ولد صاحب السمو الشيخ راشد بن حميد النعيمي ( رحمه الله ) قبل بداية
القرن الماضي بسنوات قلائل بإمارة عجمان ،
وكانت
حينها تلك الإمارة الهادئة الواقعة على ساحل الخليج العربي لا تختلف عن
باقي إمارات الساحل ولا بعيدة عن الأحداث التي مرت بها، فقد كانت الإمارة
في تلك الأثناء قد وقَّعت على معاهدة السلام العام مع بريطانيا سنة 1820
م بواسطة الشيخ راشد بن حميد الذي خلفه ابنه الشيخ حميد بن راشد عام 1838
م الذي لبث في الحكم حتى سنة 1841 م ليتولى الحكم أخوه الشيخ عبدالعزيز
بن راشد الذي بقى في الحكم سبع سنوات وخلفه أخوه الحاكم السابق الشيخ
حميد بن راشد عام 1848 م، واستمر يحكم الإمارة إحدى وعشرين سنة، وبعد أن
توفي تولى ابنه الشيخ راشد بن حميد حكم الإمارة حتى عام 1891 م، وخلفه
الشيخ حميد بن راشد حتى عام 1900 م، حين استطاع عمه الشيخ عبدالعزيز بن
حميد أن يتولى الحكم بدلاً عنه ثماني سنوات، وخلفه عام 1908 م الشيخ حميد
بن عبدالعزيز واستمر في الحكم عشرين سنة .
كان الشيخ راشد الفتى يتابع عن كثب أخبار القبيلة والإمارة
وتثيره قصص الصحراء ومغامرات التجارة إذ ليس في تلك الحياة ما يعطي
بديلاً عن الواقع القائم بكل تفاصيله، ويقول (رحمه الله): " كنت وحيد أبي
، وكان أبي وحيد جديّ ، وكُنا نعيش هنا في عجمان، فنحن النُّعيم قبيلة ،
ولسنا أسرة حاكمة، وكان التعليم على أيامنا نادراً، وعلى يد شيوخ يحفظون
القرآن وتعاليم الكتاب والسنة .. ولم نكن أهل بحر، بل عرب بدو، لنا في
البر والخيل والركاب، وليس لنا في الصيد والسفن، حقاًًّ كانت لجدي محمل ،
عليها بحاره وسيوفه وغيص ولكنها كانت توكل لهذا النوخذة أو ذلك من مشاهير
النواخذة في المنطقة مثل حميد وبن عميرة .." .
لم تكن الحياة على أيام الشيخ راشد بن حميد النعيمي سهلة بل إن
كل ما فيها يوحي بالجدّ والقسوة متأثرة بطبيعة المكان وبأحداث الزمان
التي إما هي حالة حرب أو فتة صلح وفي كلا الأمرين كانت القبيلة تغرس في
أبنائها قيم العروبة والمروءة والشهامة والشجاعة والإقدام .. ومن غير شك
أن بيئة كهذه صقلت شخصية الشاب راشد وهيأت نفسه لتحمل الصعاب وفتحت
مداركه ووسعت آفاقه ليتابع مجريات الأحداث عن كثب ويؤثر فيها، فالفروسية
والإقدام صارتا صفتيه وعنوانه عند شباب القبيلة ، يقول : " كان ظهور بيرق
النعيم الأبيض يهزني هزّاً ، وكانت سيوف النعيـم
مشهورة بسرعة الحسم والاختراق والبتر .. إنها فورة الشباب ، وأيام الشباب
، أيام كان فيها الهدوء علينا حراقاً والعرق كالدم يجري في وجوهنا ووجه
الأرض ".
نظرة الشيخ راشد للحياة والناس والسلم والحرب بدأت تتبلور بوعي
مدرك لحقائق الأشياء وفلسفة الأمور وبحسًّ ناقد ينشد الأفضل ويُغلب
الحكمة ويطمح إلى الاستقرار والوحدة، وأثبت الشيخ راشد بعد ذلك أن الطباع
الأصيلة هي التي تطبع واقعها بسجايا الخير والحكمة وتؤثر في محيطها أكثر
مما تتأثر به .
كان عام 1928 م منعطفاً جديداً في حياة الشيخ راشد بن حميد بل في
تاريخ إمارة عجمان قبل ذلك ، التي بدأت تعرف الاستقرار وتحث خطايا باتجاه
التنمية في ظل ما أُتيح لها من إمكانيات قليلة ، وقد أشارت الوثائق
البريطانية إلى ذلك في تقرير للمقيم البريطاني يقول فيه : خَلَف الشيخ
راشد بن حميد والده في الحكم سلمياً في العام 1928 م .. وأنه ينتمي إلى
قبيلة النعيم ، وهو يحافظ على الأمن في أراضيه ولم تحصل أي حادثة جديرة
بالذكر طوال الفترة ، ويضيف . التقرير . أنه بدأ بإصدار جوازات السفر
الخاصة به فأصبح الحاكم الأول الذي يصدرها في الإمارات، وقد حقق أرباحاً
كثيرة عن طريق إصدارها .
ومن المؤكد أن بريطانيا كانت تهتم بتحركات الشيخ راشد بن حميد
وبإمارة عجمان التي كانت مطلقة الولاء لحاكمها الذي استطاع أن يوفر الأمن
والحماية لرعيته ويجنب إمارته الاضطرابات محافظاً على كيانها ووحدتها
وحدودها وثروتها، وتذكر الوثائق البريطانية أن الشيخ راشد اعترض عام 1953
م فريق تنقيب لشركة نفط تعمل غرب الذيد في أرضٍ يعتبرها تحت حمايته ،
والمساس بالأرض في مفهوم سموه الذي توارثه هو مساس بالعرض ومقدسات الأمة
، وقد قال في إبراز هذه القيمة الأصلية مقولة سارت بين الأجيال حكمة
عربية صفة : " ليس عربياً من يصبر على الضيم، وليس عربياً من يجبن أو
يتردد إذا دعا داعي الموت " ، وهي القاعدة التي بنى عليها سموه مواقفه من
القضايا العربية التي تتطلب الحسم وسرعة الرد .
كان الحس العربي متقداًّ في نفس صاحب السمو الشيخ راشد بن حميد
النعيمي ويُنبئ عن عمق إنتمائه إلى كيان الأمة العربية، فقد وافق سموه
على مشروعات التنمية الاقتصادية التي خصصّتها جامعة الدول العربية من
خلال الصندوق الذي أنشأته الجامعة في اجتماع رؤساء الحكومات العربية في
يناير عام 1965 م للنهوض بإمارات الساحل على الرغم من الضغوطات التي
مارستها بريطانيا على أصحاب السمو حكام الإمارات وإلزامهم بعدم التعامل
مع الجامعة العربية ، وأنشأت مقابل هذا " صندوق تطوير الإمارات المتصالحة
" لسّد الباب أمام أي مساعدات عربية تضع لجامعة الدول العربية موطئ قدم
في هذه الإمارات .
ويذكر الدكتور سيد نوفل الأمين العام المساعد لجامعة الدول
العربية في ذلك الوقت تفاصيل لقائه مع صاحب السمو الشيخ راشد بن حميد
وولي عهده حميد بن راشد وقبول سموه إرسال كتاب إلى جامعة الدول العربية
يعرب فيها عن شكره لها وقبوله مشروعها وهذا نصها :
سيادة الأمين العام لجامعة الدول العربية
تحية أخوية صادقة ، وبعد
فتأكيداً للحديث الذي دار بيننا اليوم مع الأخ الدكتور سيد نوفل الأمين
العام المساعد للجامعة ، أودّ أن أعرب عن شكرنا للجامعة على ما وضعته من
مشروعات للتنمية الاقتصادية وأن أُبدي الترحيب بالبدء الفوري في تنفيذها
.
" هذا وفي الختام تفضلوا بقبول فائق الاحترام "
أخوكم المخلص
( راشد بن
حميد النعيمي )
حاكم عجمان وملحقاتها
لم
يَدخر صاحب السمو الشيخ راشد بن حميد النعيمي جهداً ولا مالاً لتسخيره في
كل ما من شأنه أن يعطي دفعاً قوياً للنهوض بالإمارة وأبنائها ، وركز سموه
إهتمامه في بداية المسيرة المباركة التي شهدتها عجمان على التعليم الذي
اعتبره العمود الفقري لأي عمل جادٍ ومثمر ، فأعطى للتعليم شكله النظامي
عام 1958
م بعد أن كان يقتصر على التطوعية والطرق التقليدية ، وانتشرت المدارس
التعليمية ف مختلف أنحاء الإمارة بصورة عكست شغف الأهالي بالتعليم وترغيب
الدوائر المحلية لهم وتشجيعهم على ذلك ، ففي سنة 1972 م وصل عدد الطلاب
في عاصمة الإمارة (عجمان ) وحدها إلى 1700 طالب وطالبة موزعين على مختلف
الأطوار التعليمية من الابتدائي وحتى الثانوي ، هذا فضلاً عن المدارس
الأخرى الموجودة في مصفوت والمنامة .
اهتمام صاحب السمو الشيخ راشد بن حميد بالثقافة
الإسلامية وإجلاله للعلماء جعله ينُشئ "المعهد العلمي الإسلامي " الذي
شكل حلقة وصل بين الأجيال وتواصلاً حضارياً مفتوحاً على شتىّ أصناف
المعرفة، ومنهجُ الدراسة فيه يجمع بين العلوم الشرعية الأساسية والعلوم
المدنية الأخرى، مما يؤهل طلابه للالتحاق بمختلف أنواع الكليات ، ويشرف
على التدريس فيه نخبة من العلماء والمربين .
ولعبت دائرة البلدية التي أُنشئت بأوامر من سموه
في وقت مبكر دوراً هاماً في القيام بمسؤولية تقديم الخدمات للمواطنين
وشقّ الطرقات ، وإنشاء وتنظيم الحرف والصناعات والإشراف على تنفيذ
المشروعات والمخططات الإنمائية والعمرانية ، وهو ما جعل الإمارة تتمتع
بتنظيم دقيق ومحكم .
أما دائرة الشرطة فقد أُنشأت في عام 1967 م وقسمت
إلى عدة أقسام أهمها: قسم التحقيقات والمباحث الجنائية وقسم المرور
واضطلعت بدورها في حفظ الأمن وتقديم الخدمات الاجتماعية للمواطنين .
لقد امتدت المشروعات في الإمارة لتشمل مختلف
القطاعات الصحية منها والقضائية والزراعية وغيرها ، ولتقريب الصورة من
واقع إمارة عجمان في السنوات الأولى للاتحاد نُورد ما ذكره (كتاب دولة
الإمارات) الصادر في عام 1974 م بمناسبة الذكرى الثالثة لتأسيس الاتحاد
قائلاً : "وفي الإمارة (إي عجمان) مدارس عديدة للبنين والبنات لجميع
المراحل ، ومعهد علمي إسلامي ، وقضاء شرعي وقضاء مدني، والعلاج فيها
بالمجان ، والمياه تصل إلى بيوت الأهالي نقية مكررة عبر خط من الأنابيب،
والكهرباء تسد حاجة الإمارة، وإقبال المواطنين على الصناعات يلقى
اهتماماً من سمو الحاكم الذي شجع إنشاء شركة الأسماك العالمية المحدودة ،
وهي فوق كل هذا تتمتع بشواطئ بيضاء ناعمة ومياه صافية، وطيور مائية
جميلة، وقلاع وأبراج ومدافع قديمة تحكي قصة الأيام الماضية " .
لقد عمل صاحب السمو الشيخ راشد بن حميد النعيمي
بتفان وإخلاص كبيرين شاداً على يد أخيه صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان
آل نهيان رئيس الدول وإخوانه حكام الإمارات من أجل وضع أسس الاتحاد
وإقامة دولة قوية تجتمع تحت لوائها ورايتها كل الإمارات، وكان هذا ينبع
من إيمانه العميق بالمصير الواحد والمصلحة المشتركة ، وسبق أن عبّر عن
ذلك سموه أيضاً بقوله : " وفاؤنا المطلق لأرض الوطن وتراث الآباء
والأجداد يفرض علينا هذا الموقف الاتحادي وإدراك المسؤولية التاريخية
لمواصلة مسيرة الاتحاد " .
لقد قامت إمارة عجمان بدور هام لإنجاح الاتحاد
الذي ينعم به شعب دولة الإمارات الآن ويجني ثماره بفضل المواقف الوطنية
المخلصة التي وقفها صاحب السمو الشيخ راشد بن حميد النعيمي حاكم الإمارة
وصاحب السمو الشيخ حميد بن راشد النعيمي ولي العهد ونائب الحاكم في ذلك
الوقت .
وبعد سنوات عشر قضتها إمارة عجمان في ظل مسيرة
الاتحاد المباركة استفاقت ذات يوم صباح يوم الأحد الموافق 6 سبتمبر 1981
على فاجعة فقدان صاحب السمو الشيخ راشد بن حميد النعيمي على إثرٍ مرض
عضال استمر معه فترة من الزمن ، فانتقل إلى رحاب ربّه بعد حياة مُضمَّخة
بطّيب الأثر ومعطرة برائحة الكفاح وروح البطولة والنخوة العربية، تاركاً
بصماته في كل شبر من ثرى عجمان الذي رَواه بجهده وجهاده في سبيل قي شعبه
وازدهاره ، وقد رثاه الجميع رئيساً وقيادة وشعباً.
وجاءت الوفود من البلاد العربية والإسلامية تشارك العزاء
في فقيد الإمارات الكبير .
... الرجوع ...