع بمجرد الاحتمال المجرد عن الرجحان وأيضاً هذه اللغة العربية قد تقدم الخلاف هل هي توقيفية أو اصطلاحية وعلى القولين فلا طريق إليها إلا النقل وعلى القول بالتفصيل كذلك لأنه راجح إلى القولين . وإذا عرفت هذا علمت أن الحق منع إثبات اللغة بالقياس

الفصل الرابع في تقسيم اللفظ إلى مفرد ومركب

اعلم أن اللفظ إن قصد بجزء منه الدلالة على جزء معناه فهو مركب وإلا فهو مفرد ، والمفرد إما واحد أو متعدد وكذلك معناه فهذه أربعة أقسام :

الأول : الواحد للواحد إن لم يشترك في مفهومه كثيرون لا محققاً ولا مقدراً فمعرفة لتعينه إما مطلقاً أي وضعاً واستعمالاً فعلم شخصي وجزئي شخصي وجزئي حقيقي إن كان فرداً أو مضافاً بوضعه الأصلي سواء كان العهد أي اعتبار الحضور لنفس الحقيقة أو لحصة منها معينة مذكورة أو في حكمها أو مبهمة من حيث الوجود معينة من حيث التخصيص أو لكل من الحصص وإما بالإشارة الحسية فاسمها وأما بالعقلية فلا بد من دليلها سابقاً كضمير الغائب أو معاً كضميري المخاطب والمتكلم أو لاحقاً كالموصولات وإن اشترك في مفهومه كثيرون تحقيقاً أو تقديراً فكلي فإن تناول الكثير على أنه واحد فجنس وإلا فاسم الجنس وأيا ما كان فتناوله لجزئياته إن كان على وجه التفاوت بأولية أو أولوية أو أشدية فهو كالمشكك وإن كان تناوله لها على السوية فهو كالمتواطئ وكل واحد من هذه الأقسام إن لم يتناول وضعاً إلا فرداً معيناً فخاص خصوص البعض وإن تناول الأفراد واستغرقها فعام سواء استغرقها م جتمعة أو على سبيل البدل والأول يقال له العموم الشمولي والثاني البدلي وإن لم يستغرقها فإن تناول مجموعاً غير محصور فيسمى عاماً عند من لم يشترط الاستغراق كالجمع المنكر وعند من اشترط واسطة والراجح أنه خاص لأن دلالته على أقل الجمع قطعية كدلالة المفرد على الواحد وإن لم يتناول مجموعاً بل واحداً أو اثنين أو يتناول محصوراً فخاص خصوص الجنس أو النوع .

الثاني : اللفظ المتعدد للمعنى المتعدد ويسمى المتباين سواء تفاصلت أفراده كالإنسان والفرس أو تواصلت كالسيف والصارم .

الثالث : اللفظ الواحد للمعنى المتعدد فإن وضع لكل فمشترك وإلا فإن اشتهر في الثاني فمنقول ينسب إلى ناقله وإلا فحقيقة ومجاز .

الرابع : اللفظ المتعدد للمعنى الواحد ويسمى المترادف وكل من الأربعة ينقسم إلى مشتق وغير مشتق وإلى صفة وغير صفة ثم دلالة اللفظ على تمام ما وضع له مطابقة وعلى جزئه تضمن وعلى الخارج التزام وجميع ما ذكرنا ههنا قد بين في علوم معروفة فلا تطيل البحث فيه ولكنا نذكرها ههنا خمس مسائل تتعلق بهذا العلم تعلقاً تاماً

 

الاشتقاق

الاشتقاق أن تجد بين اللفظين تناسباً في المعنى والتركيب فنرد أحدهما إلى الآخر . وأركانه أربعة : أحدها اسم موضوع لمعنى وثانيها شيء آخر له نسبة إلى ذلك المعنى وثالثها مشاركة بين هذين الاسمين في الحروف الأصلية ورابعها تغيير يلحق ذلك الاسم في حرف فقط أو حركة فقط أو فيهما معاً وكل واحد من هذه الأقسام الثلاثة إما أن يكون بالزيادة أو النقصان أو بهما معاً فهذه تسعة أقسام : أحدها زيادة الحركة ثانيها زيادة الحرف ثالثها زيادتهما رابعها نقصان الحركة خامسها نقصان الحرف سادسها نقصانها سابعها زيادة لحركة مع نقصان الحرف ثامنها زيادة الحرف مع نقصان الحركة تاسعها أن يزاد فيه حركة وحرف وينقص عنه حركة وحرف ، وقيل تنتهي أقسامه إلى خمسة عشر وذلك لأنه يكون إما بحركة أو حرف بزيادة أو نقصان أو بهما والتركيب مثنى وثلاث ورباع . وينقسم إلى الصغير والكبير والأكبر لأن المناسبة أعم من الموافقة فمع الموافقة في الحروف والترتيب صغير وبدون الترتيب كبير نحو جذب وجبذ وكنى وناك وبدون الموافقة أكبر لمناسبة ما كالمخرج في ثلم وثلب أو الصفة كالشدة في الرجم والرقم فالمعتبر في الأولين الموافقة وفي ا لأخير المناسبة والاشتقاق الكبير والأكبر ليس من غرض الأصولي لأن المبحوث عنه في الأصول إنما هو المشتق بالاشتقاق الصغير . واللفظ ينقسم إلى قسمين صفة وهي ما دل على ذات مبهمة غير معينة بتعين شخصي ولا جنسي متصفة بمعين كضارب ، فإن معناه ذات لها الضرب وغير صفة وهو ما لا يدل على ذات مبهمة متصفة بمعين . ثم اختلفوا هل بقاء وجه الاشتقاق شرط لصدق الاسم المشتق فيكون للمباشر حقيقة اتفاقاً وفي الاستقبال مجازاً اتفاقاً وفي الماضي الذي قد انقطع خلاف مشهور بين الحنفية والشافعية فقالت الحنفية مجاز وقالت الشافعية حقيقة وإليه ذهب ابن سينا من الفلاسفة وأبو هشام من المعتزلة . احتج القائلون بالاشتراط بأن الضارب بعد انقضاء الضرب يصدق عليه أنه ليس بضارب وإذا صدق عليه ذلك وجب أن لا يصدق عليه أنه ضارب لأن قولنا ضارب يناقضه في العرف قولنا ليس بضارب .

وأجيب بمنع أن نفيه في الحال يستلزم نفيه مطلقاً فإن الثبوت في الحال أخص من الثبوت مطلقاً ونفى الأخص لا يستلزم نفي الأعم إلا أن يراد النفي المقيد بالحال لا نفي المقيد بالحال . وأجيب أيضاً بأن اللازم النفي في الجملة ولا ينافي الثبوت في الجملة إلا أن الاعتبار بالمنا فاة في اللغة لا في العقل واحتجوا ثانياً بأنه لو صح إطلاق المشتق إطلاقاً حقيقياً باعتبار ما قبله لصح باعتبار ما بعده ولا يصح اتفاقاً . وأجيب بمنع الملازمة فإنه قد يشترط المشترك بين الماضي والحال وهو كونه ثبت له الضرب . واحتج النافون بإجماع أهل اللغة على صحة ضارب أمس والأصل في الإطلاق الحقيقة . وأجيب بأنه مجاز بدليل إجماعهم على صحة ضارب غداً وهو مجاز اتفاقاً ، ويجاب عنه بأن مجازيته لعدم تلبسه بالفعل لا في الحال ولا في الماضي فلا يستلزم مجازية ضارب أمس . والحق أن إطلاق المشتق على الماضي الذي قد انقطع حقيقة لاتصافه بذلك في الجملة وقد ذهب قوم إلى التفصيل فقالوا إن كان معناه ممكن البقاء اشترط بقاؤه فإذا مضى وانقطع فمجاز وإن كان غير ممكن البقاء لم يشترط بقاؤه فيكون إطلاقه عليه حقيقة وذهب آخرون إلى الوقف ولا وجه له فإن أدلة صحة الإطلاق الحقيقية على ما مضى وانقطع ظاهرة قوية.

 

الترادف

هو توالي الألفاظ المفردة الدالة على مسمى واحد باعتبار معنى واحد فيخرج عن هذا دلالة اللفظين على مسمى واحد لا باعتبار واحد بل باعتبار صفتين كالصارم والمهند أو باعتبار الصفة وصفة الصفة كالفصيح والناطق .

والفرق بين الأسماء المترادفة والأسماء المؤكدة أن المترادفة تفيد فائدة واحدة من غير تفاوت أصلاً ، وأما المؤكدة فإن الاسم الذي وقع به التأكيد يفيد تقوية المؤكد أو رفع توهم التجوز أو السهو أو عدم الشمول وقد ذهب الجمهور إلى إثبات الترادف في اللغة العربية وهو الحق وسببه إما تعدد الوضع أو توسيع دائرة التعبير وتكثير وسائله وهو المسمى عند أهل هذا الشأن بالافتنان أو تسهيل مجال النظم والنثر وأنواع البديع فإنه قد يحصل أحد اللفظين المترادفين للقافية أو السجعة دون الآخر وقد يحصل التجنيس والتقابل والمطابقة ونحو ذلك هذا دون هذا وبهذا يندفع ما قاله المانعون لوقوع الترادف في اللغة من أنه لو وقع لعري عن الفائدة لكفاية أحدهما فيكون الثاني من باب العبث ويندفع أيضاً ما قالوه من أنه يكون من تحصيل الحاصل ولم يأتوا بحجة مقبولة في مقابلة ما هو معلوم بالضرورة من وقوع الترادف في لغة العرب مثل الأسد والليث والحنطة والقمح والجلوس والقعود وهذا كثير جداً وإنكاره مباهتة وقولهم إن ما يظن أنه من الترادف هو من اختلاف الذات والصفة كالإنسان والبشر أو الصفات كالخمر لتغطية العقل والعقار لعقره أو لمعاقرته أو اختلاف الحالة السابقة كالقعود من القيام والجلوس من الاضطجاع تكلف ظاهر وتعسف بحت ، وهو وإن أمكن تكلف مثله في بعض المواد المترادفة فإنه لا يمكن في أكثرها يعلم هذا كل عالم بلغة العرب فالعجب من نسبة المنع من الوقوع إلى مثل ثعلب وابن فارس مع توسعهما في هذا العلم

 

المشترك [اللفظي]

وهو اللفظة الموضوعة لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعاً أولاً من حيث هما كذلك فخرج بالوضع ما يدل على الشيء بالحقيقة وعلى غيره بالمجاز وخرج بقيد الحيثية المتواطئ فإنه يتناول الماهيات المختلفة لكن لا من حيث هي كذلك بل من حيث إنها مشتركة في معنى واحد وقد اختلف أهل العلم في المشترك فقال قوم أنه واجب الوقوع في لغة العرب وقال آخرون أنه ممتنع الوقوع وقالت طائفة أنه جائز الوقوع . احتج القائلون بالوجوب بأن الألفاظ متناهية والمعاني غير متناهية والمتناهي إذا وزع على غير المتناهي لزم الاشتراك ولا ريب في عدم تناهي المعاني لأن الأعداد منها وهي غير متناهية بلا خلاف . واحتجوا ثانياً بأن الألفاظ العامة كالموجود والشيء ثابتة في لغة العرب ، وقد ثبت أن وجود كل شيء نفس ماهيته فيكون وجود الشيء مخالفاً لوجود الآخر مع أن كل واحد منهما يطلق عليه لفظ الموجود بالاشتراك . وأجيب عن الدليل الأول بمنع عدم تناهي المعاني إن أريد بها المختلفة أو المتضادة وتسليمه مع منع عدم وفاء الألفاظ بها إن أريد المتماثلة المتحدة في الحقيقة أو المطلقة فإن الوضع للحقيقة المشتركة كاف في التفهيم وأيضاً لو سلم عدم تناهي كل منها لكان عدم تناهي ما يحتاج إلى التعبير والتفهيم ممنوعاً وأيضاً لا نسلم تناهي الألفاظ لكونها متركبة من المتناهي فإن أسماء العدد غير متناهية مع تركبها من الألفاظ المتناهية . وأجيب عن الدليل الثاني بأنا لا نسلم أن الألفاظ العامة ضرورية في اللغة وإن سلمنا ذلك لا نسلم أن الموجود مشترك لفظي لم لا يجوز أن يكون مشتركاً معنوياً وإن سلمنا ذلك لم لا يجوز اشتراك الموجودات كلها في حكم واحد سوى الوجود وهو المسمى بتلك اللفظة العامة واحتج القائلون بالامتناع بأن المخاطبة باللفظ المشترك لا يفيد فهم المقصود على التمام وما كان كذلك يكون منشأ للمفاسد . وأجيب بأنه لا نزاع في أنه لا يحصل الفهم التام بسماع اللفظ المشترك لكن هذا القدر لا يوجب نفيه لأن أسماء الأجناس غير دالة على أحوال تلك المسميات لا نفياً ولا إثباتاً والأسماء المشتقة لا تدل على تعيين الموصوفات ألبتة ولم يستلزم ذلك نفيها وكونها غير ثابتة في اللغة .

واحتج من قال بجواز الوقوع وإمكانه بأن المواضعة تابعة لأغراض المتكلم وقد يكون للإنسان غرض في تعريف غيره شيئاً على التفصيل وقد يكون غرضه ذلك الشيء على الإجمال بحيث يكون ذكر التفصيل سببا ً للمفسدة كما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لمن سأله عن الهجرة عن النبي ص من هو فقال هو رجل يهدني السبيل ولأنه ربما لا يكون المتكلم واثقاً بصحة الشيء على التعيين إلا أنه يكون واثقاً بصحة وجود أحدهما لا محالة فحينئذ يطلق اللفظ المشترك لئلا يكذب ولا يكذب ولا يظهر جهله بذلك فإن أي معنى لا يصح فله أن يقول أنه كان مرادي الثاني . وبعد هذا كله فلا يخفاك أن المشترك موجود في هذه اللغة العربية لا ينكر ذلك إلا مكابر كالقرء فإنه مشترك بين الطهر والحيض مستعمل فيهما من غير ترجيح وهو معنى الاشتراك ، وهذا لا خلاف فيه بين أهل اللغة وقد أجيب عن هذا بمنع كون القرء حقيقة فيها لجواز مجازية أحدهما وخفاء موضع الحقيقة ورد بأن المجاز إن استغنى عن القرينة التحق بالحقيقة وحصل الاشتراك وهو المطلوب وإلا فلا تساوي ، ومثل القرء العين فإنها مشتركة بين معانيها المعروفة وكذا الجون مشترك بين الأبيض والأسود وكذا عسعس مشترك بين أقبل وأدبر وكما هو واقع في لغة العرب بالاستقراء فهو أيضاً واقع في الكتاب والسنة فلا اعتبار بقول من قال أنه غير واقع في الكتاب فقط أو غير واقع فيهما لا في اللغة

 

استعمال اللفظ المشترك في معنييه أو معانيه

ذهب الشافعي والقاضي أبو بكر وأبو علي الجبائي والقاضي عبد الجبار بن أحمد والقاضي جعفر والشيخ حسن وبه قال الجمهور وكثير من أئمة أهل البيت إلى جوازه وذهب أبو هاشم وأبو الحسن البصري والكرخي إلى امتناعه . ثم اختلفوا فمنهم من منع منه لأمر يرجع إلى القصد ومنهم من منع منه لأمر يرجع إلى الوضع والكلام يبتني على بحث هو هل يلزم من كون اللفظ لمعنيين أو معاني على البدل أن يكون موضوعاً لهما أولها على الجمع أم لا ؟ فقال المانعون إن المعلوم بالضرورة المغايرة بين المجموع وبين كل واحد من الأفراد لأن الوضع تخصيص لفظ يمعنى فكل وضع يوجب أن لا يراد باللفظ إلا هذا الموضع له ويوجب أن يكون هذا المعنى تمام المراد باللفظ فاعتبار كل من الوضعين ينافي اعتبار الآخر فاستعماله للمجموع استعمال له في غير ما وضع له وأنه غير جائز وإن قلنا إن ذلك اللفظ وضع للمجموع فلا يخلو إما أن يستعمل لإفادة المجموع وحده مع إفادة أفراد فإن كان الأول لم يكن اللفظ مفيداً إلا لأحد مفهوماته لأن الواضع وضعه بإزاء أمور ثلاثة على البدل وأحدها ذلك المجموع فاستعمال ا للفظ فيه وحده لا يكون استعمالاً له في كل مفهوماته وإن قلنا أنه مستعمل في إفادة المجموع والأفراد على البدل فهو محال كما قدمنا . واحتج المجوزون بأمور أحدها أن الصلاة من الله رحمة ومن الملائكة استغفار ثم إن الله سبحانه أراد بقوله إن الله وملائكته يصلون على النبي كلا المعنيين ، وهذا هو الجمع بين معنى المشترك . وأجيب بأن هذه الآية ليس فيها استعمال الاسم المشترك في أكثر من معنى واحد لأن سياق الآية لإيجاب اقتداء المؤمنين بالله وملائكته في الصلاة على النبي ص فلا بد من اتحاد معنى الصلاة في الجميع لأنه لو قيل إن الله يرحم النبي والملائكة يستغفرون له يا أيها الذين آمنوا ادعوا له لكان هذا الكلام في غاية الركاكة فعلم أنه لا بد من اتحاد معنى الصلاة سواء كان معنى حقيقياً أو معنى مجازياً أما الحقيقي فهو الدعاء فالمراد أنه سبحانه يدعو ذاته بإيصال الخير إلى النبي ص ثم من لوازم هذا الدعاء الرحمة فالذي قال إن الصلاة من الله الرحمة قد أراد هذا المعنى لا أن الصلاة وضعت للرحمة . وأما المجازي فكإرادة الخير ونحو ذلك مما يليق بهذا المقام ثم إن اختلف ذلك لأجل اختلاف الموصوف فلا بأس به ولا يكون هذا من باب الاشتراك بحسب الوضع واحتجوا أيضاً بقوله سبحانه : ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض الآية فإنه نسب السجود إلى العقلاء وغيرهم كالشجر والدواب فما نسب إلى غير العقلاء يراد به الانقياد لا وضع الجبهة على الأرض وما نسب إلى العقلاء يراد به وضع الجبهة على الأرض إذ لو كان المراد الانقياد لما قال - وكثير من الناس - لأن الانقياد شامل لجميع الناس وأجيب بأنه يمكن أن يراد بالسجود الانقياد في الجميع وما ذكروا من أن الانقياد شامل لجميع الناس باطل لأن الكفار لم ينقادوا ويمكن أن يراد بالسجود وضع الرأس على الأرض في الجميع فلا يحكم باستحالته من الجمادات إلا من يحكم باستحالة التسبيح من الجمادات وباستحالة الشهادة من الجوارح والأعضاء يوم القيامة . إذا عرفت هذا لاح لك عدم جواز الجمع بين معنى المشترك أو معانيه ولم يأت من جوزه بحجة مقبولة وقد قيل إنه يجوز الجمع مجازاً لا حقيقة ، وبه قال جماعة من المتأخرين وقيل يجوز إرادة الجمع لكن بمجرد القصد لا من حيث اللغة وقد نسب هذا إلى الغزالي والرازي ، وقيل يجوز الجمع في النفي لا في الإثبات فيقال مثلاً ما رأيت عيناً ومراده العين الجارحة وعين الذهب وعي ن الشمس وعين الماء ولا يصح أن يقال عندي عين وتراد هذه المعاني بهذه اللفظ ، وقيل بإرادة الجميع في الجمع فيقال مثلاً عندي عيون ويراد تلك المعاني ، وكذا المثنى فحكمه حكم الجمع فيقال مثلاً عندي جونان ويراد أبيض وأسود ولا يصح إرادة المعنيين أو المعاني بلفظ المفرد وهذا الخلاف إنما هو في المعاني التي يصح الجمع بينها وفي المعنيين اللذين يصح الجمع بينهما لا في المعاني المتناقضة

 

الحقيقة والمجاز

وفي هذه المسألة عشرة أبحاث :

البحث الأول : في تفسير لفظي الحقيقة والمجاز . أما الحقيقة فهي فعيلة من حق الشيء بمعنى ثبت والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية الصرفة وفعيل في الأصل قد يكون بمعنى الفاعل وقد يكون بمعنى المفعول ، فعلى التقدير الأول يكون معنى الحقيقة الثابتة ، وعلى الثاني يكون معناها المثبتة . وأما المجاز فهو مفعل من الجواز الذي هو التعدي كما يقال جزت هذا الموضع : أي جاوزته وتعديته أو من الجواز الذي هو قسيم الوجوب والامتناع وهو راجع إلى الأول لأن الذي لا يكون واجباً ولا ممتنعاً يكون متردداً بين الوجوه والعدم فكأنه ينتقل من هذا إلى هذا .

البحث الثاني : في حدهما . فقيل في حد الحقيقة إنها اللفظ المستعمل فيما وضع له فيشمل هذا الوضع اللغوي والشرعي والعرفي والاصطلاحي وزاد جماعة في هذا الجد قيداً وهو قولهم في اصطلاح التخاطب لأنه إذا كان التخاطب باصطلاح واستعمل فيه ما وضع له في اصطلاح آخر لمناسبة بينه وبين ما وضع له في اصطلاح التخاطب كان مجازاً مع أنه لفظ مستعمل فيما وضع له وزاد آخرون في هذا الحد قيداً ، فقالوا هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا لإخراج مثل ما ذكر ، وقيل في حد الحقيقة إنها ما أفيد بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به ، وقيل في حدها إنها كل كلمة أريد بها عين ما وضعت له في وضع واضع وضعاً لا يستند فيه إلى غيره . وأما المجاز فهو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة مع قرينه ، وقيل هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولاً على وجه يصح وزيادة قيد على وجه يصح لإخراج مثل استعمال لفظ الأرض في السماء ، وقيل في حده أيضاً أنه ما كان بضد معنى الحقيقة .

البحث الثالث : قد اتفق أهل العلم على ثبوت الحقيقة اللغوية والعرفية ، واختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية وهي اللفظ الذي استفيد من الشارع وضعه للمعنى سواء كان اللفظ والمعنى مجهولين عند أهل اللغة أو كانا معلومين لكنهم لم يضعوا ذلك الاسم لذلك المعنى أو كان أحدهما مجهولاً والآخر معلوماً ، وينبغي أن يعلم قبل ذلك الخلاف والأدلة من الجانبين أن الشرعية هي اللفظ المستعمل فيما وضع له بوضع الشارع لا بوضع أهل الشرع كما ظن فذهب الجمهور إلى إثباتها وذلك كالصلاة والزكاة والصوم والمصلي والمزكي والصائم وغير ذلك فمحل النزاع الألفاظ المتداولة شرعاً المستعملة في غير ما وضع له في اللغة فالجمهور جعلوها حقائق شرعية بوضع الشارع لها وأثبت المعتزلة أيضاً مع الشرعية حقائق دينية ، فقالوا إن ما استعمله الشارع في معان غير لغوية ينقسم إلى قسمين :

الأول : الأسماء التي أجريت على الأفعال وهي الصلاة والصوم والزكاة ونحو ذلك .

والقسم الثاني : الأسماء التي أجريت على الفاعلين كالمؤمن والكافر والفاسق ونحو ذلك فجعلوا القسم الأول حقيقة شرعية .

والقسم الثالث : حقيقة دينية وإن كان الكل على السواء في أنه عرف شرعي ، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني وبعض المتأخرين ورجحه الرازي أنها مجازات لغوية غلبت في المعاني الشرعية لكثرة دورانها على ألسنة أهل الشعر . وثمرة الخلاف أنها إذا وردت في كلام الشارع مجردة عن القرينة هل تحمل على المعاني الشرعية أو على اللغوية ؟ فالجمهور قالوا بالأول و الباقلاني ومن معه قالوا بالثاني قالوا أما في كلام المتشرعة فيحمل على الشرعي اتفاقاً لأنها قد صارت حقائق عرفية بينهم وإنما النزاع في كون ذلك بوضع الشارع وتعيينه إياها بحيث تدل على تلك المعاني بلا قرينة فتكون حقائق شرعية أو بغلبتها في لسان أهل الشرع فقط ولم يضعها الشارع بل استعملها مجازات لغوية لقرائن ف تكون حقائق عرفية خاصة لا شرعية . احتج الجمهور بما هو معلوم شرعاً أن الصلاة في لسان الشارع وأهل الشرع لذات الأذكار والأركان والزكاة لأداء مال مخصوص والصيام لإمساك مخصوص والحج لقصد مخصوص وأن هذه المدلولات هي المتبادرة عند الإطلاق وذلك علامة الحقيقة بعد أن كانت الصلاة في اللغة للدعاء والزكاة لنماء والصيام للإمساك مطلقاً والحج للقصد مطلقاً : وأجيب عن هذا بأنها باقية في معانيها اللغوية والزيادات شروط والشرط خارج عن المشروط ورد بأنه يستلزم أن لا يكون مصلياً من لم يكن داعياً كالأخرس . وأجيب أيضاً بأنه لا يلزم من سبق المعاني الشرعية عند الإطلاق ثبوت الحقائق الشرعية لجواز صيرورتها بالغلبة حقائق عرفية خاصة لأهل الشرع وإن لم تكن حقائق شرعية بوضع الشارع . ورد بأنه إن أريد بكون اللفظ مجازاً أن الشارع استعمله في معناه لمناسبة للمعنى اللغوي ثم اشتهر فأفاد بغير قرينة فذلك معنى الحقيقة الشرعية فثبت المدعي وإن أريد أن أهل اللغة استعملوه في هذه المعاني وتبعهم الشارع في ذلك فخلاف الظاهر للقطع بأنها معان حادثة ما كان أهل اللغة يعرفونها . واحتج القاضي ومن معه بأن إفادة هذه ألفاظ لهذه المعاني لو لم تكن لغوية لما كان القرآن كله عربياً وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم . أما الملازمة فلأن هذه الألفاظ مذكورة في القرآن فلو لم تكن إفادتها لهذه المعاني عربية لزم أن لا يكون القرآن عربياً ، وأما فساد اللازم فلقوله سبحانه قرآناً عربياً وقوله وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه وأجيب بأن إفادة هذه الألفاظ لهذه المعاني وإن لم تكن عربية لكنها في الجملة ألفاظ عربية فإنهم كانوا يتكلمون بها في الجملة وإن كانوا يعنون بها غير هذه المعاني وإذا كان كذلك كانت هذه الألفاظ عربية فالملازمة ممنوعة . وأجيب أيضاً بأنا لا نسلم أنها ليست بعربية على تسليم أنها مجازات لغوية جعلها الشارع حقائق شرعية لأن المجازات عربية وإن لم تصرح العرب بأحداها فقد جوزوا نوعها وذلك يكفي في نسبة المجازات بأسرها إلى لغة العرب وإلا لزم كونها كلها ليست بعربية واللازم باطل فالملزوم مثله ولو سلمنا أن المجازات العربية التي صارت حقائق بوضع الشارع ليست بعربية لم يلزم أن يكون القرآن غير عربي بدخولها فيه لأنها قليلة جداً والاعتبار بالأغلب فإن الثور الأسود لا يمنع إطلاق اسم الأسود عليه بوجود شعرات بيض في جلده على أن القرآن يقال بالاشتراك على مجموعه وعلى كل بعض منه فلا تدل الآية على أنه كله عربي كما يفيده قوله في سورة يوسف إنا أنزلناه قرآناً عربياً والمراد منه تلك السورة وأيضاً الحروف المذكورة في أوائل السور ليست بعربية والمشكاة لغة حبشية والإستبرق والسجيل فارسيان والقسطاس من لغة الروم وإذا عرفت هذا تقرر لك ثبوت الحقائق الشرعية وعلمت أن نافيها لم يأت بشيء يصلح للاستدلال كما أوضحناه وهكذا الكلام فيما سمته المعتزلة حقيقة دينية فإنه من جملة الحقائق الشرعية كما قدمنا فلا حاجة إلى تطويل البحث فيه .

البحث الرابع : المجاز واقع في لغة العرب عند جمهور أهل العلم وخالف في ذلك أبو إسحاق الإسفرائيني وخلافه هذا يدل أبلغ دلالة على عدم إطلاعه على لغة العرب وينادي بأعلى صوت بأن سبب هذا الخلاف تفريطه في الاطلاع على ما ينبغي الاطلاع عليه من هذه اللغة الشريفة وما اشتملت عليه من الحقائق والمجازات التي لا تخفى على من له أدنى معرفة بها وقد استدل بما هو أوهن من بيت العنكبوت . فقال لو كان المجاز واقعاً في لغة العرب لزم الإخلال بالتفاهم إذ قد تخفى القرينة وهذا التعليل عليل فإن تجويز خفاء القرينة أخفى من السها واستدل صاحب المحصول لهذا القائل بأن اللفظ لو أفاد المعنى على سبيل المجاز ، فأما أن يفيد مع القرينة أو بدونها والأول باطل لأنه مع القرينة المخصوصة لا يحتمل غير ذلك فيكون هو مع تلك القرينة حقيقة لا مجازاً والثاني باطل لأن اللفظ أو أفاد معناه المجازي بدون قرينة لكان حقيقة فيه إذ لا معنى للحقيقة إلا كونها مستقلة بالإفادة بدون قرينة . وأجاب عنه بأن هذا نزاع في العبارة . ولنا أن نقول اللفظ الذي لا يفيد إلا مع القرينة هو المجاز ، ولا يقال للفظة مع القرينة حقيقة فيها لأن دلالة القرينة ليست دلالة وضعية حتى يجعل المجموع لفظاً واحداً دالاً على المسمى ، وعلى كل حال فهذا لا ينبغي الاشتغال بدفعه ولا التطويل في رده فإن وقوع المجاز وكثرته في اللغة العربية أشهر من نار على علم وأوضح من شمس النهار . قال ابن جني : أكثر اللغة مجاز ، وقد قيل إن أبا علي الفارسي قائل بمثل هذه المقالة التي قالها الإسفرائيني وما أظن مثل أبي علي يقول ذلك فإنه إمام اللغة العربية الذي لا يخفى على مثله مثل هذا الواضح البين الظاهر الجلي وكما أن المجاز واقع في لغة العرب فهو أيضاً واقع في الكتاب العزيز عند الجماهير وقوعاً كثيراً بحيث لا يخفى إلا على من لا ي فرق بين الحقيقة والمجاز ، وقد روي عن الظاهرية نفيه في الكتاب العزيز وما هذا بأول مسائلهم التي جمدوا فيها جموداً يأباه الإنصاف وينكره الفهم ويجحده العقل ، وأما ما استدل به لهم من أن المجاز كذب لأنه ينفي فيصدق نفيه وهو باطل لأن الصادق إنما هو نفي الحقيقة فلا ينافي صدق إثبات المجاز وليس في المقام من الخلاف ما يقتضي ذكر بعض المجازات الواقعة في القرآن والأمر أوضح من ذلك ، وكما أن المجاز واقع في الكتاب العزيز وقوعاً كثيراً فهو أيضاً واقع في السنة وقوعاً كثيراً والإنكار لهذا الوقوع مباهتة لا يستحق المجاوبة.

البحث الخامس : أنه لا بد من العلاقة في كل مجاز فيما بينه وبين الحقيقة والعلاقة هي اتصال للمعنى المستعمل فيه بالموضوع له وذلك الاتصال إما باعتبار الصورة كما في المجاز المرسل أو باعتبار المعنى كما في الاستعارة وعلاقتها المشابهة وهي الاشتراك في معنى مطلقاً لكن يجب أن تكون ظاهرة الثبوت لمحله والانتفاء عن غيره كالأسد للرجل الشجاع لا الأبخر والمراد الاشتراك في الكيف فيندرج تحت مطلق العلاقة المشاكلة الكلامية كإطلاق الإنسان على الصورة المنقوشة ويندرج تحتها أيضاً المطابقة والمناسبة والتضاد المنزل منزلة التناسب لنهكم نحو فبشرهم بعذاب أليم فهذا الاتصال المعنوي . وأما الاتصال الصوري فهو إما في اللفظ وذلك في المجاز بالزيادة والنقصان وفي المشاكلة البديعية وهي الصحبة الحقيقية أو التقديرية وقد تكون العلاقة باعتبار ما مضى وهو الكون عليه كاليتيم للبالغ أو باعتبار المستقبل وهو الأول إليه كالخمر للعصير أو باعتبار الكلية والجزئية كالركوع للصلاة واليد فيما وراء الرسغ والحالية والمحلية كاليد في القدرة والسببية والمسببية والإطلاق والتقييد واللزوم والمجاورة والظرفية والمظروفية والبدلية والشرطية والمشروطية والضدية . ومن العلاقات إطلاق المصدر على الفاعل أو المفعول كالعلم في العالم أو المعلوم ومنها تسمية إمكان الشيء باسم وجوده كما يقال للخمر التي في الدن إنها مسكرة ومنها إطلاق اللفظ المشتق بعد زوال المشتق منه وقد جعل بعضهم في إطلاق اسم السبب على المسبب أربعة أنواع : القابل والصورة والفاعل والغاية : أي تسمية الشيء باسم قابله نحو سال الوادي وتسمية الشيء باسم صورته كتسمية القدرية باليد وتسمية الشيء باسم فاعله حقيقة أو ظناً كتسمية المطر بالسماء والنبات بالغيث وتسمية الشيء باسم غايته كتسمية العنب بالخمر وفي إطلاق اسم المسبب على السبب أربعة أنواع على العكس من هذه المذكورة قبل هذا وعند بعضهم من العلاقات الحلول في محل واحد كالحياة في الإيمان والعلم وكالموت في ضدهما والحلول في محلين متقاربين كرضى الله في رضى رسوله والحلول في حيزين متقاربين كالبيت في الحرم كما في قوله من مقام إبراهيم وهذه الأنواع راجعة إلى علاقة الحالية والمحلية كما أن الأنواع السابقة مندرجة تحت علاقة السببية والمسببية فما ذكرناه ههنا مجموعة أكثر من ثلاثين علاقة وعد بعضهم من العلاقات ما لا تعلق لها بالمقام كحذف المضاف نحو واسأل القرية يعني أهلها وحذف المضاف إليه نحو أنا ابن جلا أي أنا ابن رجل جلا والنكرة في الإثبات إذا جعلت للعموم نحو علمت نفس ما أحضرت أي كل نفس والمعرف باللام إذا أريد به الواحد المنكر نحو ادخلوا عليهم الباب أي باباً من أبوابها والحذف نحو يبين الله لكم أن تضلوا أي كراهة أن تضلوا والزيادة كقوله تعالى : ليس كمثله شيء ولو كانت هذه معتبرة لكانت العلاقات نحو أربعين علاقة لا كما قال بعضهم إنها لا تزيد على إحدى عشرة وقال آخر لا تزيد على عشرين وقال آخر لا تزيد عن خمس وعشرين فتدبر . واعلم أنه لا يشترط النقل في آحاد المجاز بل العلاقة كافية والمعتبر نوعها ولو كان نقل آحاداً المجاز معتبراً لتوقف أهل العربية في التجوز على النقل ولوقعت منهم التخطئة لمن استعمل غير المسموع من المجازات وليس كذلك بالاستقراء ولذلك لم يدونوا المجازات كالحقائق وأيضاً لو كان نقلياً لاستغنى عن النظر في العلاقة لكفاية النقل وإلى عدم اشتراط نقل آحاد المجاز ذهب الجمهور وهو الحق ولم يأت من اشترط ذلك بحجة تصلح لذكرها وتستدعي التعرض لدفعها وكل من له علم وفهم يعلم أن أهل اللغة العربية ما زالوا يخترعون المجازات عند وجود العلاقة ونصب القرينة وهكذا من جاء بعدهم من أهل البلاغة في فني النظم والنثر ويتمادحون باختراع الشيء الغريب من المجازات عند وجود المصحح للتجوز ولم يسمع عن واحد منهم خلاف هذا .

البحث السادس : في قرائن المجاز . اعلم أن القرينة إما خارجة عن المتكلم والكلام أي لا تكون معنى في المتكلم وصفة له ولا تكون من جنس الكلام أو تكون معنى في المتكلم أو تكون من جنس الكلام وهذه القرينة التي تكون من جنس الكلام إما لفظ خارج عن هذا الكلام الذي يكون المجاز فيه بأن يكون في كلام آخر لفظ يدل على عدم إرادة المعنى الحق يقي أو غير خارج عن هذا الكلام بل هو عينه أو شيء منه يكون دالاً على عدم إرادة الحقيقة ثم هذا القسم على نوعين إما أن يكون بعض الأفراد أولى من بعض في دلالة ذلك اللفظ عليه كما لو قال كل مملوك لي حر فإنه لا يقع على المكاتب مع أنه عبد ما بقي عليه درهم فيكون هذا اللفظ مجازاً من حيث أنه مقصور على بعض الأفراد . أما القرينة التي تكون لمعنى في المتكلم فكقوله سبحانه : واستفزز من استطعت منهم الآية فإن سبحانه لا يأمر بالمعصية . وأما القرينة الخارجة عن الكلام فكقوله فمن شاء فليؤمن فإن سياق الكلام وهو قوله إنا أعتدنا يخرجه عن أن يكون للتخيير ونحو قوله طلق امرأتي إن كنت رجلاً فإن هذا لا يكون توكيلاً لأن قوله إن كنت رجلاً يخرجه عن ذلك فانحصرت القرينة في هذه الأقسام . ثم القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي قد تكون عقلية وقد تكون حسية وقد تكون عادية وقد تكون شرعية فلا تختص قرائن المجاز بنوع من هذه الأنواع دون نوع .

البحث السابع : في الأمور التي يعرف بها المجاز ويتميز عندها عن الحقيقة . اعلم أن الفرق بين الحقيقة والمجاز إما أن يقع بالنص أو الاستدلال أما بالنص فمن وجهين : الأول أن يقول الواضع هذا حقيقة وذاك مجاز الثاني أن يذكر الواضع حد كل واحد منهما بأن يقول هذا مستعمل فيما وضع له وذاك مستعمل في غير ما وضع له ويقوم مقام الحد ذكر خاصة كل واحد منهما . وأما الاستدلال فمن وجوه ثلاثة : الأول أن يسبق المعنى إلى إفهام أهل اللغة عند سماع اللفظ بدون قرينة فيعلم بذلك أنه حقيقة فيه فإن كان لا يفهم منه المعنى المراد إلا بالقرينة فهو المجاز ، واعترض على هذا بالمشترك المستعمل في معنييه أو معانيه فإنه لا يتبادر أحدهما أو أحدها لولا القرينة المعينة للمراد مع أنه حقيقة . وأجيب بأنها يتبادر جميعها عند من قال بجواز حمل المشترك على جميع معانيه ويتبادر أحدها لا بعينه عند من منع من حمله على جميع معانيه ورد بأن علامة المجاز تصدق حينئذ على المشترك المستعمل في المعين إذ يتبادر غيره وهو علامة المجاز مع أنه حقيقة فيه ودفع هذا الرد بأنه إنما يصح ذلك لو تبادر أحدهما لا بعينه على أنه المراد واللفظ موضوع للقدر المشترك مستعمل فيه وأما إذا علم أن المراد أحدهما بعينه إذ اللفظ يصلح لهما وهو مستعمل في أحدهما ولا يعلمه فذلك كاف في كون المتبادر غير المجاز فلا يلزم كونه للمعين مجازاً .

الثاني : صحة النفي للم عنى المجازي وعدم صحته للمعنى الحقيقي في نفس الأمر ، واعترض بأن العلم بعدم صحة النفي موقوف على العلم بكونه حقيقة فإثبات كونه حقيقة به دور ظاهر وكذا العلم بصحة النفي موقوف على العلم بأن ذلك المعنى ليس من المعاني الحقيقية وذلك موقوف على العلم بكونه مجازاً فإثبات كونه مجازاً به دور . وأجيب بأن سلب بعض المعاني الحقيقية كاف فيعلم أنه مجاز فيه وإلا لزم الاشتراك وأيضاً إذا علم معنى اللفظ الحقيقي والمجازي ولم يعلم أيهما المراد أمكن أن يعلم بحصته نفي المعنى الحقيقي أن المراد هو المعنى المجازي وبعدم صحته أن المراد هو المعنى الحقيقي .

الثالث : عدم اطراد المجاز وهو أن لا يجوز استعماله في محل مع وجود سبب الاستعمال المسوغ لاستعماله في محل آخر كالتجوز بالنخلة للإنسان الطويل دون غيره مما فيه طول وليس الاطراد دليل الحقيقية فإن المجاز قد يطرد كالأسد للشجاع ، واعترض بأن عدم الاطراد قد يوجد في الحقيقة كالسخي والفاضل فإنهما لا يطلقان على الله سبحانه مع وجودهما على وجه الكمال فيه سبحانه وكذا القارورة لا تطلق على غير الزجاجة مما يوجد معنى الاستقرار فيه كالدن . وأجيب عنه بأن الأمارة عدم الاطراد لا لمانع لغة أ و شرعاً ولم يتحقق فيما ذكرتم من الأمثلة فإن الشرع منع من إطلاق السخي والفاضل على الله سبحانه واللغة منعت من إطلاق القارورة على غير الزجاجة وقد ذكروا غير هذه الوجوه مثل قولهم من العلامات الفارقة بين الحقيقة والمجاز أنها إذا علقت الكلمة بما يستحيل تعليقها به علم أنها في أصل اللغة غير موضوعة له فيعلم أنها مجاز فيه ومنها أن يضعوا اللفظة لمعنى ثم يتركوا استعماله إلا في بعض معانيه المجازية ثم استعملوه بعد ذلك في غير ذلك الشيء فإنا نعلم كونه من المجاز العرفي مثل استعمال لفظ الدابة في الحمال ومنها امتناع الاشتقاق فإنه دليل على كون اللفظ مجازاً منها أن تختلف صيغة الجمع على الاسم فيجمع على صيغة مخالفة لصيغة جمعه لمسمى آخر هو فيه حقيقة ومنها أن المعنى الحقيقي إذا كان متعلقاً بالغير فإنه إذا استعمل فيما لا يتعلق به شيء كان مجازاً وذلك كالقدرة إذا أريد بها الصفة كانت متعلقة بالمقدور وإذا أطلقت على النبات الحسن لم يكن لها متعلق فيعلم كونها مجازاً فيه ومنها أن يكون إطلاقه على أحد مسمييه متوقفاً على تعلقه بالآخر نحو ومكروا ومكر الله ولا يقال مكر الله ابتداء . ومنها لا يستعمل إلا مقيداً ولا يستعمل ل لمعنى المطلق كنار الحرب وجناح الذل .

البحث الثامن : في أن اللفظ قبل الاستعمال لا يتصف بكونه حقيقة ولا بكونه مجازاً لخروجه عن حد كل واحد منهما ، إذاً الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له ، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له ، وقد اتفقوا على أن الحقيقة لا تستلزم المجاز لأن اللفظ قد يستعمل في ما وضع له ولا يستعمل في غيره ، وهذا معلوم لكل عالم بلغة العرب واختلفوا هل يستلزم المجاز الحقيقة أم لا ؟ بل يجوز أن يستعمل اللفظ في غير ما وضع له ولا يستعمل في ما وضع له أصلاً ؟ فقال جماعة إن المجاز يستلزم الحقيقة واستدلوا على ذلك بأنه لو لم يستلزم لخلا الوضع عن الفائدة وكان عبثاً وهو محال أما الملازمة فلأن ما لم يستعمل لا يفيد فائدة وفائدة الوضع إنما هي إعادة المعاني المركبة وإذا لم يستعمل لم يقع في التركيب فانتفت فائدته وأما بطلان اللازم فظاهر . وأجيب بمنع انحصار فائدة في إفادة المعاني المركبة فإن صحة التجوز فائدة واستدل القائلون بعدم الاستلزام وهم الجمهور بأنه لو استلزم المجاز الحقيقة لكانت لنحو شابت لمة الليل أي ابيض الغسق ، وقامت الحرب على ساق أي اشتدت حقيقة واللازم منتف . وأجيب عن هذا بجوابين جدلي وتحقيقي أما الجدلي فبأن الإلزام مشترك لأن نفس الوضع لازم فيجب أن تكون هذه المركبات موضوعة لمعنى متحقق وليس كذلك وأما التحقيق فباختيار أن لا مجاز في المركب بل في المفردات ولها وضع واستعمال ولا مجاز في التركيب حتى يلزم أن يكون له معنى ومن اتبع عبد القاهر في أن المجاز مفرد ومركب ويسمى عقلياً وحقيقة عقلية لكونهما في الإسناد سواء كان طرفاه نحو سرتني رؤيتك أو مجازين نحو أحياني اكتحالي بطلعتك أو مختلفين فإن اتبعه في عدم الاستلزام أيضاً فذاك وإلا فله أن يجيب بأن مجازات الأطراف لا مدخل لها فيه ولها حقائق مجاز الإسناد ليس لفظاً حتى يطلب لعينه حقيقة ووضع بل له معنى حقيقة بغير هذا اللفظ واجتماع المجازات لا يستلزم اجتماع حقائقها . ومن قال بإثبات المجاز المركب في الاستعارة التمثيلية نحو طارت به العنقاء وأراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى فلا بد أن يقال بعدم الاستلزام ومن نفى المجاز المركب أجاب عن المجاز العقلي بأنه من الاستعارة التبعية وذلك لأن عرف العرب أن يعتبروا القابل فعلاً نحو مات فلان وطلعت الشمس ولم يلتزموا الإسناد إلى الفاعل الحقيقي كما في أنبت الله وخلق الله فكذا سرتني رؤيتك لأنها ق ابلة لإحداث الفرح ونحوها من الصور الإسنادية . وأشف ما استدلوا به : قولهم إن الرحمن مجاز في الباري سبحانه لأنه معناه ذو الرحمة ومعناه الحقيقي وهو رقة القلب لا وجود له ولم يستعمل في غيره تعالى . وأجيب بأن العرب قد استعملته في المعنى الحقيقي فقالوا لمسيلمة رحمان اليمامة ورد بأنهم لم يريدوا بهذا الإطلاق أن مسيلمة رقيق القلب حتى يرد النقض به . ومما يستدل به للنافي أن أفعال المدح والذم هي أفعال ماضية ولا دلالة لها على الزمان الماضي فكانت مجازات لا حقائق لها .

البحث التاسع : في اللفظ إذا دار بين أن يكون مجازاً أو مشتركاً هل يرجح المجاز على المشترك أو المشترك على المجاز ؟ فرجح قوم الأول ورجح آخرون الثاني . استدل الأولون بأن المجاز أكثر من الاشتراك في لغة العرب فرجح الأكثر على الأقل وقال ابن جني أكثر اللغة مجاز وبأن المجاز معمول به مطلقاً فبلا قرينة حقيقية ومعها مجاز والمشترك بلا قرينة مهمل ، والإعمال أولى من الإهمال وبأن المجاز أبلغ من الحقيقة كما هو مقرر في علم المعاني والبيان ، وبأنه أوجز كما في الاستعارة فهذه فوائد للمجاز وقد ذكروا غيرها من الفوائد التي لا مدخل لها في المقام وذكروا ل لمشترك مفاسد منها إخلاله بالفم عند خفاء القرينة عند من لا يجوز حمله على معنييه أو معانيه بخلاف المجاز فإنه عند خفاء القرينة يحمل على الحقيقة ومنها تأديته إلى مستبعد من نقيض أو ضد كالقرء إذا أطلق مراداً به الحيض فيفهم منه الطهر أو بالعكس ومنها احتياجه إلى قرينتين إحداهما تعينه للمعنى المراد والأخرى تعينه للمعنى الآخر بخلاف المجاز فإنه تكفي فيه قرينة واحدة . واحتج الآخرون بأن للاشتراك فوائد لا توجد في المجاز وفي المجاز مفاسد لا توجد في المشترك فمن الفوائد أن المشترك مطرد فلا يضطرب بخلاف المجاز فقد لا يطرد كما تقدم ومنها الاشتقاق منه بالمعنيين فيتسع الكلام نحو « أقرأت المرأة » بمعنى حاضت وطهرت والمجاز لا يشتق منه صلح له حال كونه حقيقة ، ومنها صحة التجوز باعتبار معنى المشترك فتكثر بذلك الفوائد . وأما مفاسد المجاز التي لا توجد في المشترك فمنها احتياجه إلى الوضعين الشخصي والنوعي والشخصي باعتبار معناه الأصلي والفرعي للعلاقة والمشترك يكفي فيه الوضع الشخصي ولا يحتاج إلى النوعي لعدم احتياجه إلى العلاقة ، ومنها أن المجاز مخالف للظاهر فإن الظاهر المعنى الحقيقي لا المجازي بخلاف المشترك ، فإنه ليس ظ اهراً في بعض معانيه دون بعض حتى يلزم بإرادة أحدها مخالفة الظاهر ، ومنها أن المجاز قد يؤدي إلى الغلط عند عدم القرينة فيحمل على المعنى الحقيقي بخلاف المشترك فإن معانيه كلها حقيقة . وقد أجيب عن هذه الفوائد والمفاسد التي ذكرها الأولون والآخرون والحق أن الحمل على المجاز أولى من الحمل على الاشتراك لغلبة المجاز بلا خلاف والحمل على الأعم الأغلب دون القليل النادر متعين . واعلم أن التعارض الحاصل بين أحوال الألفاظ لا يختص بالتعارض بين المشترك والمجاز فإن الخلل في فهم مراد المتكلم يكون على خمسة أوجه .

أحدها : احتمال الاشتراك ، وثانيها : احتمال النقل بالعرف أو الشرع ، وثالثها : احتمال المجاز . ورابعها : احتمال الإضمار . وخامسها : احتمال التخصيص ووجه كون هذه الوجوه تؤثر خللاً في فهم مراد المتكلم أنه إذا انتفى احتمال الاشتراك والنقل كان اللفظ موضوعاً لمعنى واحد وإذا انتفى احتمال المجاز والإضمار كان المراد من اللفظ ما وضع له وإذا انتفى احتمال التخصيص كان المراد باللفظ جميع ما وضع له فلا يبقى عند ذلك خلل في الفهم . والتعارض بين هذه يقع في عشرة وجوه لأنه يقع بين الاشتراك وبين الأربعة الباقية ، ثم بين ا لنقل وبين الثلاثة الباقية ، ثم بين المجاز والوجهين الباقيين ثم بين الإضمار والتخصيص ، فإذا وقع التعارض بين الاشتراك والنقل فقيل إن النقل أولى لأنه يكون اللفظ عند النقل لحقيقة واحدة مفردة في جميع الأوقات والمشترك مشترك في الأوقات كلها ، وقيل الاشتراك أولى لأنه لا يقتضي فسخ وضع سابق والنقل يقتضيه ، وأيضاً لم ينكر وقوع المشترك في لغة العرب أحد من أهل العلم وأنكر النقل كثير منهم وأيضاً قد لا يعرف النقل فيحمل السامع ما سمعه من اللفظ على المعنى الأصلي فيقع الغلط وأياً المشترك أكثر وجوداً من المنقول وهذه الوجوه ترجح الاشتراك على النقل وهي أقوى مما استدل به من رجح النقل . وأما التعارض بين المشترك والمجاز فقد تقدم تحقيقه في صدر هذا البحث . وأما التعارض بين الاشتراك والإضمار فقيل إن الإضمار أولى لأن الإجمال الحاصل بسبب الإضمار مختص ببعض الصور والإجمال الحاصل بسبب الاشتراك عام في كل الصور فكان إخلاله بالفهم أكثر من إخلال الاضماء به ، وقيل إن الاشتراك أولى لأن الإضمار محتاج إلى ثلاث قرائن قرينة تدل على أصل الإضمار وقرينة تدل على موضع الإضمار وقرينة تدل على نفس المضمر والمشترك يفتقر إلى قرينتين كما سبق فكان الإضمار أكثر إخلالاً بالفهم ، وأجيب بأن الإضمار وإن افتقر إلى تلك القرائن الثلاث ذلك في صورة واحدة بخلاف المشترك فإنه يفتقر إلى القرينتين في صور متعددة ، فكان أكثر إخلالاً بالفهم فقيل التخصيص أولى لأن التخصيص أولى من المجاز وقد تقدم أن المجاز أولى من الاشتراك . وأما التعارض بين النقل والمجاز فقيل المجاز أولى لأن النقل يحتاج إلى اتفاق أهل اللسان على تغيير الوضع وذلك متعذر أو متعسر . والمجاز يحتاج إلى قرينة مانعة عن فهم الحقيقة وذلك متيسر ، وأيضاً المجاز أكثر من النقل والحمل على الأكثر مقدم وأيضاً في المجاز ما قدمنا من الفوائد وليس شيء من ذلك في المنقول . وأما التعارض بين النقل والتخصيص فقيل التخصيص أولى لما تقدم من أن التخصيص مقدم على النقل ، وأما التعارض بين المجاز والإضمار ، فقيل هما سواء ، وقيل المجاز أولى لأن الإضمار يحتاج إلى ثلاث قرائن كما تقدم ، وأما التعارض بين المجاز والتخصيص فالتخصيص أولى لأن السامع إذا لم يجد قرينة تدل على التخصيص حمل اللفظ على عمومه فيحصل مراد المتكلم ، وأما في المجاز فالسامع إذا لم يجد قرينة لحمله على الحقيقة فلا يحصل مراد المتكلم ، وأما التعارض ب ين الإضمار والتخصيص فالتخصيص أولى لما تقدم من أن التخصيص مقدم على المجاز والمجاز هو والإضمار سواء وهو أولى من الإضمار .

البحث العاشر في الجمع بين الحقيقة والمجاز : ذهب جمهور أهل العربية وجميع الحنفية وجمع من المعتزلة والمحققون من الشافعية إلى أنه لا يستعمل اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي حال كونهما مقصودين بالحكم ، بأن يراد كل واحد منهما وأجاز ذلك بعض الشافعية وبعض المعتزلة كالقاضي عبد الجبار وأبي علي الجبائي مطلقاً إلا أن لا يمكن الجمع بينهما كأفعل أمراً وتهديداً فإن الأمر طلب الفعل والتهديد يقتضي الترك فلا يجتمعان معاً ، وقال الغزالي وأبو الحسين : إنه يصح استعماله فيهما عقلاً لا لغة إلا في غير المفرد كالمثنى والمجموع فيصح استعماله فيهما لغة لتضمنه المتعدد كقولهم : « القلم أحد اللسانين » ورجح هذا التفصيل ابن الهمام وهو قوي لأنه قد وجد المقتضى وفقد المانع فلا يمتنع عقلاً إرادة غير المعنى الحقيقي مع المعنى الحقيقي بالمتعدد . واحتج المانعون مطلقاً بأن المعنى المجازي يستلزم ما يخالف المعنى الحقيقي وهو قرينة عدم إرادته فيستحيل اجتماعهما . وأجيب بأن ذلك الاستلزام إنما هو عند عدم قصد التعميم ، أما معه فلا ، واحتجوا ثانياً بأنه كما يستحيل في الثوب الواحد أن يكون ملكاً وعارية في وقت واحد كذلك يستحيل في اللفظ الواحد أن يكون حقيقة ومجازاً . وأجيب بأن الثوب ظرف حقيقي للملك والعارية واللفظ ليس بظرف حقيقي للمعنى . والحق امتناع الجمع بينهما لتبادر المعنى الحقيقي من اللفظ من غير أن يشاركه غيره في التبادر عند الإطلاق وهذا بمجرده يمنع من إرادة غير الحقيقي بذلك اللفظ المفرد مع الحقيقي ولا يقال إن اللفظ يكون عند قصد الجمع بينهما مجازاً لهما لأن المفروض أن كل واحد منهما متعلق الحكم لا مجموعهما ولا خلاف في جواز استعمال اللفظ في معنى مجازي يندرج تحته المعنى الحقيقي وهو الذي يسمونه عموم المجاز ، لأن قرينة كل مجاز تنافي إرادة غيره من المجازات وإلى هنا انتهى الكلام في المبادئ ، وقد ذكر جماعة من أهل الأصول في المبادئ مباحث في بعض الحروف التي ربما يحتاج إليها الأصولي وأنت خبير بأنها مدونة في فن مستقل مبينة بياناً تاماً وذلك كالخلاف في الواو هل هي لمطلق الجمع أو للترتيب ؟ فذهب إلى الأول جمهور النحاة والأصوليون والفقهاء . قال أبو علي الفارسي : أجمع نحاة البصرة والكوفة على أنها للج مع المطلق . وذكر سيبويه في سبعة عشر موضعاً من كتابه أنها للجمع المطلق ، وقال الفراء وثعلب وأبو عبيد إنها للترتيب ، وروي هذا عن الشافعي والمؤيد بالله وأبي طالب . واحتج الجمهور بأن الواو قد تستعمل فيما يمتنع الترتيب فيه كقولهم : تقاتل زيد وعمرو ولو قيل تقاتل زيد فعمرو أو تقاتل زيد ثم عمرو لم يصح والأصل الحقيقة فوجب أن يكون حقيقة في غير الترتيب وأيضاً لو اقتضت الواو الترتيب لم يصح قولك رأيت زيداً وعمراً بعده أورأيت زيداً وعمراً قبله لأن قولك بعده يكون تكراراً لما تقيده الواو من الترتيب وقولك قبله يكون مناقضاً لمعنى الترتيب ويمكن أن يجاب عن هذا الاستدلال بأنه امتنع جعل الواو هنا للترتيب لوجود مانع ولا يستلزم ذلك امتناعه عند عدمه واحتجوا أيضاً بقوله تعالى : ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة في سورة البقرة ، وقال في سورة الأعراف وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً وقوله واسجدي واركعي مع الراكعين مع أن الركوع مقدم على السجود وقوله والسارق والسارقة و الزانية والزاني وليست في شيء من هذه المواضع للترتيب وهكذا في غيرها مما يكثر تعداده ، وعلى كل حال فأهل اللغة العربية لا يفهمون من قو ل من قال اشتر الطعام والإدام أو اشتر الأدام والطعام والترتيب أصلاً وأيضاً لو كانت الواو للترتيب لفهم الصحابة رضي الله عنهم في قوله سبحانه : إن الصفا والمروة من شعائر الله أن الابتداء يكون من الصفا من دون أن يسألوا رسول الله صضص عن ذلك ولكنهم سألوه فقال ابدأوا بما بدأ الله به . واحتج القائلون بالترتيب بما صح أن خطيباً قال في خطبته من يطع الله ورسوله فقد اهتدى ومن عصاهما فقد غوى ، فقال له رسول الله صضص بئس خطيب القوم أنت قل ومن يعص الله ورسوله ولو كان الواو لمطلق الجمع لما افترق الحال بين ما علمه الرسول وبين ما قاله . وأجيب عن هذا بأنه إنما أمره صضص بذلك لأنه فهم منه اعتقاد التسوية بين الله ورسوله فأمره بعدم الجمع بينهما في ضمير واحد تعظيماً لله سبحانه . والحاصل أنه لم يأت القائلون بإفادة الواو للترتيب بشيء يصلح للاستدلال به ويستدعي الجواب عنه ، وكما أن الواو لمطلق الجمع من دون ترتيب ولا معية فالفاء للتعقيب بإجماع أهل اللغة وإذا وردت لغير تعقيب فذلك لدليل آخر مقترن معناه بمعناها ، وكذلك في للظرفية إما محققة أو مقدرة، وكذلك من ترد لمعان ، وكذلك الباء لها معان مبينة في علم الإعراب فلا حاجة لنا إلى التطويل بهذه الحروف التي لا يتعلق بتطويل الكلام فيها كثير فائدة فإن معرفة ذلك قد عرفت من ذلك العلم، ولنشرع الآن بعون الله وإمداده وهدايته وتيسيره في المقاصد فنقول

 

في المنطوق والمفهوم، وفيه أربع مسائل

المسألة الأولى : في حدهما ، فالمنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق أي يكون حكماً للمذكور وحالاً من أحواله والمفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق أي يكون حكماً لغير المذكور وحالاً من أحواله . والحاصل أن الألفاظ قوالب للمعاني المستفادة منها فتارة تستفاد منها من جهة النطق تصريحاً وتارة من جهته تلويحاً فالأول المنطوق والثاني المفهوم . والمنطوق ينقسم إلى قسمين : الأول ما لا يحتمل التأويل وهو النص والثاني ما يحتمله وهو الظاهر . والأول أيضاً ينقسم إلى قسمين : صريح إن دل عليه اللفظ بالمطابقة أو التضمن وغير صريح إن دل عليه بالالتزام . وغير الصريح ينقسم إلى دلالة اقتضاء وإيماء وإشارة فدلالة الاقتضاء هي إذا توقف الصدق أو الصحة العقلية أو الشرعية عليه مع كون ذلك مقصود التكلم . ودلالة الإيماء أن يقترن اللفظ بحكم لو لم يكن للتعليل لكان بعيداً وسيأتي بيان هذا في القياس . ودلالة الإشارة حيث لا يكون مقصوداً للمتكلم . والمفهوم ينقسم إلى مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة . فمفهوم الموافقة حيث يكون المسكوت عنه موافقاً للملفوظ به فإن كان أولى ب الحكم من المنطوق به فيسمى فحوى الخطاب وإن كان مساوياً له فيسمى لحن الخطاب . وحكى الماوردي والروياني في الفرق بين فحوى الخطاب ولحن الخطاب وجهين : أحدهما أن الفحوى ما نبه عليه اللفظ واللحن ما لاح في اللفظ . وثانيهما أن الفحوى ما دل على ما هو أقوى منه واللحن ما دل على مثله وقال القفال أن فحوى الخطاب ما دل المظهر على المسقط واللحن ما يكون محالاً على غير المراد والأولى ما ذكرناه أولاً . وقد شرط بعضهم في مفهوم الموافقة أن يكون أولى من المذكور وقد نقله إمام الحرمين الجويني في البرهان عن الشافعي وهو ظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق الشيرازي ونقله الهندي عن الأكثرين . وأما الغزالي وفخر الدين الرازي وأتباعهما فقد جعلوه قسمين : تارة يكون أولى وتارة يكون مساوياً وهو الصواب فجعلوا شرطه أن لا يكون المعنى في المسكوت عنه أقل مناسبة للحكم من المعنى المنطوق به قال الزركشي وهو ظاهر كلام الجمهور من أصحابنا وغيرهم . وقد اختلفوا في دلالة النص على مفهوم الموافقة هل هي لفظية أو قياسية على قولين حكاهما الشافعي في الأمر وظاهر كلامه ترجيح أنه قياس ونقله الهندي في النهاية عن الأكثرين قال الصيرفي ذهبت طائفة جلة سيدهم الشفاعي إلى أن هذا هو القياس الجلي وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في شرح اللمع إنه الصحيح وجرى عليه القفال الشاشي فذكره في أنواع القياس قال سليم الرازي الشافعي يومئ إلى أنه قياس جلي لا يجوز ورود الشرع بخلافه قال وذهب المتكلمون بأسرهم الأشعرية والمعتزلة إلى أنه مستفاد من النطق وليس بقياس قال الشيخ أبو حامد الإسفرائني الصحيح من المذاهب أنه جار مجرى النطق لا مجرى دلالة النص لكن دلالته لفظية . ثم اختلفوا فقيل إن المنع من التأفيف منقول بالعرف عن موضوعه اللغوي إلى المنع من أنواع الأذى وقيل إنه فهم بالسياق والقرائن وعليه المحققون من أهل هذا القول كالغزالي وابن القشيري والآمدي وابن الحاجب والدلالة عندهم مجازية من باب إطلاق الأخص وإرادة الأعم قال الماوردي والجمهور على أن دلالته من جهة اللغة لا من القياس . قال القاضي أبو بكر الباقلاني القول بمفهوم الموافقة من حيث الجملة مجمع عليه قال ابن رشد لا ينبغي للظاهرية أن يخالفوا في مفهوم الموافقة لأنه من باب السمع والذي رد ذلك يرد نوعاً من الخطاب قال الزركشي وقد خالف فيه ابن حزم قال ابن تيمية وهو مكابرة .

المسألة الثانية : مفهوم المخالفة وهو حيث يكون السكوت عنه مخالفاً للمذكور في الحكم إثباتاً ونفياً فيثبت للمسكوت عنه نقيض حكم المنطوق به ويسمى دليل الخطاب لأن دليله من جنس الخطاب أو لأن الخطاب دال عليه . قال القرافي وهل المخالفة بين المنطوق والمسكوت بضد الحكم المنطوق به أو نقيضه الحق الثاني . ومن تأمل المفهومات وجدها كذلك . وجميع مفاهيم المخالفة حجة عند الجمهور إلا مفهوم اللقب ، وأنكر أبو حنيفة الجميع وحكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في شرح اللمع عن القفال الشاشي وأبي حامد المروزي وأما الأشعري فقال القاضي إن النقلة نقلوا عنه القول بالمفهوم كما نقلوا عنه نفي صيغ العموم وقد أضيف إليه خلاف ذلك وأنه قال بمفهوم الخطاب وذكر شمس الأئمة السرخسي من الحنفية في كتاب السير أنه ليس بحجة في خطابات الشرع وأما في مصطلح الناس وعرفهم فهو حجة وعكس ذلك بعض المتأخرين من الشافعية فقال هو حجة في كلام الله ورسوله وليس بحجة في كلام المصنفين وغيرهم كذا حكاه الزركشي . واختلف المثبتون للمفهوم في مواضع .

أحدها : هل هو حجة من حيث اللغة أو الشرع ؟ وفي ذلك وجهان : للش افعية حكاهما الماوردي والروياني قال ابن السمعاني والصحيح أنه حجة من حيث اللغة وقال الفخر الرازي لا يدل على النفي بحسب اللغة لكنه يدل عليه بسحب العرف العام وذكر في المحصول في باب العموم أنه يدل عليه العقل .

الموضع الثاني : اختلفوا أيضاً في تحقيق مقتضاه أنه هل يدل على نفي الحكم عما عدا المنطوق به مطلقاً سواء كان من جنس المثبت أو لم يكن أو تختص دلالته بما إذا كان من جنسه فإذا قال في الغنم السائمة الزكاة فهل نفى الزكاة عن المعلوفة مطلقاً سواء كانت من الإبل أو البقر أو الغنم أو هو مختص بالمعلوفة من الغنم وفي ذلك وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد الإسفرائني والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وسليم الرازي وابن السمعاني والفخر الرازي قال الشيخ أبو حامد والصحيح تخصيصه بالنفي عن معلوفة الغنم فقط . قلت هو الصواب .

الموضع الثالث : هل المفهوم المذكور يرتقي إلى أن يكون دليلاً قاطعاً أو لا يرتقي إلى ذلك قال إمام الحرمين الجويني إنه يكون قطعياً وقيل لا .

الموضع الرابع : إذا دل الدليل على إخراج صورة من صور المفهوم فهل يسقط المفهوم بالكلية أو يتمسك في البقية ؟ وهذا يمشي على الخلاف في حجية العمو م إذا خص وقد تقدم الكلام في ذلك .

الموضع الخامس : هل يجب العمل به قيل البحث عما يوافقه أو يخالفه من منطوق أو مفهوم آخر ؟ فقيل حكمه حكم العمل بالعام قبل البحث عن المخصص وحكى القفال الشاشي في ذلك وجهين :

المسألة الثالثة : للقول بمفهوم المخالفة شروط :

الأول : أن لا يعارضه ما هو أرجح منه من منطوق أو مفهوم موافقة وأما إذ عارضه قياس فلم يجوز القاضي أبو بكر الباقلاني ترك المفهوم به مع تجويزه ترك العموم بالقياس كذا قال ولا شك أن القياس المعمول به يخصص عموم المفهوم كما يخصص عموم المنطوق وإذا تعارضا على وجه لا يمكن الجمع بينهما وكان كل واحد منهما معمولاً به فالمجتهد لا يخفي عليه الراجح منهما من المرجوح وذلك يختلف باختلاف المقامات وبما يصاحب كل واحد منهما من القرائن المقوية له . قال شارح اللمع دليل الخطاب إنما يكون حجة إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه كالنص والتنبيه فإن عارضه أحدهما سقط وإن عارضه عموم صح التعلق بعموم دليل الخطاب على الأصح وإن عارضه قياس جلي قدم القياس وأما الخفي فإن جعلناه حجة كالنطق قدم دليل الخطاب وإن جعلناه كالقياس فقد رأيت بعض أصحابنا يقدمون كثيراً القياس في كتب الخلا ف والذي يقتضيه المذهب أنهما يتعارضان .

الشرط الثاني : أن لا يكون المذكور قصد به الامتنان كقوله تعالى : لتأكلوا منه لحماً طرياً فإنه لا يدل على منع أكل ما ليس بطري .

الشرط الثالث : أن لا يكون المنطوق خرج جواباً عن سؤال متعلق بحكم خاص ولا حادثة خاصة بالمذكور هكذا قيل ولا وجه لذلك فإنه لا اعتبار بخصوص السبب ولا بخصوص السؤال وقد حكى القاضي أبو يعلى في ذلك احتمالين قال الزركشي ولعل الفرق يعني عموم اللفظ وعموم المفهوم أن دلالة المفهوم ضعيفة تسقط بأدنى قرينة بخلاف اللفظ العام . قلت وهذا فرق قوي لكنه إنما يتم في المفاهيم التي دلالتها ضعيفة أما المفاهيم التي دلالتها قوية قوة تلحقها بالدلالات اللفظية فلا . قال ومن أمثلته قوله تعالى : لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة فلا مفهوم للأضعاف لأنه جاء على النهي عما كانوا يتعاطونه بسبب الآجال كان الواحد منهم إذا حل دينه يقول إما أن تعطي وإما أن تربي فيتضاعف بذلك أصل دينه مراراً كثيرة فنزلت الآية على ذلك .

الشرط الرابع : أن لا يكون المذكور قصد به التفخيم وتأكيد الحال كقوله صضص لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم والآخر أن تحد الحديث فإن التقييد بالإيمان لا مفهوم له وإنما ذكر لتفخيم الأمر .

الشرط الخامس : أن يذكر مستقلاً فلو ذكر على وجه التبعية لشيء آخر فلا مفهوم له كقوله تعالى : ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد فإن قوله في المساجد لا مفهوم له لأن المعتكف ممنوع من المباشرة مطلقاً .

الشرط السادس : أن لا يظهر من السياق قصد التعميم فإن ظهر فلا مفهوم له كقوله تعالى والله على كل شيء قدير للعلم بأن الله سبحانه قادر على المعدوم والممكن وليس بشيء فإن المقصود بقوله على كل شيء التعميم .

الشرط السابع : أن لا يعود على أصله الذي هو المنطوق بالإبطال أما لو كانت كذلك فلا يعمل به .

الشرط الثامن : أن لا يكون قد خرج مخرج الأغلب كقوله تعالى : وربائبكم اللاتي في حجوركم فإن الغالب كون الربائب في الحجور فقيد به لذلك لا لأن حكم اللاتي لسن في الحجور بخلافه ونحو ذلك كثير في الكتاب والسنة .

المسألة الرابعة : في أنواع مفهوم المخالفة :

النوع الأول : مفهوم الصفة ، وهي تعليق الحكم على الذات بأحد الأوصاف نحو في سائمة الغنم زكاة والمراد بالصفة عند الأصوليين تقييد لفظ مشترك المعنى بلفظ آخر يختص ببعض معانيه ليس بشرط ولا غاية ولا يريدون به ا لنعت فقط وهكذا عند أهل البيان فإن المراد بالصفة عندهم هي المعنوية لا النعت وإنما يخص الصفة بالنعت أهل النحو فقط وبمفهوم الصفة أخذ الجمهور وهو الحق لما هو معلوم من لسان العرب أن الشيء إذا كان له وصفان فوصف بأحدهما دون الآخر كان المراد به ما فيه تلك الصفة دون الآخر ، وقال أبو حنيفة وأصحابه وبعض الشافعية والمالكية إنه لا يؤخذ به ولا يعمل عليه ووافقهم من أئمة اللغة الأخفش ابن فارس وابن جني . وقال المازري من الشافعية بالتفصيل بين أن يقع ذلك جواب سائل فلا يعمل به وبين أن يقع ابتداء فيعمل به فإنه لا بد لتخصيصه بالذكر من موجب وفي جعل هذا التفصيل مذهباً مستقلاً نظر فإنه قد تقدم أن من شرط الأخذ بالمفهوم عند القائلين به أن لا يقع جواباً لسؤال . وقال أبو عبد الله البصري إنه حجة في ثلاث صور أن يرد مورد البيان كقوله في سائمة الغنم الزكاة أو مورد التعليم كقوله صضص في خبر التحالف والسلعة قائمة أو يكون ما عدا الصفة داخلاً تحت الصفة كالحكم بالشاهدين فإنه يدل على أنه لا يحكم بالشاهد الواحد لأن الداخل تحت الشاهدين ولا يدل على نفي الحكم فيما سوى ذلك وقال إمام الحرمين الجويني بالتفصيل بين الو صف المناسب وغيره فقال بمفهوم الأول دون الثاني وعليه يحمل نقل الرازي عنه للمنع ونقل ابن الحاجب عنه للجواز ، وقد طول أهل الأصول الكلام على استدلال هؤلاء المختلفين لما قالوا به وليس في ذلك حجة واضحة لأن المبحث لغوي واستعمال أهل اللغة والشرع لمفهوم الصفة وعملهم به معلوم لكل من له علم بذلك .

النوع الثاني : مفهوم العلة وهو تعليق الحكم بالعلة نحو حرمت الخمر لإسكارها والفرق بين هذا النوع والنوع الأول أن الصفة قد تكون علة كالإسكار وقد لا تكون علة بل متممة كالسوم فإن الغنم هي العلة والسوم متمم لها قال القاضي أبو بكر الباقلاني والغزالي والخلاف فيه وفي مفهوم الصفة واحد .

النوع الثالث : مفهوم الشرط ، والشرط في اصطلاح المتكلمين ما يتوقف عليه المشروط ولا يكون داخلاً في المشروط ولا مؤثراً فيه وفي اصطلاح النحاة ما دخل عليه أحد الحرفين إن أو إذا أو ما يقوم مقامهما مما يدل على سببية الأول ومسببية الثاني وهذا هو الشرط اللغوي وهو المراد هنا لا الشرعي ولا العقلي وقد قال به القائلون بمفهوم الصفة ووافقهم على القول به بعض من خالف في مفهوم الصفة ولهذا نقله أبو الحسين السهيلي في آداب الجدل عن أك ثر الحنفية . ونقله ابن القشيري عن معظم أهل العراق ونقله إمام الحرمين عن أكثر العلماء وذهب أكثر المعتزلة كما نقله عنهم صاحب المحصول إلى المنع من الأخذ به ، ورجح المنع المحققون من الحنفية وروي عن أبي حنيفة ، ونقله ابن التلمساني عن مالك . واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني والغزالي والآمدي وقد بالغ إمام الحرمين في الرد على المانعين ولا ريب أنه قول مردود وكل ما جاؤوا به لا تقوم به الحجة والأخذ به معلوم من لغة العرب والشرع فإن من قال لغيره إن أكرمتني أكرمتك ومتى جئتني أعطيتك ونحو ذلك مما لا ينبغي أن يقع فيه خلاف بين كل من يفهم لغة العرب وإنكار ذلك مكابرة وأحسن ما يقال لمن أنكره عليك بتعلم لغة العرب فإن إنكارك لهذا يدل على أنك لا تعرفها .

النوع الرابع : مفهوم العدد وهو تعليق الحكم بعدد مخصوص فإنه يدل على انتفاء الحكم فيما عدا ذلك العدد زائداً كان أو ناقصاً وقد ذهب إليه الشافعي كما نقله عنه أبو حامد وأبو الطيب الطبري والماوردي وغيرهم ونقله أبو الخطاب الحنبلي عن أحمد بن حنبل وبه قال مالك وداود الظاهري وبه قال صاحب الهداية من الحنفية ومنع من العمل به المانعون بمفهوم الصفة . قال الشيخ أبو حامد وابن السمعاني وهو دليل كالصفة سواء . والحق ما ذهب إليه الأولون والعمل به معلوم من لغة العرب ومن الشرع فإن من أمر بأمر وقيده بعدد مخصوص فزاد المأمور على ذلك العدد أو نقص عنه فأنكر عليه الآمر الزيادة أو النقص كان هذا الإنكار مقبولاً عند كل من يعرف لغة العرب . فإن ادعى المأمور أنه قد فعل ما أمر به مع كونه نقص عنه أو زاد عليه كانت دعواه هذه مردودة عنه كل من يعرف لغة العرب .

النوع الخامس : مفهوم الغاية وهو مد الحكم بإلى أو حتى وغاية الشيء آخره وإلى العمل به ذهب الجمهور وبه قال بعض من لم يعمل بمفهوم الشرط كالقاضي أبي بكر الباقلاني والغزالي والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين قال ابن القشيري وإليه ذهب معظم نفاة المفهوم وكذا قال القاضي أبو بكر حاكياً لذلك . وحكى ابن برهان وصاحب المعتمد الاتفاق عليه قال سليم الرازي لم يختلف أهل العراق في ذلك وقال القاضي في التقريب صار معظم نفاة دليل الخطاب إلى أن التقييد بحرف الغاية يدل على انتفاء الحكم عما وراء الغاية قال لهذا أجمعوا على تسميتها غاية وهذا من توقيف اللغة معلوم فكان بمنزلة قولهم تعل يق الحكم بالغاية موضوع للدلالة على أن ما بعدها بخلاف ما قبلها انتهى . ولم يخالف في ذلك إلا طائفة من الحنفية والآمدي ولم يتمسكوا بشيء يصلح للتمسك به قط بل صمموا على منعه طرداً لباب المنع من العمل بالمفاهيم وليس ذلك بشيء .

النوع السادس : مفهوم اللقب وهو تعليق الحكم بالاسم العلم نحو قام زيد أو اسم النوع نحو في الغنم زكاة ولم يعمل به أحد إلا أبو بكر الدقاق كذا قيل ، وقال سليم الرازي في التقريب صار إليه الدقاق وغيره من أصحابنا يعني الشافعية وكذا حكاه عن بعض الشافعية ابن فورك ثم قال وهو الأصح قال الكيا الطبري في التلويح إن ابن فورك كان يميل إليه وحكاه السهيلي في نتائج الفكر عن أبي بكر الصيرفي ونقله عبد العزيز في التحقيق عن أبي حامد المروزي . قال الزركشي والمعروف عن أبي حامد إنكار القول بالمفهوم مطلقاً وقال إمام الحرمين الجويني في البرهان وصار إليه الدقاق وصار إليه طوائف من أصحابنا ونقله أبو الخطاب الحنبلي في التمهيد عن منصوص أحمد قال وبه قال مالك وداود وبعض الشافعية انتهى . ونقل القول به عن ابن خوازمنداد والباجي وابن ال قصار ، وحكى ابن برهان في الوجيز التفصيل عن بعض الشافعية وهو أنه يعمل به في أسماء الأنواع لا في أسماء الأشخاص ، وحكى ابن حمدان وأبو يعلى من الحنابلة تفصيلاً آخر وهو العمل بما دلت عليه القرينة دون غيره . والحاصل أن القائل به كلاً أو بعضاً لم يأت بحجة لغوية ولا شرعية ولا عقلية ومعلوم من لسان العرب أن من قال رأيت زيداً لم يقتض أنه لم ير غيره قطعاً وأما إذا دلت القرينة على العمل به فذلك ليس إلا للقرينة فهو خارج عن محل النزاع .

النوع السابع : مفهوم الحصر وهو أنواع أقواها : ما وإلا نحو : ما قام إلا زيد . وقد وقع الخلاف فيه هل هو من قبيل المنطوق أو المفهوم وبكونه منطوقاً جزم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في الملخص ورجحه القرافي في القواعد وذهب الجمهور إلى أنه من قبيل المفهوم وهو الراجح والعمل به معلوم من لغة العرب ولم يأت من لم يعمل به بحجة مقبولة . ثم الحصر بإنما وهو قريب مما قبله في القوة . قال الكيا الطبري وهو أقوى من مفهوم الغاية وقد نص عليه الشافعي في الأم وصرح هو وجمهور أصحابه أنها في قوة الإثبات والنفي بما وإلا وذهب ابن سريج وأبو حامد المروزي أن حكم ما عدا ال إثبات موقوف على الدليل بما تضمنه من الاحتمال وقد وقع الخلاف هل هو منطوق أو مفهوم والحق أنه مفهوم وأنه معمول به كما يقتضيه لسان العرب ثم حصر المبتدأ في الخبر وذلك بأن يكون معرفاً باللام أو الإضافة نحو العالم زيد وصديقي عمرو فإنه يفيد الحصر إذ المراد بالعالم وبصديقي هو الجنس فيدل على العموم إذ لم تبن هناك قرينة تدل على العهد فهو يدل على نفي العلم من غير زيد ونفي الصداقة من غير عمرو وذلك أن الترتيب الطبيعي أن يقدم الموصوف علىالوصف فإذا قدم الوصف على الموصوف معرفاً باللام أو الإضافة أفاد العدول مع ذلك التعريف أن نفي ذلك الوصف عن غير الموصوف مقصود للمتكلم وقيل إنه يدل على ذلك بالمنطوق . والحق أن دلالته مفهومية لا منطوقية وإلى ذلك ذهب جماعة من الفقهاء والأصوليين ومنهم إمام الحرمين الجويني والغزالي وأنكره جماعة منهم القاضي أبو بكر الباقلاني والآمدي وبعض المتكلمين والكلام في تحقيق أنواع الحصر محرر في علم البيان وله صور غير ما ذكرناه هاهنا وقد تتبعتها من مؤلفاتهم ومن مثل كشاف الزمخشري وما هو على نمطه فوجدتها تزيد على خمسة عشر نوعاً وجمعت في تقرير ذلك بحثاً .

النوع الثامن : مفهوم الحال أي تقييد الخطاب بالحال ، وقد عرفت أنه من جملة مفاهيم الصفة لأن المراد الصفة المعنوية لا النعت ، وإنما أفردناه بالذكر تكميلاً للفائدة . قال ابن السمعاني ولم يذكره المتأخرون لرجوعه إلى الصفة وقد ذكره سليم الرازي في التقريب و ابن فورك .

النوع التاسع : مفهوم الزمان كقوله تعالى : الحج أشهر معلومات وقوله إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة وهو حجة عند الشافعي كما نقله الغزالي وشيخه وهو في التحقيق داخل في مفهوم الصفة باعتبار متعلق الظرف المقدر كما تقرر في علم العربية .

النوع العاشر : مفهوم المكان نحو جلست أمام زيد وهو حجة عند الشافعي كما نقله الغزالي وفخر الدين الرازي ومن ذلك لو قال بع في مكان كذا فإنه يتعين وهو أيضاً راجع إلى مفهوم الصفة لما عرفت في النوع الذي قبله

 

<‏ 264 ‏>‏ المناسبة في الوضع

من كتاب البحر المحيط، ‏بدر‏ ‏الدين‏ ‏محمد‏ ‏بن‏ ‏بهادر‏ ‏بن‏ ‏عبد‏ ‏الله‏ ‏الشافعي‏ ‏الزركشي

‏الطبعة‏ ‏المعتمدة:‏ ‏دار‏ ‏الكتبي

 

‏الثامن:‏ في عدم المناسبة في الوضع‏:‏ ذهب الجمهور إلى أن دلالة اللفظ على المعنى ليست لمناسبة بينهما,‏ بل لأنه جعل علامة عليه ‏,‏ ومعرفا به بطريق الوضع ‏.‏ وذهب عباد بن سليمان الصيمري وغيره إلى أن دلالة اللفظ على المعنى لمناسبة طبيعية بينهما ‏.‏ وعبر ابن الجويني عن هذا الاختلاف بأن اللغات الموضوعة لمعانيها هل هو لأمر معقول أو لا ‏؟‏ والأول ‏:‏ قول عباد ‏,‏ ثم نقل صاحب المحصول ‏"‏ عنه أن اللفظ يفيد المعنى بذاته من غير واضع لما بينهما من المناسبة الطبيعية ‏.‏ ‏

‏قال الأصفهاني:‏ وهو الصحيح عنه ‏,‏ ونقل صاحب الأحكام ‏"‏ عنه أن المناسبة حاملة للواضع على أن يضع ‏.‏ ‏

‏وفصل الزجاجي بين أسماء الألقاب وغيرها ‏,‏ فقال ‏:‏ واضع اللغة أجرى اللفظ على مسمياتها لمعان تتضمنها أسماء الألقاب ‏,‏ فإن قولنا ‏"‏ زيد ‏"‏ وإن كان مأخوذا من الزيادة ‏,‏ فليس بجار على مسماها لهذا المعنى ‏,‏ وليس فيه إلا تعريف شخص من شخص حكاه عنه الواحدي في البسيط ‏"‏ ‏<‏ 265 ‏>‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلم آدم الأسماء كلها‏}‏ وهذا المذهب فاسد ‏,‏ لأن الألفاظ لو لم تدل بالوضع ‏,‏ وإنما دلت بذواتها لكانت كالأدلة العقلية ‏,‏ فلا تختلف بالأعصار والأمم ‏,‏ والاختلاف موجود ‏,‏ وأيضا لو كان كما قال لاشترك فيه العرب والعجم لاشتراكهما في العقل ‏,‏ وأيضا فإنا نقطع بصحة وضع اللفظ للشيء ونقيضه وضده ‏,‏ ونقطع بوقوع اللفظ على الشيء ونقيضه ‏,‏ كالقرء الواقع على الحيض والطهر ‏,‏ والجور الواقع على الأبيض والأسود ‏,‏ فلو كانت الدلالة لمناسبة لزم أن يناسب اللفظ الواحد النقيضين والضدين بالطبع ‏,‏ وهو محال ‏,‏ فلا يصح وضع اللفظ الواحد لهما على هذا التقدير ‏,‏ واللازم منتف ‏,‏ لأنا نقطع بصحة وضعه لهما بل بوقوعه ‏.‏ ‏

‏قال السكاكي:‏ هذا المذهب متأول على أن للحروف خواص تناسب معناها من شدة وضعف وغيره كالجهر والهمس والمتوسط بينهما,‏ إلى غير ذلك ‏,‏ وتلك الخواص تستدعي على أن العالم بها إذا أخذ في تعيين شيء منها لمعنى لا يهمل التناسب بينهما قضاء لحق الكلم كما ترى في الفصم بالفاء الذي هو حرف رخو لكسر الشيء من غير أن يبين ‏,‏ والقصم بالقاف الذي هو حرف شديد لكسر الشيء حتى يبين ‏,‏ وفي الزفير لصوت الحمار ‏,‏ والزئير بالهمز الذي هو شديد لصوت الأسد ‏,‏ وأن المركبات ‏"‏ كالفعلان ‏"‏ و ‏"‏ الفعلى ‏"‏ ‏-‏ بالتحريك ‏-‏ كالنزوان والحيدى ‏,‏ و ‏"‏ فعل ‏"‏ ‏-‏ بضم ‏<‏ 266 ‏>‏ العين كطرف وشرف وغير ذلك خواص أيضا ‏,‏ فيلزم فيها ما يلزم في الحروف من اختصاص بعض المركبات ببعض المعاني دون بعض كاختصاص ‏"‏ الفعلان ‏"‏ و ‏"‏ الفعلى بالمتحركات ‏,‏ واختصاص ‏"‏ فعل ‏"‏ بأفعال الطبائع ‏,‏ وفي أن للحروف والمركبات خواص نوع تأثير لا نفس الكلمة في اختصاصها بالمعاني ‏.‏ هذا حاصل تأويله ‏.‏ ‏

‏والحق‏:‏ أن هذا القائل إن أراد أن هذه الألفاظ علة مقتضية لذاتها هذه المعاني فخارق للإجماع ‏,‏ وإن أراد أن بين وضع الألفاظ ومعانيها تناسبا من وجه ما لأجلها حتى جعل هذه الحروف دالة على المعنى دون غيره كما يقول المعللون للأحكام الشرعية ‏:‏ إن بين عللها وأحكامها مناسبات وإن لم تكن موجبة لها ‏,‏ وهو الظاهر من كلامه ‏,‏ فهو مذهب جماعة من أرباب علم الحروف ‏,‏ إذ زعموا أن للحروف طبائع في طبقات من حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة تناسب أن يوضع لكل مسمى ما يناسبه من طبيعة تلك الحروف ‏,‏ ليطابق لفظه ومعناه ‏,‏ وكذلك يزعم المنجمون أن حروف اسم الشخص مع اسم أمه واسم أبيه تدل على أحواله مدة حياته لما بينهما من المناسبة ‏,‏ فإن عنى عباد هذا فالبحث معه ومع هؤلاء والرد عليه بما يرد مذهب الطبائعيين في علم الكلام ‏,‏ ولا ينفع ما ردوا به من وضع اللفظ للضدين ‏,‏ لأنها مسألة خلاف كما سيأتي ‏.‏ ‏

‏وقال ‏[‏ ابن الحوبي ‏]‏:‏ هل للحروف في الكلمات خواص أو وضعت الكلمات لمعانيها اتفاقا ‏؟‏ فوضع الباب لمعنى والناب لآخر ‏,‏ وكان من الجائز وضع الباب لمعنى الناب وبالعكس ‏.‏ ‏

فنقول‏:‏ الظاهر أنه لا تعلل ولا يقال ‏:‏ لم قيل لهذا المعنى باب ولذلك جدار ‏؟‏ ‏<‏ 267>‏ ‏ قال ‏:‏ ولا شك أن من الحروف ما هو مستحسن ‏,‏ ومنه ما ليس كذلك ‏,‏ فالمستحسن إذا ضم إليه مستقبح لم يكن مناسبا ‏,‏ غير أن المناسبة من كل لفظ ومعناه اشتغال بما لا يمكن وتفويت للزمان ‏,‏ فإن اتفق في بعضها أن وقع في الذهن شيء من غير تفكر قيل به ‏,‏ كما يقول في الشدة والرخاء كيف جعل في الشدة الحرف الشديد وهو الدال مضاعفا ‏؟‏ والرخاء كيف جيء فيه بالحروف الرخوة ‏؟‏ قال ‏:‏ وهذا ينبني على مسألة حكمية ‏,‏ وهي أن الفاعل المختار هل يشترط في اختياره أحد الرافعين بحاجته وجود مرجح ‏؟‏ والأظهر ‏:‏ أنه لا يشترط ‏,‏ فالجائع يكون أكله لعلة الشبع ‏,‏ أما اختياره أحد الرغيفين لشبعه بدلا عن الآخر لا يكون لعلة ‏,‏ فالوضع لحكمة ‏,‏ وإنما وضع الباب بخصوصه لمعناه فلا سبب له ‏.‏ ‏

‏قلت‏:‏ ويجوز أن يكون من فوائد الخلاف ما إذا تعارض مدلول اللفظ والعرف ‏,‏ وفيه وجهان ‏,‏ أصحهما عند إمام الحرمين والغزالي ‏:‏ اعتبار العرف ‏,‏ ووجهه الإمام بأن العبارات لا تغني لأعيانها ‏,‏ وهي في الحقيقة أمارات منصوبة على المعاني المطلوبة ‏.‏ ‏