الملفوظية جان
سيرفوني
ترجمة الدكتور قاسم المقداد
دراســــــــة - من
منشورات اتحاد الكتاب العرب 1998
الفصل
الرابع: أفعال اللغة ACTES DE LANGAGE
لاحظنا في الفصل الأول أنَّ للملفوظ قيمة الفعل
ACTE الذي
هو جزء مكّون لمعنى ذلك الملفوظ. ومن أكثر المؤلفين الذين ساهموا في
فرض هذه الفكرة، الفيلسوف الإنجليزي أوستين J. L. AUSTIN وتشكل هذه الفكرة خلاصة دراسة الإنجازيات
PERFORMATIFS. وهي الدراسة التي خصها الفيلسوف المذكور بكتاب عنوانه
HOW TO DO things With words ، وهو عبارة عن مجموعة من اثنتي عشرة محاضرة نُشرت عام 1960،
أما عنوان الترجمة للكتاب والتي ظهرت عام 1970، فهو
quand dire c, est faire.(1)
سنعرض مايلي خلاصة أفكار أوستين). ثم نسوق مثالاً على مناقشات
الألسينين حول الإنجازية من خلال التحليلات الحديثة التي ندين بها لـ: ف. ريكاناتي
-F.RECANATI.
1- القول هو الفعل:
أ- الملفوظات التقريرية والملفوظات الإنجازية(2) :
1- الإنجازيات ملفوظات لا صحيحة ولا خاطئة:
تعريف الإنجازيات: هناك عدد كبير من الملفوظات التي لا تستخدم لوصف
الحالة الراهنة للأشياء، وبالتالي لا يمكن أن نعزو إليها قيمة الحقيقة الصح)،
كما هو حال الملفوظ التالي:
أُطْلِقُ على هذه المركب اسم الملكة اليزابيث.
أو أُعَمّدُ هذا المركب باسم الملكة اليزابيث.).
إن ملفوظات من هذا النوع لاتصفُ ولا تقصُّ ولا تلاحظ شيئاً على
الإطلاق، وهي ليست صحيحة أو خاطئة. وملفوظيتها عبارة عن تنفيذ لعمل ما. فقولك:
"أُعَمِّدُ= اسميّ". ليس وصفاً لما أنت بصدد فعله حينما تقول ماتقول، ولا هو تأكيد
على القيام به، إنما هوالفعلُ نفسه، من هنا جاءت عبارة الإنجازي
PERFORMATIF التي اعتمدها أوستين
للدلالة على تلك الملفوظات
ولمقابلتها بتلك التي يسميها بالملفوظات الوصفّية constatif على اعتبار أن الفعل الانكليزي Toperform يعني = أنجزَ).
ب- الظروف المتلازمة: مع ذلك يمكننا ملاحظة أن ملفوظية تلك
العبارات لا تُنْجَزُ العملَ الذي تذكره إلا إذا كانت الظروف التي نتجَت فيها،
ظروفاً مواتية، فملفوظية ENONCIATION".
أُعَمِّدُ = أُسَمّي... "لا تُنَفّذُ عملَ التعميدِ أو التسميةِ إذا
لم أكن ذلك الشخص المفّوض
لإنجاز ذلك التعميد، وإذا لم أُرِفق قولي ببعض الأفعال=
الأعمال الأخرى مثل فِعْل
تحطيم زجاجة على هيكل المركب المراد تعميده.
بالنسبة للإنجازّيات الأخرى مثل أَعِدُ...)، أُقسمُ...) فإن العناصر
الملازمة التي يكون وجودها
ضرورياً لحسن تنفيذ إنجاز) العمل الذي يشير إليه الفعل
القواعدي
VERBE، فهي أفكارٌ، ومشاعرٌ،
ونوايا، بفضلها لا يظلُّ الوعدُ أو القسمُ "أجوفين" أي "مجرد كلام".
غير أن الاختلاف لا أهمية له، وفي كل الأحوال، فإن العبارة
الملائمة لوصف ملفوظيّة إنجازيّة ناتجة بمعزلٍ عن توفر العناصر الملازمة والضرورية
لحسن تنفيذها، هذه العبارة هي أنها "ملفوظية تعيسة وليست عبارة
"خاطئة".
2- الملفوظية الفاشلة LES INFELICITES *) :
في المحاضرات الثانية، والثالثة، والرابعة يقيم أوستين تمييزات
متنوعة بين الفشل INFELICITES أو الخيبات أو بين التي من شأنها التأثير على الإنجازيّات.
وبعد أن حاول أوستين تصنيف الفشل INFELICITES، راح يتساءل عمّا إذا كان للتعارض بين
الملفوظيات الوصفية
CONSTATIVES والملفوظيات
الإنجازية، علاقة وثيقة بذلك التعارض القائم بين الملفوظيات الصحيحة أو الخاطئة من جهة والملفوظيات
الناجحة أو الفاشلة من جهة أخرى.
لكن معاينة الوقائع أجبرته على التخلي عن فكرة معيار كهذا. فمن
جانب، يقتضي نجاح الملفوظّية الإنجازّية أو التقريرية، بالمعنى الأعم للعبارة،
حقيقة عدد معين من التأكيدات، فمثلاً، ملفوظية الإنجازي" "أعتذر"
إذا كانت ناجحة، تقتضي حقيقة التأكيدات التالية:
"هو في صدد الاعتذار، أو يأسف لأنه تصرف بهذا الشكل" أو
"ليس في نيته إعادة الكرّة".
ومن جانب آخر، فإن الفشل أو الإخفاقات المشابهة لتلك التي وصفناها
بخصوص الإنجازيات، من شأنها التأثير على الملفوظات التقريرية، مثل:
عدم الصدق، إذ من شأنه أن يتعلق بالتأكيد كما يتعلق بالوعد،
وقولك: "هوكذلك = IL EN EST AINSI" دون أن تؤمن بذلك، يوازي قولك "أعد" دون أن تكون
لديك النية في اتباع القول بالفعل. عندها يكون التمييز الأولي بين التقريريات
والإنجازيات مجدّداً. فهل يسعنا إنقاذه عن طريق استخلاص معيار قواعدي من الإنجازيّة؟
3- البحث عن معيار قواعدي للإنجازية:
أ- الشكل الفعلي= الكلامي والإنجازّية.
غالباً مايكون للملفوظات الإنجازّية فعل قواعدي مصرف مع الشخص الأول
المفرد ضمير المتكلم)؟ زمن
الحاضر بصيغة الإدلال INDICATIF وبال المظهر المعلوم - VOLX ACTIVE، ولكن ليس بالضرورة أن يكون الملفوظ: "مسموح لك بالخروج،
على سبيل المثال معادلاً الملفوظ "اسمح لك بالخروج" لأنهما
ملفوظان إنجازيان" زد على ذلك، أن هذا الشكل نفسه، نجده في الملفوظات التقريرية مثل:
"..." أركض").
ب- الشخص الأول بزمن الحاضر: ومع ذلك من المفيد أن نتنّبه إلى
مايفرق الفعل الإنجازي عن الفعل غير الإنجازي المصرّف مع الشخص الأول من الزمن
الحاضر- لنأخذ كمثال "أراهن" و "أركض": فعلاقتهما مع الأشكال الأخرى
للتصريف ليست واحدة.
إذ أن الفعل القواعدي: يرحل PARTIR هو فعل إنجازي حينما يكون مصرفاً مع الشخص الأول ضمير
المتكلم) من زمن الحاضر،
وتقريرياً في كافة الأشكال الأخرى، ويكون أمرياً إذا تمّ
تحييده، أما الفعل يركض) فهو
تقريري في كافة أشكاله بالإضافة إلى الأمر. وقولك: "أركض" لا يمكنه التأثير أبداًفي عمل أو فعل الركض. وقولي
: "أركض"، يعني وصف أنني بصدد الفعل= العمل، أو بوصف ما أقوم به عادةً.
4- الإنجازيات الأولية والإنجازيات الصريحة:
أ- حالة الأمر: من الهام أيضاً تفحص حالة الأمر، فمهما كان الفعل
القواعدي، فإن الملفوظ الذي يتضمن الأمر يستخدم لإنجاز عمل ما، لكن هل نملك
نمطين من الإنجازية في ملفوظين مثل : "اذهب" و"آمرك
بالذهاب"؟... نلاحظ أن من تتجه إليه أيُّ من هاتين
الملفوظيتين، يكون قادراً
على وصفهما، سواء تعلق الأمر بهذه أم بتلك، حينما نقول
إننا نأمره بالذهاب. ومع ذلك
فهناك فرق: ف: "آمرك بالذهاب" ملفوظ يتضمن إشارةً
محددةً حول الفعل الذي تنجزه
ملفوظيتهُ: إنه أمر ولا شيء غير ذلك، أما "إذهب" فهو
ملفوظٌ غامضٌ أو فيه لبس:
فقد يكون أمراً، أو نصيحةً، أو رجاء، الخ.... ولتمييز
هذين النمطين من الإنجازّية
فإن أوستين يسمي الألفاظ التي يمثلها الملفوظ "آمرك
بالذهاب" بالإنجازيات
الصريحة، وتلك التي يمثلها الملفوظ "إذهب" فيطلق عليها اسم:
الإنجازيات.
ب- الإبانة بما هي معيار:
انطلاقاً من هذا التمييز، نكون قد اجتزنا مرحلة جديدة من مراحل
التفكير: فأوستين يلاحظ أن
تسمية الإنجازيات الأولية القابلة للتطبيق على الملفوظات
الواردة بصيغة الأمر، تنطبق أيضاً،
في بعض الحالات، على ملفوظات تبدو في ظاهر الأمر تقريرية، وعلى هذا، فإن الملفوظ "الثور سيهجم" هو
ملفوظ إنجازي أولي حينما يكون تحذيرّياً، وهي حالة يمكننا إيضاحها على النحو التالي:
"احذرك من أن الثور سيهجم".
هذه الإبانة القائمة على أساس شكل الفعل المتصرّف: بالشخص الأول
ضمير المتكلم) من الزمن الحاضر قد تكون متبوعة ب que= أن ، أو ب DE= حرف جر وبملفوظات لها قيمة الفعل
ACTE، هذه الإبانة إذاً ليست ممكنة
دائماً(3) ،
لكنها
تكون كذلك في أغلب الحالات،
لذا يبدو أن هناك وسيلة جيدة لتحديد مجال الإنجازية وهي
وضع قائمة كاملة بالأفعال
التي تكون على هذا الشكل أفعالاً إنجازية لا ريب فيها..
وهذا ماقام به أوستين في
محاضرتيه السادسة والسابعة.
ج- صعوبات جديدة- أو فئة مختلطة:
لكن هناك عدداً لا بأس به من الملفوظات التي يصعب تصنيفها: وعلى
الرغم من قربها من الإنجليزية، فهي تستخدم في وصف المواقف أوالمشاعر مثل:
"أنا سعيد باستقبالك" القريب من "أهلاً وسهلاً بك" مثل هذه الملفوظات تقود
المؤلف إلى الاعتراف بوجود فئة مختلطة، لا هي بالإنجازية الصرفة، ولا هي بالوضعية البحتة،
الأمر الذي يؤدي بالإنجازية إلى إضاعة حدودها.
5- التأكيدات جزء من الإنجازيات:
لكن هناك ماهو أكثر ارتباطاً، وهي حالة الملفوظات التي تنتمي إلى
نمط: "أؤكد
أنْ..." إذ أنها جميعاً تتميز بالإنجازية ومع هذا يمكننا القول
بأنها صحيحة أو خاطئة، فإذا
قيل لي: "أؤكد أن الأرض مسطحة"، يمكنني أن أجيب ب "هذا
خطأ" وجوابي لا يعني
حتماً أنني أرفض أنه أكدَّ لي ذلك: بل ماأرفضه هو كون الأرض
مسطحة، مع ذلك، و بسبب
إمكانية الإجابة ب "هذا خطأ" يمكننا رفض تصنيف "أؤكد أنّ
الأرض مسطحة" في قائمة
الإنجازيات. لكن قد يكون هذا قرار لايمكن الدفاع عنه، ونجد
في كتاب أوستين حجة يراها
المؤلف صلبة، وهي اعتبار "أؤكد أن.. " بمثابة ملفوظ
إنجازي صريح، والحجة التي
يقدمها الملفوظ التالي: "حينما أقول أن السماء كانت تمطر،
فإني لم أكن أراهن، ولا
أبرهن ولا أحذّر: بل أؤكد
واقعة"... التأكيد هنا، كما يكتب أوستين، "يقع بالفعل على نفس
المستوى: بَرهَنَ،
حذّر" إذا فللتأكيدات نفسها مكانة بين الإنجازيات.
ب- القول، القول الفاعل، أثر القول:
1- الأنواع الثلاثة لأفعال اللغة:
أ- تعاريف: لكي يعود إلى القضية من جديد، قام أوستين بطرح السؤال
التالي: بأي معنى يمكن أن يكون قول الشيء إنجازاً له تماماً؟ هنا يدخل تمييز
الأنواع الثلاثة للأفعال ACTES:
- القول في حد ذاتهِ ACTE LOCUTOIRE: فعل إنتاج الأصوات، وتركيب الكلمات في بناءٍ
يلتزم بقواعد اللغة ويحمل
دلالة معيّنة.
- القول الفاعل ACTE ILLOCUTOIRE: الفعل الذي نُنْجِزُه أثناء القول.
- الفعل التأثري غير المباشر): ACTE PERLOCUTOIRE: الأثر غير المباشر الذي نحققه بالقول .طبعاً هذان التعريفان ناقصان وعبارتا: إن قولنا و أن
نقول، هما عباراتان غامضتان كما أشار أوستين إلى ذلك في محاضرته الثانية.
ولكي يتمكن أوستين من تقديم تعريفٍ أفضل للفعل التأثيري للقول
ACTE PERLOCUTOIRE ، فقد
استعان بمفهوم القيمة أو
القوة، فحينما ننجز قولاً في حد ذاته ACTE LOCUTOIRE، فإننا بذلك وفي الوقت نفسه، ننجز من خلاله قولاً ثانياً، ذا
طبيعة أخرى من شأنه أن يقوم بالإخبار أو الاستفهام أو التحذير أو التهديد الخ...
إذاً فالفعل المنجز حين القول EN DISANT يشكّل القيمة الفاعلة للملفوظّية.
أما الفعل التأثيري للقول، فيعرّف من خلال مفهوم الأثر أو
التأثير، "فقولُ الشيء غالباً - أو أغلب الأحيان- يسببُ بعض التأثير على المشاعر والأفكار وتصرفات
المستمعين، أو على تصرف المتكلم نفسه، أو على شخص آخر أيضاً". وكأمثلة
على الأفعال التأثيرية هناك: أقنَعَ، باغتَ، أغضبَ، أقلقَ، أراحَ أوعزّى، أغوى أو
خدع.
ب- الأثر والتعرّف(4)
UPTAKE. سرعان ما يستحضر
الذهن انتقاداً، إذ لا يزال مفهوم الأثر غامضاً، وهو ينطبق من جانب
آخر على بعض أوجه الفعل التأثيري كانطباقه -مثلاً-على التعرّف من قبل المستمع
ويسمى بالإنجليزية UPTAKE) على القيمة التي يُزمع المتحدث إعطاءها لملفوظيته وهذا التعرف
UPTAKE لازم
للفعل التأثيري لكي نعتبره
منجزاً. فإذا أردتُ التحذير، ولا يسمعُ تحذيري أحدُ ولا
يأخذ قولي على أنه تحذير،
عندها أكون كمن لم يحذّر.
ولكي نميّز هذا النوع من التأثير عن ذلك الذي يُنتجهُ الفعل
التأثيري، يمكننا الإشارة إلى أنّ الثاني هو نتيجة غير مباشرة، متغيّرة وغير متوقعة
لفعل الكلام ACTE DE PAROLE. وهكذا يمكن لنتيجة الفعل ACTE الذي هو عبارة عن وَعد،أن تكون مُطْمَئنة أو
مُقلِقةَ أو هدفها بيان
النية الحسنة للمتحدث، الخ...
ج- الفعل الاتفاقي والفعل غير الاتفاقي: لكن، في نهاية المطاف،
فإن الفرق الذي يبدو أن أوستين يعتبره أساساً بين نمطي الأفعال
ACTES يكمن في أن القول الفاعل
ACTE PERLOCUTOIRE هو فعل، بينما الفعل
التأثيري ليس كذلك، وهكذا، وبفضل الاتفاقات CONVETIONS فإن القول: أُحَذِّركَ).... يعني التحذير مثلما أن أُعَمِّدُ)
يعني التعميد في بعض الظروف المواتية، نظراً لعدم وجود اتفاقات
تتعلق باستخدام الأفعال القواعدية، عزّى أوسلّى، أقلقَ، أغضبَ الخ، فلا يمكن إنجاز
الأفعال المعنية عن طريق هذه الأفعال القواعدية حين نقول أُعزيك) أو غيرها...
2- مُحصلة أو مقارنة:
أ- التعارض بين قالَ وفَعَلَ: بعد أن فكر أوستين بالطابع النسبي
لمفهومي الحقيقي والخاطئ المطبقين على الملفوظيات، توصَّل إلى النتيجة
التالية: إن معارضة التقريرات بالإنجازّيات كانت تستند إلى التعارض بين القول
DIER والفعل
FAIRE وبمقدار ما نقول:
فإننا ننفّذُ بذلك فعلاً
قولياً أي مجرد القول)، وقولاً فاعلاً في الوقت ذاته وفي
الأغلب، قولاً تأثيرياً،
ولكلِّ ملفوظيّة بُعدها المرتبط بالوقائع(5) وبالتالي فلا يمكن التمسك بالتعارض بين القول
والفعل، وفي الوقت ذاته فإن التعارض
بين التقريريات والإنجازيات، ولا يمكن أن يبدو تعارضاً جذّرياً إلاّ في مقابل تجريدٍ عن طريقه نُهمل هذا
المظهر أو ذاك من المظاهر المكوِّنة لأي ملفوظّية.
ب-آفاق جديدة:
إذا شئنا القيام بدراسةً تأخذ تعقد اللغة بعين الاعتبار. فمن
المفيد لنا التخلي عن هذا النوع من التجريد، وقد يكون مفيداً جداً استثمار ذلك المجال
الذي لم ندرسه بشكل كاف وهو مجال الفعل التأثيري.
في المحاضرة الثانية عشرة، يساهم أوستين في هذه المهمة التي
ستفرد لها البراغماتية الافعالية) من بعده مكانة واسعة.
2- تعليقات وانتقادات وتتمات:
أ- الملفوظية الانجازية(6) :
1- علامات فارقة MARQUES صريحة أم علامات اسمية؟
إذا قُبلت فكرة أن للملفوظ قوة تأثيرية، يبقى علينا بيان الاختلاف
الوارد بين اذهب) وآمرك بالذهاب). الملفوظ اذهب) يمكن أن يعبّر عن أمر، أو
رجاء، أو نصيحة.. الخ.. إنه ملفوظٌ غامضٌ من ناحية قوّته التأثيرية. أما آمرك
بالذهاب) فهو من وجهة النظر هذه، ملفوظ صريح: إذ لا يمكنه أن يكون إلاّ أمراً. والتعرف
OPTAKE هنا يوّفرهُ
الملفوظ نفسه.
هذه الفئة الثانية من الملفوظات، التي تتضمن تفسيراً لقوتها
التأثيرية على شكل فعل قواعدي(7) هي التي خصّها ريكاناتي F. RECANATI باسم الملفوظات الإنجازية. والتحديد: على شكل فعل قواعدي) له أهميتُه
هنا. فالمؤلف -في الحقيقة- يُذكِّر بوجود ملفوظات ليس فيها فعل قواعدي. وهي
ملفوظات صريحة مثلها مثل الملفوظات التي تتضمن الإنجازات كالشتائم، وهي ليست
إنجازية، لأننا لا نستطيع الشتم ونحن نُسَمّي فعل الشتم بداخل الملفوظات، في الوقت الذي
نستطيع فيه الأمر حينما نُسمي فعل الأمر. عن هذه الملاحظة تنتج فكرة أن الأفعال
القواعدية الإنجازية يمكن أن تتحد كعلامات فارقة MARQUES تسمياتّيه NOMINATIVIES، وليس كعلامات صريحة EXPLICITES للقّوة التأثيرية، والتسمية الجديدة من شأنها توضيح نوعيتها
بشكل أفضل.
2- التسمية لا تعني التدليل أو الدلالة
INDIQUER:
تقود الملاحظة إلى التساؤل عمّا إذا كانت هذه الإنجازيات، التي
تُعَدُّ غالباً مجرد مؤشرات على القوة التأثيرية، تدلُّ حقاً على الفعل الذي ننجزه
حينما نقوم بلفظه كما يدل شكل الاستفهام على أننا ننجز طَرحِ السؤال) فهل يمكن للكلمة
أن تسمي الفعل وتدل عليه في الوقت نفسه؟
3- التصدير الإنجازي LE RPEFEXE PERFORMATIF:
أ- نذكر بوجهة نظر أوستين: الفعل القواعدي الإنجازي، بالنسبة
لأوستين، لا يمثل شيئاً ولا يشكّل جزءاً من مضمون الملفوظ، فالقول أؤكد أنّ الأرض
كروية) لا يعني وصف الذات وهي بصدد التأكيد، ولا يعني إجراء تحقيق صحفي مباشر حول
مانفعله، إنه إجراء تأكيد. ومضمون الملفوظ هو الأرض كروية) و أؤكدُ) ماهو إلا مجرد تشديد
على القيمة الفاعلة التي أمنحها لملفوظي، إنها تدليل هامشيّ وثانوي.
ب- وجهة نظر جماعة بور- رويال: وجهة نظر أوستين هذه تتفق تماماً
مع التحليل الذي كان قد اقترحه كل من أرنولد ARNAULD ونيكول NICOLE في كتابهما: منطق بور- رويال، فبالنسبة إليهما" أؤكد= أدْعَمُ" في "أؤكد أن
الأرض كروية" يبدو كأنه الجملة الرئيسية كما هو حال "أنا سعيد" في "أنا سعيد
لأنك جئت"). لكن لاشيء من هذا. فالجملة الرئيسية هي "الأرض كروية".و: أؤكد"
ليست سوى جملة عارضة INCIDENTE. وهي لا تغيّر شيئاً لا من جهة المُسند ولا المُسند إليه، وهي لا تضيف
شيئاً إلى الملفوظ، اللهمَّ إلا تحديداً إضافياً "للموجِّه التقريري"
الذي تمّت الدلالة عليه عن طريق شكل الرابطة هي) est إذا قلنا فقط " الأرض [هي] كروية".
تبعاً لوجهة النظر هذه، ووجهة نظر أوستين وتلك الخاصة بجماعة بور
-رويال، فإن الفعل القواعدي الإنجازي VERBE RBPERFORMATIF عبارة عن تعلق اعتراضي PARENTHETIQUE، يُضاف إلى سلسلة الملفوظ لبيان قوته، مثلاً: "الأرض [هي]
كروية؛ هذا تأكيد. "ليس هناك فرق هام بين هذا الملفوظ وبين "أؤكد أن الأرض كروية".
في الحالة الأولى يكون التعليق لاحقاً بالملفوظ، أما الثانية فيسبقه ويرتبط به ب
que= أن. وهو يشكل مادعوناه
بالتصدير الإنجازي، لكن
النتيجة تظل نفسها، ومن جانب آخر فإن الرابط CONJONCTION بالنسبة لأوستين ليس رابط الخطاب المباشر؛ وهو ليس رابطاً
فعلياً بل كلمة تفسيرية.
ج- عيب هذا التحليل: يكمن في افتقاره للعمومية:
هذا التحليل دَحَضَهُ - ريكاناتي جُملةً وتفصيلاً، لأنه لا ينطبق
تماماً على الحالات التي يكون فيها الفعل الذي يأتي بعد الإنجازي غير مرتبط
بواسطة QUE= أن، إنما بواسطة حرف الجر DE = مثال: "آمرك بالذهاب". يبدو في الحقيقة من الصعب
اعتبار "آمرك" مجرد أداة تصدير أو جملة عارضة). إذا حركنا هذه
الكلمات لنجعل منها تعليقاً اعتراضياً يمكننا الاحتفاظ بالجزء الثاني من الملفوظ على
حاله: ولابدَّ من استبدال الذهاب) بـ"اذهب".
إحدى فرضيّات القواعد التوليدّية التحويلية(8) يسمح ظاهرياً بتجاوز الصعوبة. لكن ف. ريكاناتي يبيّن حدود هذه
الفرضية: فهي -أي الفرضيّة- لاتوضّح معنى ملفوظات مثل: اعتذر لأني دلقتُ عليك
قهوتي). والملفوظ دلقتُ عليكَ قهوتي). لا ينطوي. في أي حال من الأحوال، على قيمة
اعتذارية.
الأمر الذي يبرهن على أنه من غير الممكن أعتبار أعتذرُ) مجرد عملية
تصدير. من جانب آخر، لا ينطبق التحليل التوليدي على الإنجازّيات الوحيدة الجملة
مثل أُسَرِّحك، أو أُعفيك من عملكَ). أشكرك)، وأحييك).
تُفضي المجاججة ARGUMENATION إلى التخلي عن الفرضية القائلة بأن الفعل القواعدي الإنجازي
يدل على القوة القوليّة
الفاعلة للملفوظ. وهي قوة تندرج فيه لكنه لا يقوم بوصفها،
وتسمية الملفوظ لهذه القوّة
يعني أن يَصِفُها ويساهم بذلك في المضمون الوصفي للملفوظ، الذي لا يشكل مجرد تصدير أو هامش أوتعليق، إنما يشكل
جزءاً منه.
4- وصفٌ وتحديد:
التحديد الوحيد الذي يتضمنه الملفوظ، ومايبيّنه من ذاته، هو القوة
القولية الفاعلة التي يظهر
معها. لكن الملفوظات الإنجازية تظهر مع القوة القولية
الفاعلة للتصريح، وبالتالي
فإن السؤال المطروح بخصوصها هو: كيف تتلبس تلك الملفوظات
الإنجازية القوة القولّية
الفاعلة التي يصفها فعلُها القواعدي المُصّرف بالشخص
الأول ضمير المتكلم)، في الوقت
نفسه الذي تظهر فيه تلك الملفوظات إلى جانب القوة القولية لتصريح معين؟.. وكيف؟ حينما أصرّح آمرك بالذهاب)
يمكنني إنجاز فعل الأمر؟ ...
ب- أفعال الكلام غير المباشر والمأثورات التحادثّية:
أحد الأجوبة المقترحة ينطوي على القول بأننا إزاء العملية نفسها الموجودة
في الحالة التي حتماً نريد من خلالها رجاءَ أحدهم بمناولتك الملح، عوضاً
عن استخدام الأمر، فإنك تطرح السؤال: أيمكنك مناولتي الملح؟). لكن يفهم متلقي
القول القوة الفاعلة الحقيقية للملفوظ الثاني، عليه أن يستنتجها عن طريق المحاكمة
العقلية(9) .
وقاعدات التواصل التي تتدخل في هذا النوع من المحاكمة ليست سوى تلك
المأثورات التحادّثية
الشهيرة التي أطلقها الألسني بول غريس P, GRICE. إن حسن سير التواصل، كما يرى غريس، يتطلب التقيد احترام) بمبدأ التعاون:
وهكذا فإن المشاركين في عملية التبادل الكلامي، بشكل عام، يجمعون على هدف مشتركٍ
أو مجموعة من الأهداف) أو يتفقون على الأقل، على إنجازٍ مقبولٍ من الجميع.
من هذا المبدأ تنبثق قاعدات، وقاعدات فرعيّة يجمعها المؤلف في
أربع فئات هي: الكميّة، والنوعية، والعلاقة، والموجِّه وهنا نرى ماأخذه غريس عن
الفيلسوف كانط). (10)
في الحالة التي تهمنا هنا، أي حالة القيمة التقادميّة التي
يكتسبها الملفوظ التصريحي: آمرك بالذهاب، إذا كان هناك استثمار للمأثور التحادثي. فأيُّ
مأثور نقصد؟ وفي أيّ محاكمة عقلية يدخل هذا المأثور)؟
وتبعاً للألسني الأمريكي K, BACH، الذي يستشهد ريكاناتي به(11)
، يمكن تبيان محاكمة المستمع
العقلية على الشكل التالي:
أ) - ل يقول آمركَ بالذهاب).
ب)- يؤكد بأنه يأمرني بالذهاب.
جـ)- إذا كان تأكيده صحيحاً، فهو يأمرني بالذهاب.
د)- إذا كان) يأمرني بالذهاب، فلا بدَّ وأن ملفوظيته الحاضرة هي
التي تشكل هذا الأمر ماذا يمكن أن يكون غير هذا؟).
هـ)- زُعِمَ أنه يقول الحقيقة.
و)- إذاً، قوله "آمرك بالذهاب" يعني أنه يأمرني
بالذهاب.
بتعبير آخر إذا لم يكن عندَ المتحدث نيّةَ إنجاز فعل الأمر بشكل غير
مباشر لدى قوله إنه يأمر،
فإن جزمَهُ آمركَ بالذهاب قد يكون خاطئاً، وبالتالي فهو
ينتهك مأثور النوعية القائل:
"لا تؤكد ما تعتقده خطأ"(12)
وبما أننا نزعمُ أنه يحترم
المأثورات التحادثيّة، فإن الاستدلال الذي يفرضُ نفسه هو أنه ينجزُ، في
الوقت نفسه فعلاً مباشراً هو فعل التأكيد أو الجزم، وفعلاً غير مباشر هو الأمر،
وبالتالي فإن انتهاك المأثور ليس إلا ظاهرياً.
ج- مقترحات جديدة:
1- نقد التحليل التحادثي :
بالنسبة لريكاناتي: يكمن عيب هذا التحليل في أنه يعالج الملفوظات
الإنجازّية على أنها تأكيدات
وصفيّة CONSTAIVES أي باعتبارها ملفوظات لا تكون صحيحة
إلا إذا كان هناك، في
الواقع، حالة مستقلة عن ملفوظيتها، ترتبط بها مضامين تلك
الملفوظات.
ولا يسعنا القول، بالانتهاك الظاهري لمأثور النوعيّة فيما يخص
/آمركَ بالذهاب/ إلاّ إذا كان هذا الملفوظ صحيحاً أو خاطئاً، تماماً كالملفوظ الوصفي
CONSTATIF: القطة فوق
الحصيرة.
2- اتجاه المعنى:
إذا كان ممكناً جعلُ الإنجازيات حقيقية فلن يكون ذلك بالتوافق مع
الوقائع المستقلة عن ملفوظيتها، إنما عن طريق ملفوظيّتها نفسها: إن نية قول شيء
حقيقي التي تميّز كافة أنواع التأكيدات سواء أكانت إنجازّية أووصفية، هي في حالة
الإنجازّيات، نية أن يكون الواقع مطابقاً للملفوظ، وليس أن يكون الملفوظ مطابقاً
للواقع.
الحالة التي يمثلها الملفوظ: آمركَ بالذهاب، باعتبارها إنجازاً قام
به المتحدث، لفعلِ كلامِ
سمّاه الفعل القواعدي الإنجازي، فإن المتحدث الذي ينتج هذا
التأكيد يعبّر عن نيّته في
إنجاز هذا الفعل ACTE عن طريق ملفوظيته.
ولاستكمال هذا الشرح، هناك مبدأ قال به غريس أيضاً لابدَّ من
التذكير به يقول: "إنه
لإنجاز فعل كلامي يكفي أن تصرّح بأنك تُنْجِزُ، أي أنْ
تُعبِّرَ عن النية في أن
يكون مُنجَزاً وفقاً للملفوظية التي تعبّر عن تلك النية.
د- الخاتمة:
هذا العرض الموجز لقضية الإنجازية يكفي لبيان درجة الدقة التي
يمكن لآليات التأويل بلوغها والتي تشارك في أبسط أنواع التواصل، وهي تعطي أيضاً
فكرة عما يمكن أن تكون عليه مساهمة فلسفة اللغة في مجال اللسانيات.
(1) -وبدورنا نترجمها إلى العربية بـ: القول هو الفعل.
[المترجم].
(2) ونختصر ذلك بقولنا: الإنجازيات والتقريريات
[المترجم].
*) في المحاضرة الثانية يقول أوستين بوجرد ملفوظية خاصة لا تنجزُ ما
وعدت بإنجازه، ويسميها بالملفوظية التعيسة أو الفاشلة. وسبب هذه التعاسة أو
ذلك الفشل، في أغلب الأحيان، إلى أن الظروف ، التي يمكن أن تكون غائبة أو غير تامة ، تجعل الفعل
تعيساً أو فاشلاً: مثل
احتقار الآتفاق، وغياب النية المطلوبة، وخطأ التحديد الرسمي،
إلخ ...المترجم).
(3) خذ هذا المثال: حين التلفظ بشتيمة ما فإننا بذلك
ننجز فعلاً فعل الشتم) لكن
لا يسعنا القول "اشتمك أن..."
(4) UPTAKE هو تعرّف المستمع على القيمة التي ينوي
المتحدث تقديمها إلى أو
تضمينها لـ ملفوظيته).
(5) وهو بعدٌ، يكشف عنه، على سبيل المثال، في حالات
التأكيد والحكم، أو العتاب،
كوننا نستطيع وصفها بالترتيب: ذكي تأكيد ذكي) أو معقول
عتاب معقول)، أو مُبَّرر
عتاب مبرر).
(6) عنوان كتاب ف. ريكاناتي، منشورات مينوي، 1981، ومنه
استقينا التعليقات اللاحقة.
(7) الفعل القواعدي، هو ترجمة لـ VERBE وذلك لتمييزه عن فعل اللغة ACTE DE LANGAGE وعن ACTION = فعل مادي [المترجم]).
(8) وفقاً لهذه الفرضية، قد يكون للبنية العميقة للملفوظ
الإنجازي، شكل جملتين
متراتبتين، جملة ثانوية و"ملفوظ إنجازي أولى". وهناك عدة
تحولات من شأنها تفسير إما
امحاء الجملة المحددة للقيمة الإنجازية أو مختلف أشكال
ربط بنى السطح.
(9) أو على الأقل يمكنه استنتاجها لو كان تقديم الالتماس
أو الرجاء) على شكل سؤال لم
يتحول إلى اتفاق يشكل جزءاً من مدونة الفضول عندنا، في
هذه الحالة، قد تكتسي
المحاكمة العقلية الشكل التالي:"من يتحدث إلي يسألتي عما إذا
كانت لدي إمكانية مناولته
الملح. لكنه يرى جيداً أن الملح يقع في متناول يدي كما
يعرف بأني لا أشكو من عاهة
تمنعني من القيام بذلك وأنه لا أخلاقي، ولا أي شيء آخر
يمنعني من القيام بهذا الفعل
وبالتالي فإن السؤال في الوقت الذي نعرف فيه الجواب،
يعني الكلام من أجل لاشيء،
وهذا أمر مغاير لقواعد الاتصال. ولأن لا شيء يسمح لي
بالظن بأنه لا يحترم تلك
القواعد، عليَّ أن أفترض أنه، بسؤاله لي مع علمه، فهو
يريد، في الواقع، ليس سؤالي
بل أن أقوم بإنجاز فعل آخر وتظهر الحالة كما لوكانت حالة رجاء بوجهه إلي لكي أناوله الملح".
(10) هذه القاعدات عرضها غريس وعلق عليها في مقالة
"المنطق والمحادثة" التي
يمكننا قراءة ترجمتها في العدد 30 من مجلة COMMUNICATIONS منشورات سوّي 1979 ص 72-56 و "مأثورات" غريس تقترب
إلى حد ما من "قوانين الخطاب"، عند أوزوالد ديكرو التي سنقدم لاحقاً عينة عنها. نشير أن
بعضهم شكك بصلاحية هذه القواعد انظر مقالة بـ. غرونيغ: مطبات وأوهام البراغماتية
الألسنية في مجلة MODELES LINGUISTIQUES، ج1 ملزمة 2، 1979 ص 7-68). ودون أن يصل الأمر بنا إلى هذا
الحد يمكننا اعتبار أن طابعها الجاف يستدعي التخفيف ومن ثم
استكمالها. مرجع مذكور سابقاً، ص 257.
(11) مرجع مذكور سابقاً، ص 257.
(12) غريس: مرجع مذكور، ص 61. أي تصف الحالة -بعكس
الإنجازيات- أو تؤكد دون
وصف) دون أن يكون لها أي فعل أو أثر [المترجم].