قضية الترادف
(*)
النظرية والتطبيق
أ.عبدالرحمن بن حسن
المحسني
تقديم
:
حينما
كنت أبحث عن الفروق اللغوية بين كلمات الهم ، والغم ، والحزن
في كتب الفروق اللغوية ، تذكرت قضية قديمة حديثة وربما أذكرنيها قراءتي عن الكلمات
الثلاث السابقة .
وتلكم
القضية هي قضية الترادف في اللغة وهي من الحيوية والحداثة بمكان ،
في ظل توسع اللغة الدائم ، الذي يجعل المهتم بأمر اللغة وتطور دلالتها ، على مفترق
طريقين ممتدين منذ عصور سلفت .
وأحاول من خلال هذا البحث أن أطل على رأيين من
آراء علمائنا الأجلاء حول الترادف وحقيقته محاولاً أن أصل بالقارئ إلى رأي أحسبه راجحاً .
والبحث حول الترادف مشكل ،
وقد وجدت القضية أوسع مما كنت أقرر لها ، فهي مبسوطة في كتب أرباب اللغة ، الذين
أولوا هذا المحور جل اهتمامهم ، وصدروا بها أوائل كتبهم ، وجذورها تمتد إلى أغوار
الزمن الأول الذي نشأت فيه هذه اللغة ؛ وهي بين قائل بالتوقيف أو الاصطلاح ـ وهو
بحث ظني على كل حال ـ .
أعود
لأقول إن قضية الترادف ؛ وجوده أو عدمه قد شغلـت كثيراً
من اللغويين ، وأفرد لها الإمام السيوطي في كتابه المزهر صفحات ذات عدد ، كما
أولاها الكثير من اللغويين اهتمامهم ذلك أنها تتصل بأصل لغتنا .
وفي
معجمنا اللغوي الكبير كثير من المترادفات ؛ ترى هل هي
مترادفات ومسميات لمعنىً واحد ، اقتضاها تنوع القبائل والأمصار وظروف أخرى ؟! أو
أنه لا يوجد في الحق ترادف أصلا وأن العسل هو الاسم ،
وتسعة وسبعين اسما أخرى أحصاها الفيروزآبادي ما هي إلا أوصاف لها دلالات تختلف كل
دلالة عن الأخرى.
هذا ما يحاول هذا البحث الكشف عنه ..
أولاً : الترادف في كتب اللغة
:
بادئ ذي بدء أقول إن جذر هذه القضية يعود إلى
أصل نشأة اللغة ، ومعلوم أن علماء اللغة على اختلاف واسع
ومبسوط في كتب اللغة ، ويكاد الرأي الأخير يتشعب إلى رأيين أحدهما يرى التوقيف في
أصل نشأة اللغة ، وأن الله علّم آدم الأسماء كلها ، ورأي آخر يرى أن اللغة قائمة
في أصلها على الاصطلاح والتواضع .. وتبعاً لهذين الرأيين انقسم علماء اللغة إلى
قسمين في قضية الترادف :
أ
ـ إنكار الترادف :
يقول
أصحابه: بأن الشارع حكيم ، ومن العبث أن يأتي الترادف
إلا ولكل كلمة دلالة، فإذا سلمنا بتلك الدلالات المتعددة فلا ترادف بل إن أبا هلال
العسكري قد أنكر حتى المشترك اللفظي ، وأن يكون فعل ، وأفعل بمعنى واحد ، بل إن
أصحاب هذا الرأي ومنهم أبو هلال العسكري يقولون بعدم تعاقب حروف الجر ، وعللوا ذلك
بأنه يوقع في الإشكال واللبس على المخاطب ، وليس من الحكمة ، وضع الأدلة المشكلة ..
وقال المحققون، لا يجوز أن تختلف الحركتان في الكلمتين ومعناهما واحد ، ثم يقول : وإذا كان اختلاف الحركات يوجب اختلاف المعاني
، فاختلاف المعاني أنفسها أولى أن يكون كذلك ، ولهذا المعنى قال المحققون من أهل
العربية : إن حروف الجر لا تتعاقب )) (1) .
ويقول
ابن درستويه (2) : في جواز تعاقب حروف الجر إبطال لحقيقة
اللغة ، وإفساد الحكمة فيها ، والقول بخلاف ما يوجبه العقل والقياس ، ويسحب أبو
هلال العسكري المبرّد إلى القائلين بإنكار الترادف وينقل عنه قوله : (( .. قولنا اللب ، وإن كان هو العقل فإنه يفيد خلاف ما يفيده العقل ،
وكذلك المؤمن ، ومستحق الثواب، لكل منهما معنى زائدة )) (3) .
ويفرق
المبرّد بين قولي أبصرته ، وبصرت به على اجتماعهما في
فائدة شبه متساوية إلاّ أن أبصرت به معناه أنك صرت به بصيرا بموضعه ، وفعلت أي
انتقلت إلى هذه الحال ، وأما أبصرته فقد يجوز أن يكون مرة وأن يكون لأكثر من ذلك ،
وكذلك أدخلته ودخلت به ، فإذا قلت أدخلته جاز أن تدخله وأنت معه ، وجاز ألا تكون
معه ، ودخلت به إخبار بأن الدخول لك وهو معك ، وبسببك )) (4) .
وممن
أنكر الترادف ابن فارس ت 395هـ وقد بسط رأيه (5) الذي لا يبعد في استدلاله عن آراء
ابن درستويه ومعاصره أبي هلال العسكري ، وهو رأي لابن
الأنباري ـ صاحب الأضداد يقول ابن الأنباري [ يذهب ابن الأعرابي إلى أن مكة سميت
بذلك لجذب الناس إليها ] ثم يقول بعد كلام طويل عن علة بعض التسميات لبعض البلدان
ـ فإن قال رجل : لأي علة سمى الرجل رجلا ، والمرأة امرأة قلنا : لعلة علمتها العرب
، وجهلناها ، فلم تزل عن العرب حكمة العلم بما لحقنا من غموض العلة وصعوبة
الاستخراج علينا ..)) (6) .
ويعلل
قطرب تكرار العرب للفظتين على المعنى الواحد بعلة أن ذلك يدل على اتساعهم في
كلامهم كما زاحفـوا في أجزاء الشعر ، ليدلوا على أن
الكلام واسع عندهم .. )) (7) .
وباستعراض
الآراء السابقة نجد أن أصحابها ينكرون وجود الترادف ،
ويمكن أن نستنبط عللهم ونجملها في النقاط التالية :
أولاً : إن الشارع حكيم ، وإذا سلمنا بالترادف ، وقعنا
في عبثية لفظية ، ينـزه الشارع عنها ، ورأيهم هذا ينطلق من قولهم بتوقيفية اللغة
كما أسلفنا .
ثانياً : إن لكل كلمة دلالة تدور في محيطها ، وما لم
نعلم علته ، فهو معلوم في العربية ، وإن جهلناه .
ثالثاً : إذا قلنا بإنكار الترادف ، فهذا يدفعنا إلى
بحث العلل وفي هذا ما يدل على سعة الكلام عند العرب.
ب
ـ إثبات الترادف :
أما الرأي الآخر ،
فيثبت الترادف ، ويرى أن هناك كلمات مترادفة ، تؤدي معنىً واحداً تاماً ، لم تأت
في العربية عبثاً ، وإنما جاءت لأغراض ومقاصد ، ويستدلون على صواب رأيهم بأدلة
عقلية وخرجوا الآية الكريمة مخارج تدعم أو
تسالم رأيهم ، وحديثهم في إثبات الترادف قائم من منطلق أن اللغة اصطلاحية حتى صرح
بذلك السيوطي في المزهر بقوله (8) : (( وهذا مبني
على كون اللغات اصطلاحية )) ولعل من
أبرز القائلين به الآمدي صاحب الإحكام في أصول الأحكام إذ نص على ذلك ، واتهم
أصحاب الرأي السابق وسرد أدلة عقلية على وقوعه (( ذهب شذوذ
من الناس إلى امتناع وقوع الترادف في اللغة ، وجوابه أن يقال : لا سبيل إلى إنكار
الجواز العقلي ، فإنه لا يمتنع أن يقع أحد اللفظين على مسمى واحد ثم يتفق الكل
عليه ، وأن تضع إحدى القبيلتين أحد الاسمين على مسمىً ، وتضع الأخرى له اسماً آخر
، من غير شعور كل قبيلة بوضع الأخرى ثم يشيع الوضعان بعد ذلك . ثم يُدلل الآمدي
على إمكانيـة وقوع
ذلك بقوله : (( ثم الدليل على وقوع
الترادف في اللغة ما نقل عن العرب من قولهم : الصهلـب ، والشوذب من أسماء الطويـل
، والبهتر ، والبحتر من أسماء القصير )) (9) .
ويؤيد
هذا الرأي القائل بالترادف مجموعة من علماء اللغة لعل من أبرزهم ابن خالويه ، وهو الذي أثبت للسيف أسماءً كثيرة مترادفة (10) ومنهم
أبو بكر الزبيدي والرماني ، وابن جني ، وقد أفرد له باباً في خصائصه ومنهم
الباقلاني ، وابن سيده والفيروز آبادي الذي ذكرت سالفاً أنه أثبت للعسل ثمانين
اسماً (11) .
والسيوطي
ممن يثبتون وجود الترادف في اللغة ، ويعلل ذلك ، ذاكراً
فوائد الترادف : وأبرز علله ما يأتي (12) :
أولاً : أن تكثر الوسائل ، والطرق ، إلى الإخبار عما
في النفس ، فربما نسى أحد اللفظين ، أو عام عليه النطق به ، وقد كان بعض الأذكياء
ـ ويقصد به واصل ابن عطاء (13) ألثغ ، فلم يحفظ عنه أنه نطق بحرف الراء ، ولولا
المترادفات تعينه على قصده لما قدر على ذلك .
ثانياً : التوسع في سلوك طرق الفصاحة ، لأن اللفظ
الواحد قد يتأتى باستعماله مع لفظ آخر السجع ، والقافية والتجنيس .
ثالثاً : ذهب بعض الناس إلى أن الترادف على خلاف الأصل
، والأصل هو التباين ، وبه كما يقول الإمام السيوطي ـ جزم البيضاوي في منهاجه .
رابعاً : قد يكون أحد المترادفين أجلى في تعبيره من
الآخر ، وقد ينعكس الحال بالنسبة لقوم آخرين .
خامساً:
أورد السيوطي تقسيماً لعالم اسمه " ألكيا " وهو اسم غريب وتقسيم كما
يقول السيوطي غريب ؛ يقول : تنقسم الألفاظ إلى متوارد
كما تسمى الخمر عقارا ، وصهباء ، وقهوة ، والمترادفة مثل صلح الفاسد ، ولم الشعث .
سادساً:
أثبت السيوطي المترادف بنماج لمن استقصوا أو حاولوا استقصاء أسماء العسل ، والسيف ، وكأنه بذكره لهذه الأسماء ، يرى أن القائلين
بإنكار الترادف يتمحلون في وضع العلل .
ثانياً : التطبيق :
حينما
ننظر لكلمات مثل (الهمم ، والغم ، والحزن) ، نجد أن جذر
المعنى الذي تجتمع عليه الكلمات الثلاث هو ما يعتري النفس من كدر ، وعدم رضى ، مع
تفاوت وتمايز في دلالة كل كلمة منها .
وأبدأ
بكلمة الحزن التي تتخذ في معاجم اللغة دلالات ، ويفسره
صاحب المعجم الوسيط بمرادفه وهو اُغتم (14) ، وابن فارس في مقياسه اللغوي (15)
تجاوز تعريفه للحزن وقال هو معروف ؛ يُقال أحزنني الشيء يحزنني ، وحزانتك أهلك ومن
تحزن عليهم ، ووجدت الشريف الجرجاني (16) يعرف الحزن ، ويربطه بالماضي : (( عبارة عما
يحصل لوقوع مكروه ، أو فوات محبوب في الماضي .. )) .
والواقع
أننا حينما نبحث عن مترادفات الحزن نجدها متعددة ،
وكلمات عدة تؤدي المعنى الذي ذكرته آنفاً فعند علماء اللغة تقول: (( غمني ،
أحزنني وشجاني ، وشجنني ، وأشجنني ، وعزّ عليّ ، وشق عليّ ، وعظم عليّ ، واشتد
عليّ )) ويُقال : (( ورد فلان
خبر ، فحزن له واغتم ، وأسـى ، وشجى ، وشجن ، وترح ، ووجد ونكد ، وكئب ، واكتأب ،
واستاء ، وابتأس ، وجزع وأسف ، لهف ، والتهف ، والتاع ، والتعــج ، وارتمض ... )) (17) . وهي كلمات كما ترى
تحمل كل واحدة منها دلالة ، لا يمكن في تصوري أن تلتقي
كلمتين منها التقاءً تاماً فلكل واحدة منها ظلالاً معينة وبما أننا قد اخترنا ،
الثلاث كلمات السابقة ، فلنتابع الحديث عنها .
فالغم
كما يقول ابن فارس (( الغين والميم أصل
واحد صحيح يدل على تغطية ، وإطباق ، ويُقال : غمه الأمر
يغمه غماً . وهو شيء يغشى القلب .. )) (18) وفي
الوسيط يدور حول التغطية .. (19) وهي دلالة كما فهمت
أعمق إذ أن الهم يتغشى الفؤاد ، ويضيق الخناق على
المغموم ، وكأنه قد غطاه تماماً فلا يستطيع أن يتنفس ، وبخلاف الحزن ، فهو مرحلة
متقدمة ماضية ، قد انجلى الضيق ولم يبق منه إلا بقايا من الحزن . ((وقالوا
الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن)) .
وبرغم
أن ابن فارس ممن يقولون بإنكار الترادف ، فهو يفسر لنا
الكلمة بمرادفها فهو يعرف الهم بأنه الحزن ويقول (( الهاء
والميم أصل صحيح يدل على ذوب وجريان وما أشبه ذلك
ومنه قول العرب : همني الشيء ، أذابني والهم الذي هو الحزن عندنا من هذا
القياس ، لأنه كأنه لثلاثة يهم ، أي يذيب )) (20) .
ومن
تتبع دلالات الكلمات الثلاث تستطيع أن نخرج بفائدة تنوع دلالاتها
، ولعل وضوحها هو الذي دفع بابن فارس إلى تجاوز توضيح الفروق بينها ، وهو
الذي جعل لغوياً مثل الثعالبي وأبي هلال العسكري لا يوضحون الفرق بينها (21) وربما
كان الأمر على خلاف ما فهمت ، والذي يتراءى لي ـ وهو رأي شخصي قابل للنقض ـ أن الترادف
غير ممكن في العربية ، وأن القول بوجوده يتعارض مع عظمة العربية ، واتساع قاموسها
، ولو سلمنا للقائلين بالترادف لسفهنا بطريقة أو بأخرى علماء اللغة ، الذين جمعوا
اللغة من مضانها، ومن أفواه العرب ووقعنا في عبثية لفظية ، تنـزه اللغة العربية
عنها ، وأمرٌ آخر يدعم القول بإنكار الترادف، وهــو النماذج التي أوردت في ثنايا
البحث ، فإن في كل كلمة ذكرت آنفاً دلالة ، وإيحاء ، حتى على افتراض توحد منطلقها
المعنوي .
وبعد .. فلا أزعم أنني ألممت
بأطراف البحث في هذه القضية ، التي شغلت الباحثين في
مجال اللغة حتى من علماء اليونان ، وعلماء اللغة السنسكريتية القديمة ، وحسبي أني
أطللت بالقارئ الكريم على أبعاد هذه القضية ، التي تتخذ أهميتها من ارتباطها
بقاموسنا اللغوي الكبير الذي نعتز به .. والحمد لله أولاً
وآخراً .
(*) نشر هذا البحث
بمجلة بيادر بموقع نادي أبها:
http://www.adabiabha.com/biader/4.htm
(1) الفروق اللغوية / أبو هلال العسكري / ص12 ، 13 ، ط مكتبة القدس 1353هـ ، القاهرة .
(2) المرجع السابق ص13 .
(3) المرجع السابق ص14 .
(4) المرجع نفسه .
(5) الصاحبي في فقه الله / أحمد بن فارس ص 65
طبعة القاهرة /1328هـ .
(6) المزهر / السيوطي جـ1 ص400
.
(7) المرجع نفسه .
(8) المرجع نفسه ، جـ1 ص
406 .
(9) النص في المزهر ،
1/406 ، وكتاب الترادف للزيادي ، ط وزارة الثقافة 1980م .
(10) المزهر ، 1/406 ..
" بسط لأسماء السيف " .
(11) الترادف ، حاكم
الزيادي ، ص220 .
(12) المزهر ، 1/406 .
(13) تجد قصته في البيان والتبيين
، جـ1 ، ص10 ، ط دار الكتب العلمية ، لبنان ، بدون تاريخ .
(14) المعجم الوسيط ،
مجمع اللغة بالقاهرة ، جـ1 ص177 ، ط3 ، دار عمران .
(15) مقاييس اللغة ، ابن
فارس، تح عبدالسلام هارون، جـ1 ص54 ، ط1 1366 القاهرة .
(16) التعريفات ، علي
محمد الجرجاني ، مخطوط ، ص59 ، بدون تاريخ ولم أجد مكان الطبع .
(17) انظر نجعـة الرائد في المترادف والوارد ، إبراهيم اليازجي ، ط لبنان ط2 ، 1970 ، جـ1 ، ص199 .
(18) مقاييس اللغة ،
4/376 .
(19) المعجم الوسيط :
2/685 .
(20) مقاييس اللغة : جـ6
/13 .
(21) لم أجد في فقه اللغة للثعالبي
، وفي الفروق لأبي هلال إشارة إلى الفرق بينها .