مختارات من كتاب الصاحبي في فقه اللغة لأحمد
بن فارس
باب
مراتب الكلام فِي وُضوحه وإشكاله
أما واضح الكلام - فالذي يفهمه كلّ سامع عرَف ظاهرَ كلام العرب. كقول القائل: شربت
ماءً ولَقيت زيداً. وكما جاء فِي كتاب الله جلّ ثناؤه منقوله: "حُرِّمَتْ
عليكم المَيْتَةُ والدمُ ولحمُ الخِنْزير" وكقول النبي صلى الله تعالى
عَلَيْهِ وسلم: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أحدُكم من نومه، فلا يَغْمِسْ يدَه فِي
الإِناء حَتَّى يَغْسِلَها ثلاثاً". وكقول الشاعر:
إن يحسدوني فإني غير لائِمِهم قبلي من الناس أهلُ الفَضل قَدْ
حُسِدُوا
وهذا أكثر الكلام وأعمُّه.
وأما المشكل، فالذي يأتيه الإشكال من: غَرابة لفظه،
أَوْ أن تكون فِيهِ إشارة إِلَى خبر لَمْ يذكره قائلهُ عَلَى جهته، أَوْ أن يكون
الكلام فِي شيء غير محدود، أَوْ يكون وَجيزاً فِي نفسه غير مَبْسوط، أَوْ تكون
ألفاظه مُشتركةً.
فأما
المُشكلِ لغرابة لفظه - فقول القائل: "يَمْلَخُ فِي الباطل ملخاً يَنْقُضُ
مِذْرَوَيه" وكما أنه قيل: "أيُدْالكُ الرجل المَرْأَة؟" قال:
"نعم، إِذَا كَانَ مُلْفَجاً" ومنه فِي كتاب الله جلُّ ثناؤه "فلا
تَعْضُلوهن"، "ومِن الناس من يعبُد الله عَلَى حَرف"،
"وسَيِّداً وحَصُوراً"، "ويُبْرئُ الأكْمَهَ" وغيرُهُ مما
صَنَّف علماؤنا فِيهِ كتَبَ غريب القرآن. ومنه فِي حديث النبي صلى الله تعالى
عَلَيْهِ وسلم: "عَلَى التِّيعَةِ شاة. والتِّيمة لصاحبها. وَفِي السُّيُوبِ
الخُمُس لا خِلاطَ ولا وِراطَ ولا شِناقَ ولا شِغارَ. من أجْبى فقد أرْلى"
وهذا كتابُه إِلَى الأقيالالعَبَاهِلة. ومنه فِي شعر العرب:
وقــــــــاتِم الأَعْمــــــَاق
شَـــــــــأزٍ بِمَنْ عَــــوَّه
مَضْبُورَةٍ قَرْواءَ هرْجَابٍ فُنُق
وفي أمثال العرب: "باقِعَةٌ" و
"شرَاب بأَنْقُع" و "ومُخْرَنْبِقٌ لِيَنْباع".
والذي
أشكل لإيماء قائله إِلَى خبر لَمْ يُفصح بِهِ - فقول القائل: "لَمْ أفِرَّ
يومَ عَيْنَيْنِ" و "رُويداً سَوْقَكَ بالقوارير" وقول امرئِ
القيس:
دع عنك نهباً صِيح فِي حَجَراته
وقول الآخر:
إِن العصا قُرِعَت لِذِي الحِلْمِ
وَفِي كتاب الله جلّ ثناؤه مَا لا يعلم معناه
إِلاَّ بمعرفة قصته، قوله جلّ ثناؤه: "قل مَن كَانَ عَدُوّاً لجِبْريل فإنّه
نَزَّله عَلَى قلبك بإذن الله" وفي أمثال العرب: "عَسَى الغُوَيْر
أبْؤُساً".
والذي يشكل لأنه لا يُحَدُّ فِي نفس الخطاب - فكقوله
جلّ ثناؤه: ""أقيموا الصلاة" فهذا مجمّل غير مفصل حَتَّى فَسَّره
النبي صلَى الله تعالى عَلَيْهِ وسلم:
والذي
أشكل لوجَازة لفظه قولهم:
الغَمَراتِ ثُم َّيَنْجَلِينَا
والذي يأتيه الإشكال لاشتراك اللفظ - قول
القائل: وضَعوا اللُّجَّ عَلَى قَفيَّ. وَعَلَى هَذَا الترتيب يكون الكلام كلُّه
فِي الكتاب والسُّنة وأشعارالعرب وسائر الكلام.
باب القول على لغة العرب هل لها قياس وهل يشتق
بعض الكلام من بعض؟
أجمع أهل اللغة إلا من شذ عنهم أن للغة العرب
قياساً وأن العرب تشتق بعض الكلام من بعض، وأن اسم الجنّ مشتق من الاجتنان. وأن
الجيم والنون تدُلاَّن أبداً عَلَى الستر. تقول العرب
للدّرع: جُنَّة. وأجَنة الليلُ. وهذا جنين، أي هو فِي
بطن أمّه أَوْ مقبور. وأن
الإنس من الظهور. يقولون: آنَسْت الشيء: أبصرته. وَعَلَى
هَذَا سائرُ كلام العَرَب، عَلم ذَلِكَ من عَلِم وجَهِلَه من جهل. قلنا: وهذا أيضاً مبنيٌ عَلَى مَا تقدم من قولنا فِي التوقيف.
فإن الَّذِي وقّفنا عَلَى أن الاجتنان الستر هو الَّذِي وقّفنا عَلَى أن الجنّ
مشتق منه. وَلَيْسَ لَنَا اليوم أن نخترع ولا أن نقول
غير مَا قالوه، ولا أن نقيس قياساً لَمْ يقيسوه، لأن فِي ذَلِكَ فسادَ اللغة
وبُطلان حقائقها. ونكنةُ الباب أن اللغة لا تؤخذ قياساً نَقيسهُ الآن نحن.
باب
القول فِي اختلاف لغات العرب
اختلاف لغات العرب من وجوه:
أحدها:
الاختلاف فِي الحركات كقولنا: "نَستعين" و "نِستعين" بفتح
النون وكسرها. قال الفرَّاء: هي مفتوحة فِي لغة قريش،
وأسدٌ وغيرهم يقولونها بكسر النون.
والوجه
الآخر: الاختلاف فِي الحركة والسكون مثل قولهم:
"معَكم" و "معْكم" أنشد الفرّاء:
ومَنْ يتَّقْ فإنّ الله معْهُ ورزق الله مُؤْتابٌ وغادِ
ووجه
أخر: وهو الاختلاف فِي إبدال الحروف نحو: "أولئك" و
"أُولالِكَ". أنشد الفرّاء:
أُلا لِك قومي لَمْ يكونوا أُشابَة ًوهل
يعِظُّ الضِّلّيلَ إلا أُلالكا
ومنها
قولهم: "أنّ زيداً" و "عَنّ زيداً".
ومن
ذَلِكَ: الاختلاف فِي الهمز والتليين نحو "مستهزؤن" و
"مستهزُوْن".
ومنه:
الاختلاف فِي التقديم والتأخير نحو "صاعقة" و "صاقعة".
ومنها:
الاختلاف فِي الحذف والإثبات نحو "استحيَيْت" و "استحْيت" و
"وصدَدْت" و "أَصْدَدْت".
ومنها: الاختلاف فِي الحرف الصحيح يبدلُ حرفاً معتلاً نحو
"أما زيد" و "أَيْما زيد".
ومنها: الاختلاف فِي الإمالة والتفخيم فِي مثل
"قضى" و "رمى" فبعضهم بفخّم وبعضهم يُميل.
ومنها:
الاختلاف فِي الحرف الساكن يستقبله مثله، فمنهم من يكسر الأول ومنهم من يضمّ،
فيقولون: "اشتَرَوُ الضلالة" و "اشتَرَوِ الضلالة".
ومنها: الاختلاف فِي التذكير والتأنيث فإن من العرب من
يقول "هَذِهِ البقر" ومنهم من يقول "هَذَا البقر" و "هَذَه
النخيل" و "هَذَا النخيل".
ومنها:
الاختلاف فِي الإدغام نحو "مهتدون" و
"مُهَدُّون".
ومنها: الاختلاف فِي الإعراب نحو "مَا زيدٌ
قائماً" و "مَا زيدٌ قائم" و "إنّ هذين" و "إنّ
هذان" وهي بالألف لغة لبني الحارث بن كعب يقولون لكلّ ياء ساكنة انفتح مَا
قبلها ذَلِكَ. وينشدون:
تزوَّدَ مِنَّا بَيْنَ أذناه ضربةً دَعَتْه إِلَى
هابي التراب عقيمِ
وذهب بعض أهل العلم إِلَى أن الإعراب يقتضي أن
يقال: "إِن هذان" قال: وذلك أن "هَذَا" اسم منهوك، ونُهْكهُ
أنه عَلَى حرفين أحدهما حرف علة وهي الألف وها كلمة تنبيه ليست من الاسم فِي شيء،
فلما ثُنّي احتيج إِلَى ألف التثنية، فلم يوصل إليها لسكون الألف الأصلية، واحتيج
إِلَى حذف أحديهما فقالوا: إِن حذَفنا الألف الأصلية بقي الاسم عَلَى حرف
واحد، وإن أسقطنا ألِفَ التثنية كَانَ فِي النون منها عوض ودلالة عَلَى معنى
التثنية، فحذفوا ألف التثنية. فلما كَانَتْ الألف
الباقية هي ألف الاسم، واحتاجوا إِلَى إعراب التثنية - لَمْ يغيروا الألف عن
صورتها لأن الإعراب واختلافه فِي التثنية والجمع إنما يقع عَلَى الحرف الَّذِي هو
علامة التثنية والجمع، فتركوها عَلَى حالها فِي النصب والخفض. قال: ومما يدلّ
عَلَى هَذَا المذهب قوله جلّ ثناؤه: "فذانك برهانان من ربّك" لَمْ تحذف
النون - وَقَدْ أضيفت - لأنه لو حذفت النون لذهب معنى التثنية أصلاً، لأنه لَمْ
تكن للتثنية ها هنا علامة إِلاَّ النون وحدها، فإذا حذفت أشبهت الواحد لذهاب علامة
التثنية.
ومنها: الاختلاف فِي صورة الجمع نحو: "أسرى" و
"أُسارى".
ومنها: الاختلاف فِي التحقيق
والاختلاس محو "يأمُرُكم" و"يأمُرْكم" و "عُفِيَ
لَهُ" و "عُفْي لَهُ".
ومنها: الاختلاف فِي الوقف عَلَى هاء التأنيث مثل "هَذِهِ
أُمَّهْ" و "هَذِهِ أمَّتْ".
ومنها: الاختلاف فِي الزّيادة نحو "أَنْظُرُ" و "أَنظورُ". أنشد الفراء:
الله يعلم أَنَّا
فِي تلفُّتنا يوم الفراق إِلَى جيراننا
صُورُ
وأنَّني حَيْثُ مَا يَثْنِي الهوى بَصري من حَيْثُ مَا سلكوا أدنو
فأنظورُ
وكلّ هَذِهِ اللغات مسماة منسوبة إِلَى
أصحابها، لكن هَذَا موضع اختصار، وهي وإن كَانَتْ لقوم دون قوم فإنها لما انتشرت
تَعاوَرَها كلٌّ.
ومن الاختلاف: اختلاف التضادِّ، وذلك قول
حِمْيَر للقائم "ثبْ" أي اقعد. فحدثنا علي بن إبراهيم القطَّان عن
المفسر عن القتيبي عن إبراهيم بن مسلم عن الزبير عن ظَمْياء بنت عبد العزيز بن
مَوألة قالت: حدثني أبي عن جدّي موألة أن عامر بن الطُّفيْل قدم عَلَى رسول الله
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فَوَثَّبَهُ وِسادة، يريد فرشه إياها وأجلسه
عَلَيْهَا. والوِثاب: الفراش بلغة حِمْيَر. قال: وهم
يسمّون الملك إِذَا كَانَ لا يغزو "موثَبان" يريدون أن يطيل الجلوس ولا
يغزو، ويقولون للرجل "ثب" أي اجلس. وروي أن زيد بن عبد الله بن دارِم
وفد عَلَى بعض ملوك حِمْيَر فألْفاه فِي مُتَصَيَّد لَهُ عَلَى جبل مُشْرِف، فسلم
عَلَيْهِ وانتسب له، فقال لَهُ الملك "ثب" أي اجلس، وظن الرجل أنه أمره بالوثوب
من الجبل فقال: "لتجدني أَيُّها الملك مِطْواعاً" ثُمَّ وثب من الجبل
فهلك، فقال: الملك: مَا شأنه؟ فخبروه بقصته وغلطه في الكلمة، فقال: "أما إنه
ليست عندنا عرَبيتْ: من دخل ظفار حمَر".
باب القول فِي اللغة الَّتِي بِهَا نزل القرآن، وأنه
لَيْسَ فِي كتاب الله جلّ ثناؤه شيء بغير لغة العرب
حدَّنا
أبو عليُّ بنُ إبراهيم القطَّان قال حدثنا عليُّ بن عبدالعزيز عن أبي عُبيد عن شيخ
لَهُ أنه سمع الكلبيّ يحدث عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل القرآن عَلَى سبعة
أحرُف أَوْ قال بسبعِ لغات، منها خمسٌ بلغة العَجْزِ من هَوازن وهم الذين يقال لهم
علُيا هَوازن وهي خمس قبائل أَوْ أربع، منها سَعدُ بن بكر وجُشَمُ بن بكر ونَصْر
بن مُعاوية وثَقيف. قال أبو عُبيد: وأحسب أفصَحَ هؤلاء بني سعد بن بكر لقول رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أفصَح العَرَب مَيْد أني من قريش وأني نشأت فِي
بني سعد بن بكر" وَكَانَ مُسْتَرْضَعاً فيهم، وهم الذين قال فيهم أبو عمرو بن
العَلاء: أفصح العرب عُليا هَوازِن وسُفْلى تميم. وعن
عبد الله بن مسعود أنه كَانَ يَستَحبُّ أن يكون الذين يكتبون المَصاحف من مُضر.
وقال عمر: لا يُمْلِيَنَّ فِي مَصاحِفِنا إِلاَّ غلمان قريش وثَقيف. وقال عثمان:
اجعلوا المُمليَ من هُذَيل والكاتبَ من ثقيف. قال أبو
عبيد: فهذا مَا جاءَ فِي لغات مُضر وَقَدْ جاءت لغاتٌ لأهل اليَمن فِي القرآن
معروفةٌ. منها قوله جلّ ثناؤه "مُتَّكِئين فِيهَا عَلَى الأرائك"
فحدّثنا أبو الحسن علي عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد قال حدثنا هُشَيْم أخبرنا
منصور عن الحسن قال: كنا لا ندري ما "الأرائك" حتى لقينا رجلا من أهل
اليمن فأخبرنا أن الأريكة
عندهم الحجلة فيها سرير.
قال: [أبو عبيد] وزعم أهل العَربية أن القرآن لَيْسَ
فِيهِ من كلام العجَم شيء وأنه كلَّه بلسانٍ عربيّ، يتأوَّلون قوله جلّ ثناؤه
"إنا جعلناه قرآناً عربياً" وقوله "بلسان عربيّ مبين". قال أبو عبيد: والصواب من ذَلِكَ عندي - والله اعلم - مذهب
فِيهِ تصديق القوْلين جميعاً. وذلك أنَّ هَذِهِ الحروف
وأصولها عجمية - كما قال الفقهاء - إِلاَّ أنها سقَطَت إِلَى العرب فأعرَبَتها
بألسنَتها، وحوَّلتها عن ألفاظ العجم إِلَى ألفاظها فصارت عربيَّة. ثُمَّ نزل
القرآن وَقَدْ اختَلَطت هَذِهِ الحروف بكلام العَرَب. فمن
قال إنها عَرَبية فهو صادق، ومن قال عجمية فهو صادق. قال:
وإنما فسَّرنا هَذَا لئلا يُقدِمَ أحد عَلَى الفقهاء فَيَنْسَبهم إِلَى الجهل،
ويتوهَّم عليهم أنهم أقدموا عَلَى كتاب الله جَلَّ ثناؤه بغير مَا أرداهُ الله
جلَّ وعزَّ، وهم كانوا أعلمَ بالتأويل وأشدَّ تعظيماً للقرآن. قال
أحمد بن فارس: لَيْسَ كل من خالف قائلاً فِي مقالته فقد نَسَبه إِلَى الجهل. وذلك أن الصدر الأول اختلفوا فِي تأويل آي من القرآن فخالف
بعضهم بعضاً. ثُمَّ خَلَفَ من بعدهم خلف، فأخذ بعضهم
بقولٍ وأخذ بعض بقول، حسب اجتهادهم وَمَا دلَّتهم الدَّلالة عَلَيْهِ. فالقول إذن مَا قاله أبو عبيد، وإن كَانَ قوم من الأوائل قَدْ
ذهبوا إِلَى غيره. فإن قال قائل: فما تأويل قول أبي
عبيد، فقد أعظم وأكبر؟ قيل لَهُ: تأويله أنه أتي بأمر
عظيم وكبير. وذلك أن القرآن لَوْ كَانَ فِيهِ من غير لغة
العرب شيء، لتوهَّم متوهْمِ أن العرب إنما عَجَزت عن الإتيان بمثله لأنه أتى بلغات
لا يعرفونها، وَفِي ذَلِكَ مَا فِيهِ. وإذا كَانَ كذا
فلا وجه لقول من يجيز قراءة القرآن فِي صلاته بالفارسية لأن الفارسية ترجمة غير
مُعْجِزة. وإنَّما أمر الله جلّ ثناؤه بقراءة القرآن العربي المعجز. ولو جازت القراءة بالترجمة الفارسية لكانت كتُب التفسير
والمصنّفات فِي معاني القرآن باللَّفظ العربيّ أولى بجواز الصَّلاة
بِهَا، وهذا لا يقوله أحد.
باب
القول فِي مأخذ اللغة
تؤخذ اللغة اعتياداً كالصبي العربيّ يسمع أبويه وغيرهما، فهو يأخذ اللغة عنهم عَلَى مَرّ من
الأوقات. وتؤخذ تلقُّناً من ملقّن. وتؤخذ سماعاً من
الرُّواة الثقات ذوي الصدق والأمانة، ويُتَّقى المظنون. فحدثنا عليُّ بن إبراهيم
عن المَعْدَانيّ عن أبيه عن معروف بن حسان عن اللَّيْث عن الخليل قال: إن
النَّحارير رُبَّما أدخلوا عَلَى الناس مَا لَيْسَ من كلام العرب إرادة اللَّبْس
والتَّعْنِيت. قلنا فَليَتَحرّ آخذ اللغة وغيرها من
العلوم أهل الأمانة والثقة والصدق والعدالة. فقد بلغنا من أمر بعض مشيخة بغداد مَا
بلغنا. واللهَ جل ثناؤه نستهدي التوفيق، وإليه نرغب فِي
إرشادنا لسُبُل الصدق، إنه خير موفق ومعين.
باب
القول فِي الاحتجاج باللغة العربية
لغةُ
العرب يحتج بِهَا فيما اختلفُ فيه، إِذَا كَانَ "التنازع في اسم أو صفة أو
شيءو مما تستعمله العرب من سننها في حقيقة ومجاز، أو ما أشبه ذلك مما يجيء في
كتابنا هذا إن شاءَ الله. فأما الذي سبيله سبيل الاستنباط، أو ما فيه لدلائل العقل
مجال - فإن العرب وغيرهم فيه سواء؛ لأن سائلا لو سأل عن دلالة من دلائل التوحيد أو
حجة في أصل فقه أو فرعه - لم يكن الاحتجاج فيه بشيء من لغة العرب، إذ كان موضوع
ذلك على غير اللغات. فأما الذي يختلف فيه الفقهاء - من قوله جل وعز: (أو لامستُم
النِساء) وقوله: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قُروء) وقوله جل وعز: (ومن قتله
منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم) وقوله: (ثم يعودون لما قالوا) - فمنه ما
يصلح الاحتجاج فيه بلغة العرب، ومنه ما يوكل إلى غير ذلك.